ديدوش مراد؛ شارع من السماء (1-2)

مهند طلال الاخرس
palastine_yasser@yahoo.com

2020 / 2 / 20

# ديدوش مراد؛ شارع من السماء (1-2)
تُعتبر كنيسة "القلب المُقدس" المبنية من قبل المهندس الفرنسي لو كوربيزييه بين اعوام 1958-1962، في أعلى شارع ديدوش مراد من اهم الكنائس في العاصمة الجزائرية، لكني لم أراها جميلة؛ رايت الجمال فيمن ينظرون اليها ويسيرون حولها، هذه الكنيسة "القلب المقدّس" تتميز بشكلها الذي يُشبه مِدخنة كبيرة ومعمارها الوظيفي، لكنها لا تتمتع برؤية خارجية خلاّبة مثل "السّيدة الافريقية"، المطلّة على غرب وسط المدينة، وحي باب الواد المشهور ولهذه الكنيسة حكاية ورواية سنقصها في مقام اخر لكن من المفيد مبدئيا ان نقول عنها : يخسر كثيرا كل من وطأت اقدامه ارض الجزائر ولم يزر كنيسة السيدة الافريقية .

ميزة هذه الكنيسة "القلب المقدس" انك تستطيع ان تضعها علامة او اشارة على النقطة التي تبدأ تجوالك في شارع ديدوش مراد من عندها. هذا الشارع النازل من عند الكنيسة أصبح واحداً من أهم الشوارع التجارية والحيوية في المدينة. جلّ المحالٰ في الشارع تبيع منتجات وألبسة، أو تقدّم خدمات لطبقات معيّنة من المجتمع، لكن والاهم من ذلك كله ان هذا الشارع اصبح جزءا من تاريخ الجزائر وكذلك من حاضرها.

عبر مسافة طويلة وازمة خانقة حانقة في النهار يمتد شارع ديدوش مراد كما يمتد خيط الكحل في العين، وحده الجمال في ذلك الشارع الحيوي يمتص غضبك ويعيدك سيرتك الاولى، الجمال في ذلك الشارع متعدد المواهب كثير النغمات، سيحتاج كل من يسير في ذلك الشارع الى كاميرا ليوثق تلك الخطوات وليصور تلك المناظر، وستزداد تلك الخطوات القا وعبقا اذا ترجلت للمسير في ذلك الشارع، سيسرقك الوقت، ستتباطىء خطواتك وتتسع حدقاتك وتطول انفاسك، ستستمع اكثر ان رافقك في تلك الجولة اصحاب معرفة ودراية بهذا الشارع وتاريخه.

في هذا الشارع جمال لا ينقطع، متعدد الاوصاف والاشكال، محلات تجارية على الجانبين بطراز معماري واحد متناغم متناسق فائق الجمال كثير السحر، مقاهي كثيرة ومطاعم اكثر، محلات للالبسة والماركات العالمية روادها انيقون، محلات كثيرة لا تنقطع، وارصفة عريضة غاية بالنظافة والجمال،
تلك الارصفة في ذلك الشارع تحسبها منتزهات هبطت من جنان السماء في ساعة صفا لتسترق النظر على الارض، وعندما علمت انها في الجزائر بقيت هناك بعد ان طبعت قبلة على جبين الجزائر وقالت انا كُحل هذه الارض ودمعتها.

اشجار مزدحمة متلاصقة تشكل وحدة واحدة تبدأ مع خطواتك وتنتهي عند ساحة البريد، تنتهي بصورة اجمل فتنفتح على حديقة اجمل واكبر تزين بطن الجبل تحت قصر الحكومة، وقد يكون من المفيد القول ان هذه الحديقة ما ان تنتهي عند البريد من جهة الباب، حتى تنفتح حديقة اخرى من خلف البريد، لا عجب، ففي الجزائر الجمال يولد من الجمال ويُولّد الجمال كذلك، تلك الحديقة اسمها صوفيا وتطل على البحر.

يمتد شارع ديدوش بين الكنيسة ومبنى "البريد المركزي"، ويمرّ على مبنى الجامعة المركزية وساحة موريس أودان ومن تحتها يمر مترو الانفاق والذي تصل اليه عبر محطة تافوراء، بالاضافة الى العديد من المعالم والمحطات التي يزخر بها الشارع ويتزين.

خلال تجوالك في الشارع، ستلاحظ وجود العديد من الأماكن والمعالم المهمة التي تستحق التوقف واخرى تستوجب الزيارة مثل: مكتبة النجمة الذهبية وهي اقدم مكتبة لبيع وتأجير الكتب في الجزائر وبالقرب منها ايضا اقدم مقهى فلسطيني في الجزائر، واتحاد الكتاب الجزائرين، وحديقة غالان ومتحف باردو والمتحف الوطني للأثار القديمة والفنون الإسلامية، وبالطبع لن تقوم بالانتهاء من شارع ديدوش مراد من دون المرور بأكثر الأماكن شهرة لدى سكان الجزائر، الا وهي السينما الجزائرية بمبناها المميز والذي يقبع فوقه رسم كبير مزركش باللون الذهبي والاحمر، وليس ببعيد عنها يقبع المقر التاريخي لاقليم حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في الجزائر.

في هذا الشارع تختفي الاسرار والحكايات وكذلك التاريخ خلف الستائر والنوافذ وتحت خطواتك، هناك؛ وحدها السماء قادرة على الاستماع لكل تلك الحكايا والشهادة عليها؛ لذا عليك ان تسجل وتدون وتسأل عن كل صغيرة وكبيرة هناك، على خطواتك ان ترافق خطوات اخرى عليمة وخبيرة بذلك الشارع، (بمفهومنا البلدي على تلك الخطوات التي تتسلح بها لسبر غور ذلك الشارع واستنطاق كل مافيه من جمال وحكايا وتاريخ ان تكون حفيت اقدامها وهي تسير فيه)، فهناك ستجد بان التاريخ كثف وجوده كما لم يفعل في مكان آخر.

شارع ديدوش مراد من الشوارع المتميزة في كل شيء، فالجمال هناك لوحة فنية متكاملة، فالابنيته ذات العمارة الرائعة التي تعكس طراز هوسمان سوف تستمتع وانت تجول عيونك في ارجائها، وستستمع اكثر وانت تلتقط أجمل الصور التذكارية لك معها، وقد يحدث بعد عديد الصور لك في كل هذه المعالم ان تكتشف ان هناك شيء غريب يخدش جمال الصورة، فتعيد التقاط بعض الصور للشارع وللابنية والاماكن والمعالم، لكن هذه المرة من المؤكد انك ستلتقط الصورة للشارع وحده مع ابنيته واشجاره وأناسه لكن بدون زائر غريب .

في شارع ديدوش ومن خلال تجوالك في المكتبات والمطاعم والكافيهات ومرورك من امام شتى انواع المحلات، تتاح للزائر أن يتعرّف على طريقة سير الحياة في العاصمة الجزائر واوجه الاختلاف بينها وبين سائر المناطق.

في ذلك الشارع عند نهايته بالقرب من ساحة البريد وعند حديقة القصر الحكومية ستجد متاجر المنتجات التقليدية، التي تبيع سلعاً تأتيها من أنحاء البلاد الأربعة، وخصوصاً من الصحراء: ألبسة مصنوعة من الشاش والوبر وحُلي وأدوات تزيين، من هناك يمكن لك ان تشتري تذكارات وتأخذها معك، ليبقى شيئا من الجزائر دائما في جعبتك. في ذلك المكان ايضا ان تركت خلفك حديقة القصر الحكومي والمتاجر التقليدية واستدرت على مهل بإمكانك ان ترى كيف يزداد الجمال جمال، سترى الحمام يحط على مهل، لا يزعجه احد، سترى اناس على الرصيف ينتظرون اشاراتهم الضوئية لقطع الشارع، سترى دار الولاية ومبنى البريد وحديقة صوفيا وكورنيش البحر ومحطة القطار والميناء، من هناك سترى البحر مفتوحا على آخر المدى، من هناك سترى كيف ينسدل الجبل وجذور اشجاره تلامس قاع البحر، من هناك فقط سترى عظمة المكان وسطوة التاريخ.

في هذا الشارع ستبقى خطواتك ذات اثر، ستعود في يوم اخر، وقد كبرت في رأسك الاسئلة؛ من اين جاء هذا الاسم، وما سبب تلك التسمية، كيف لاحتلال في العالم ان يبني كل هذا الجمال وبكل تلك الروعة ويخرج؟! هذا الاثر وتلك الاسئلة لن تغادرك حتى وان غادرت الجزائر. ستذهب انت وستبقى خطواتك عالقة فيه وستحمل شيئا من جماله في جعبتك، ستحتل ذكرياته حيزا وافرا في حياتك وفي كل حلك وترحالك، ستغلبك الحيرة ويهجم عليك السؤال عن سبب كل هذا الحب للجزائر؟

لن تترد في الاجابة وستجيب سريعا، ليس سبب، بل مجموعة اسباب، اولها وببساطة ان حب الجزائر من الله، فالحب يأتي هكذا بدون سبب ولا يحتاج لبرهان، وثانيها ان هذا الشارع كغيره من الشوارع والاماكن في الجزائر بمجرد ان تسير فيه او تقف على جنباته يبوح لك سريعا ببعض اسباب هذا الحب، ويبقى الدور عليك انت كيف تتلقى كل تلك الاسباب وكيف تعبر عن ذلك الحب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن