تعويذة امرأة حائض

حسيب شحادة
Haseeb.Shehadeh@helsinki.fi

2020 / 1 / 25



في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها راضي بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (رتسون بن بنياميم بن شلح تسدكه هصفري، ١٩٢٢١٩٩٠، أبرز حكيم في الطائفة السامرية في القرن العشرين، مُحيي الثقافة والأدب السامري الحديث، مُتقن لتلاوة التوراة، متمكّن من العبرية الحديثة، العربية، العبرية القديمة والآرامية السامرية، جامع لتقاليد قديمة، مرتّل، شيخ صلاة،  شمّاس، قاصّ بارع، أديب أصدر قرابة الثلاثين كتابًا وهي بمثابة مصدر لكتّاب ونسّاخ معاصرين، شاعر نظم حوالي ٨٠٠ قصيدة وأنشودة،  وباحثون كثيرون تعلّموا منه عن التقليد الإسرائيلي السامري. كان السامري الوحيد الذي سمّاه سيّد الباحثين في الدراسات السامرية، زئيڤ بن حاييم باسم: معلّمي ومرشدي) بالعبرية على مسامع ابنه الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤ )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٦١٢٤٧، ١٥ آب ٢٠١٧، ص. ٥٨٦١. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة نسمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

” ذو شأو كبير في الحكمة، أمّا في مجال الأعمال فصغير

عُرف الشاعر الكبير إبراهيم بن فرج (مرحيب) بن صدقة الصباحي (هصفري) بتواضعه الشديد وبإيمانه الوثيق بالله تبارك وتعالى. كان يقضي معظم وقته في التأليف والصلاة والعبادة. جمعتُ الكثير من أشعاره ومؤلفاته الأُخرى، وفي كلّها تتجلّى ثقته بالله تبارك وتعالى، وإيمانه غير المحدود به وبرسوله موسى بن عمران (عمرم) عليه السلام . هو لم يكتم استياءه وضغينته نحو عزرا الكاتب وشيعته اللذين قسّما الشعب ولم يباليا بمحاولات توحيده تحت علَم واحد ورأي واحد.

وكنت أغار دائمًا من موهبته الجمّة؛ حاولت أن أُقلّدَ أسلوبَ كتابته. كان أوج رغبتي بلوغ علوّ غبار قدمي إبراهيم بن فرج الصباحي، من حيث المقدرة ُعلى التعبير الثريّ الذي امتاز به. وقد تمكّنت بمرور الوقت، من جمع آثاره وإصدارها ونشرها بين أبناء الطائفة خدمة للباحثين.

ولكن من البدهي أنّ كلّ هذا من المعرفة والتأليف، لا يُغني ولا يُسمن من جوع. أسرة إبراهيم كانت والحمد لله كبيرة، زوجته قمر (يرحه)، له ستّة أبناء وبنتان؛ وحالته المادية لم تكن كما يرام طوالَ حياته. معرفته في التجارة كانت أقلَّ بكثير من علمه في التوراة والشعر الديني، وهكذا سُرعان ما نفِد المال الذي أورثه له ولشقيقيه أبوه الغني، مفرج بن يعقوب صدقة. وسُرعان ما أضحى أساس رزقه مُنصبًا على كتابة التعاويذ لعرب مدينتي يافا ونابلس، اللتين سكن فيهما بالتناوب. وهذه ”المهنة“ كانت من نصيب الكثيرين في الطائفة طيلة حياتهم وما زالت حيّةً تُرزق إلى أيّامنا هذه.

ولكن مبادؤه بصدد الحصول على الأجر، كانت مغايرةً لكاتبي التعاويذ الآخرين في الطائفة، الذين كانوا يلهثون وراء رفع الأسعار. إبراهيم كان يطلب أجرًا ضئيلا، وحينما كانوا يسألونه كان يجاوبهم: جلّ زبائني مساكين، مستضعفون وجياع، فلماذا عليّ أن أزيد الطين بِلّة عليهم؛ هكذا كان ذلك الرجل. كان يفترض دائمًا أنّ حالةَ المتوجّهين إليه شبيهة بحالته.

وعندما كان إبراهيم يكتب تعويذةً لشخص ما، ويعود إليه بعد مدّة مدعيًا بأنّ التعويذة لم تنجح، كان يُعيد له ما دفعه بدون أيّ أخذ وردّ. وكان يدأب على القول ”مشيئة الله لا تودّ حلّ المشكلة، إذن لماذا أتقاضى أجرًا على ذلك؟“. إنّي لم أسمع بعدُ عن كاتب تعاويذَ سامريّ، أعاد مالًا بمحض إرادته. الأمر نابع من ورَع مغروس في طبيعة إبراهيم بن فرج صدقة الصباحي.

إنّ إبراهيم المدعو بأبي فارس، كان رجلًا مثيرًا للإعجاب في مظهره، كان وسيمًا جدّا؛ ذا لحية بيضاء طويلة. إنّه إنسان متواضع وسمعته طيّبة، رحّب به كل إنسان التقاه. صان شرفه لأنّه احترم كلّ امرء، وبالرغم من حالته المادية العصيبة، كان يمُدّ يد العون لكل محتاج. كان عرب يافا يُخطئون بسبب مظهره ويظنّون أنّه كاهن، فعندما كان يسير في الشارع، كان يقول الواحد للآخر ”ها هو الكاهن الوسيم ماشٍ“.

وفي مدّة سكناه في يافا كان شباب نابلس السامريون يُطلقون عليه عبارة ”كاهن يافا“، وعندما كان يأتي إلى جبل جريزيم لمناسبة عيد الفسح/القُربان، كان الفرح والابتهاج يعُمّان خيام السامريين: جاء كاهن يافا. بالطبع، لم يكن كاهنًا، كما أسلفنا، لأنّ عائلة صدقة تنتمي إلى سبط منشه، ولكن بسبب مظهره المحترم ظنّوه كاهنا.

التعويذة التي فشلت

ذات يوم، سُمع طرْق على باب منزل إبراهيم؛ وفي المدخل وقفت امرأة عربية، استأذنت بالدخول وسُرعان ما دعاها إبراهيم المضياف للدخول. ”بما أستطيعُ مساعدَتكِ؟“، سأل إبراهيم. أجابت المرأة ”أريد أن تكتب لي تعويذة لتحسّنَ علاقتي مع زوجي“. فرحت المرأة بالتعويذة ودفعت لإبراهيم ما تيسّر لها من مبلغ ضئيل، ثمّ غادرت منزله راضية مبتهجة بما حصلت عليه، وأمطرته بالكثير من التحايا والتبريكات.

بعد مدّة عادت المرأة العربية إلى منزل إبراهيم الصباحي؛ دخلت ولاحظ أنّها مغتمّة مهمومة فبادرها بالسؤال: ”ما لكِ يا ابنتي؟ هل تعويذتي لم تنفع، لم تُفدكِ؟“. أجهشت المرأة بالبكاء، فربّت إبراهيم على كتفها لتهدئتها فهدأت ثم أخبرته بأنّ التعويذة لم تفدها بشيء. دسّت يدها في حِضنها واستلّت التعويذة التي أعطاها إيّاها إبراهيم. وحال فتحِها يدها لتُريها لإبراهيمَ طارت التعويذة إلى النافذة واختفت، وكأنّها لم تكن. لم تُسفر كلّ التفتيشات التي قام بها أولاد إبراهيم أيضًا عن أيّة نتيجة.

ذُهلت المرأة؛ ماذا حصل؟ ماذا جرى للتعويذة؟ سألت وهي خائفة. ألقى إبراهيم نظرةً فاحصة إلى المرأة وقال لها بهدوء: ”هلّا قلتِ لي يا ابنتي الشابة، وَعِديني بقول الحقيقة، أين كانت التعويذة التي سلّمتك إيّاها؟“. ”ماذا تقصِد، أين كانت التعويذة؟“ سألت وهي تئنّ ثم أردفت- وضعتُها في حِضني؛ لم أتركْها لا نهارًا ولا ليلًا كما أمرتني، أجابت.

فسأل إبراهيم ”هل كنتِ طاهرةً في اليوم الذي أعطيتُك إيّاها فيه؟“ فأجابت: ”أُقسِم بمحمّد /بحياة محمّد أنّني لم أكن طاهرة وقتها، كنت حائضًا، إنّي أقسمتُ بقول الحقيقة“. اهتزّ إبراهيم عند سَماع ذلك وسأل ”كيف تجرّأتِ ولم تُطلعيني على ذلك عندما طلبتِ التعويذة“؟ ردّت المرأة ”إلّا أنّني طاهرةٌ اليوم“.

”لا دخلَ لهذا الآن، الحقيقة هي أنّك تجرّأتِ على وضع كلامٍ من التوراة، مكتوب في التعويذة، في مكان نجس، غير طاهر، لذلك لم يُكتب للتعويذة النجاح، هذه مشيئة الله“ - قال إبراهيم.

إستلّ من جيبه بعضَ العُمْلات النقدية وسلّمها للمرأة قائلًا ”خذي ماَلك وعودي إليّ مرّة أُخرى“. ”نعم يا سيّدي، سأفعل ما قلتَ“ تمتمت المرأة وهي خائفة وتسلّمت النقود.

نادى إبراهيم زوجته بدرية وقال لها ”حضّري لي ماء ساخنًا، بعد حادثةٍ كهذه عليّ الغطس في الماء لتطهير جسدي“، وهذا ما فعله، ثم عاد للجلوس إلى الطاولة، ليستأنف الكتابة من شعر ونثر، رحمة الله عليه.“



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن