الدولة المدنية هي الدولة التي تتبنى الديمقراطية في الحكم فهي دولة المواطنة

ماجد احمد الزاملي
majidhady415@yahoo.com

2020 / 1 / 31


الدولة المدنية الحديثة تقوم على أساس نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر، المساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. وبالتالي لابد من انتشار ثقافة التسامح والقبول بالآخر بين أفراد المجتمع وبين مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية في المجتمع، كعامل مهم لتحقيق وتجسيد مفهوم الدولة المدنية الحديثة على ارض الواقع. وثقافة التسامح لا تعني التسامح مع الآخرين حين يرتكبون الأخطاء فقط، بل تعني قبول الآخرين كأفراد وجماعات وتجمعات بكل ما يحملونه من أفكار مختلفة وما يؤمنون به من آراء متباينة. وعدم التسامح يؤدي إلى موت الفكر وغياب الديمقراطية، وإلغاء حقوق الإنسان، وإلى رفض الحوار وتداول السلطة، و العنصرية والعدوان والتسلط في المجتمع. ولذلك فإن تعميق مبدأ التسامح في الوجدان والممارسة، هو المقدمة الأساسية إلى تحرير الإنسان من كافة أشكال العبودية والقهر والتسلط. الدولة المدنية هي تلك الدولة التي تتبنى الديمقراطية في الحكم، فهي دولة المواطنون فيها متساوون في الحقوق والحريات بغض النظر عن العقيدة والدين والجنس وبلا تمييز لأي سبب كان. وتطور المفهوم على أساس إقامة انتخابات نزيهة وتساوٍ في الحقوق والحريات وأضيفت إليه الكثير من المفاهيم الإيجابية كانتخاب الشعب للحكومة وله الحق بعزلها إن اقتضى الأمر، كما له حق الرقابة عليها. إن للدولة المدنية خاصية مهمة وهى الديمقراطية. فالديمقراطية هى التى تمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية. إذا كانت المرجعية في الدولة الدينية لأمور خارج نطاق البشر وفوق عقولهم فإن المرجعية في الدولة المدنية هي لإرادة الناس وفكرهم، ذلك أن الدولة المدنية تقوم على مبدأ أساسي مقتضاه أن إرادة الناس هي مصدر كل السلطات ومرجعيتها النهائية.
فعند ميكيافيلي، يتمثل مفهوم الدولة المدنية لديه في كتابه "الأمير" بإرسائه لمعنيين اثنين؛ الأول: نزع "المطلق"، الديني والقيمي، عن تصرفات "السياسي"؛ مع تأكيده على أهمية الدين كنسق للعبادة لحفظ السلام والأمن الإنساني في المجتمع. والثاني توضيح آلية اختيار الأمير عبر الإرادة الشعبية، أو باختيار طبقة النبلاء، وتسمية ذلك ب"الإمارة المدنية". إن استقرار مفهوم الدولة المدنية واتخاذه لشكله المعاصر وتقنينه في الدساتير الغربية الحديثة واقترانه بالتجارب الديمقراطية العريقة لم يكن سهلا ولم يتم دفعة واحدة، بل إنه لم يستقر إلا حين تخلصت أو روبا من كل أو أغلب عناصر الاستبداد والتمييز عبر صراعات وحروب عديدة انتهت بهزيمة كل الأيديولوجيات الشمولية المتطرفة ليستقر المفهوم في الدول الغربية أولا، وينتشر منها إلي غيرها من دول العالم التي أسست أو تؤسس لتجارب حكم ديمقراطي يقوم على فكرة الدولة المدنية القومية الحديثة ثانيًا. والدولة المدنية التي تقوم علي أساس القانون وتتبنى النظام الديمقراطي هي دولة تقوم أيضاً علي أساس مبدأ المواطنة، أي أن مواطنيها جميعاً - مهما اختلفت أصولهم العرقية أو معتقداتهم أو أفكارهم أو دياناتهم - هم لدى القانون سواء في حقوقهم المدنية والسياسية. الدولة المدنية كيان واسع الطيف يتركب من مجموعة من الأجهزة الإدارية أو الوزارات تعمل وتنشط لممارسة جملة من الوظائف ذات الطابع المدني أو السياسي أو المختلط، يتولى تنظيم تشريعاتها السلطة التشريعية وتعمل السلطة التنفيذية على تفعيلها بموجب اللوائح القانونية بينما تحمي السلطة القضائية تطبيقاتها وتحافظ عليها من العبث والاعتداء من قبل المتمردين والخارجين على القانون. ومع مرور الزمن تحول مفهوم الدولة المدنية للتعبير عن الدولة العصرية الحديثة القادرة على استيعاب المتغيرات المتسارعة في مختلف مجالات الحياة. كما أن مؤسسة الدولة في الغرب قد تطور كثيراً سواء في آلياتها وأجهزتها، أو في طريقة إدارتها وتنظيمها، أو في وظائفها ومهامها؛ إذ أن مصطلح الدولة قد بدأ تداوله منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وأخذ هذا المصطلح في التبلور والتطور ليعبر عن دلالات معينة؛ فالدولة الحديثة في الجغرافيا السياسية تتكون من مقومات ثلاثة وهي: الشعب، والأرض، والسلطة الحاكمة (الدستور). وبعد أن بدأ عصر التنوير وعصر الإصلاحات الدينية في أوروبا بدأت العودة من جديد إلى مبدأ «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله». وبقيام الثورة الفرنسية الكبري عام ١٧٨٩ انتهت تمامًا فكرة الدولة الدينية في أوروبا وتم الفصل بين الدين والدولة مع تقرير حرية التدين والاعتقاد كحريات سياسية ودستورية. ان خضوع السلطة للقانون، هو مقوم أساسي لقيام الدولة المدنية فلا يمكن أن تقوم الدولة المدنية إلا به وبمقتضاه. كما لا يجوز للسلطة أن تتخذ إجراءا أو قرارا إداريا أو عملا ماديا إلا بمقتضى القانون وتنفيذًا له. ولا يمكن لها أن تتصرف إلا بالقانون كونها إحدى سلطاته والتزامها بالعمل وفق القانون يؤكد وحدة النظام القانوني المقرر في الدولة، وهو ما يطلق عليه مبدأ الشرعية، ويعتبر ذلك السلطة عنصرا من عناصر دولة القانون. ويترتب على هذا أيضا سيادة حكم القانون وسيطرته وخضوع الإدارة في نشاطها للقانون تطبيقًا لمبدأ الشرعية وعنصرا من عناصر الدولة. يكمن جوهر الدولة المدنية والنظام السياسي في كون الشعب مصدر السلطة الأعلى، ومنبع السيادة الحقيقي. فإرادة الناس هي معيار تشكيل السلطة وممارستها، وانعقاد الشرعية واستمرارها، فلا يوجد من هو أعلى من الإرادة العامة للشعب في كل ما يخص مصيره ويتعلق بمستقبله.
الديمقراطية هى وسيلة الدولة المدنية لتحقيق الاتفاق العام والصالح العام للمجتمع، كما أنها وسيلتها للحكم العقلانى الرشيد وتفويض السلطة وانتقالها. إن الديمقراطية تتيح الفرصة للتنافس الحر الخلاق بين الأفكار السياسية المختلفة، وما ينبثق عنها من برامج وسياسات. ويكون الهدف النهائي للتنافس تحقيق المصلحة العليا للمجتمع (إدارة المجتمع والسياسات العامة بأقصى درجات الدقة والإحكام والشفافية والأداء الإداري المتميز النزيه). والحكم النهائي فى هذا التنافس هو الشعب الذى يشارك فى انتخابات عامة لاختيار القيادات ونواب الشعب، لا بصفتهم الشخصية وإنما بحكم ما يطرحونه من برامج وسياسات، وتهيئة سبل التعبير عن حرية الرأي بشتى الطرق وفق ضوابط قانونية محددة ورسمية. وحرية التعبير هذه مفتوحة ومتاحة في مجالات عديدة منها حق الاشتراك في تحديث السلطة التشريعية ترشيحا وانتخابا، وإبداء وجهة النظر عبر الصحافة الحرة وتفعيل سلوكية الاحتجاج والتظاهر والاجتماع وإقامة المؤتمرات والندوات، وتأسيس المنظمات والاتحادات والنقابات المدنية للدفاع عن الحقوق وممارسة عملية تثقيف أعضائها بضرورة المحافظة على مسؤولياتهم المهنية والاجتماعية لتطبيق قيم الثقافة المدنية. وإن تحقيق تطلعاتنا في التحرر وبناء الدولة المدنية الحديثة والتقدم والعدالة والأمن والاستقرار، لن يتم إلا عبر الشراكة السياسية الفعالة بين مختلف اطراف العمل السياسي. وذلك يتطلب في المقام الأول تسامحاً سياسياً بين جميع هذه الأطراف، والتي تحتاج في الأساس إلى ثقافة سليمة، وعملية تربوية، وثقافة وتنشئة سياسية تقوم على التسامح وقبول الآخر.
من الضروري ان نشير الى اسباب قيام الثورة الفرنسية، بل وما سبقها من صراع فكري ديني سياسي اجتماعي. طغت الكنيسة واستبدت وصادرت الحقوق، مدعية أن إجرامها في حق الإنسانية وحكمها الكهنوتي المستبد مصدره السماء، أي إنها تدعي حقها الإلهي في حكم الشعب. غير أن هذا الإجرام بدأ من قرون طويلة، فكان رد الفعل من ملوك الإقطاع ـ الحكام أنهم أسبغوا على أنفسهم دعوى الحق الإلهي. فقامت حروب مدمرة بين الكنيسة والملوك والضحايا هم الأتباع، لأنهم لايملكون عيشهم إلا في ظل فريقي الصراع، وانتهى الأمر بالتسوية والتعاون بين الكنيسة والإقطاع. فالكنيسة تبرر ظلم الملوك بأنه قدر حتمي سماوي والملوك يحمون الكنيسة عسكرياً إلى أن قامت الثورة. فإن أبرز الأسباب هو الظلم بأنواعه، إهدار إنسانية الإنسان وكرامته، باسم الدين.
الدولة المدنية في ظل المناخ الديمقراطي الحر؛ مؤسسة إدارية سياسية كبيرة ذات صبغة مدنية وتنحصر مهامها في إتاحة إمكانية الحصول على الحقوق والحريات العامة والخاصة لجميع المواطنين مقابل إنجاز وظائفهم المكلفين بها اتجاه بعضهم البعض واتجاه نظام الدولة العام. ولن تكون الدولة مدنية الطابع والهوية حينما يتحكم بإرادتها السياسية وقانون عقوباتها أفراد الجماعات المسلحة والمليشيات. وهي ليست سلطة أهلية المعالم والوظائف حين يتصرف في اتجاهها العام أفراد المجتمع القبلي أو المجتمع الديني أو المذهبي أو المجتمع الطائفي أو القومي أو العرقي. على النقيض من ذلك يتسع فضاء الحريات ضمن الجغرافيا والسيادة السياسية للدولة المدنية ليشمل كل المواطنين دون استثناء بحسب الاستحقاقات الدستورية الرسمية والمشروعة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن