يوميات الحرب والحب والخوف (13)

حسين علي الحمداني
hus_hus64@yahoo.ca

2019 / 11 / 25

الحرب جعلتنا نرى مدنا ما كنا لنراها،بدت السليمانية لي مدينة موت كما هي البصرة وغيرها من مدن الحرب،لكن ما حصل فيما بعد جعل من هذه المدينة محفورة في ذاكرتي،ذات مساء صيفي وجدت كل مجموعة من الجنود تنصت للمذياع،أسرع أبو أحمد لمذياعه الخاص،لم يكن يبحث عن إذاعة لندن أو مونت كارلو أو صوت أمريكا،بل عن إذاعة بغداد،لقد توقفت الحرب،توقفت أفران الموت،توقفت المدافع عن القصف،توقفت تلك الحرب التي تمنى ملايين الآباء والأمهات أن تتوقف من زمان.
لم أكن بحاجة لأن أعرف التفاصيل،كنت بحاجة فقط لمن يجعلني أرى كيف أستقبل الآباء والأمهات هذا البيان الكبير،الجنود فرحوا ليس بالنصر كما يتصور البعض،بل فرحوا لأنهم نجو من الحرب والموت.
حتى المدن كانت فرحة جدا،لأنها هي الأخرى نجت من الموت والدمار،ربما يكون حفاري القبور يشعرون بالحزن،ركضت إلى ستار الخياط وجدته محاط بالدموع،قلت له ما بك،قال انتهت الحرب ونجونا منها.
ثمان سنوات طويلة منا من بدأها من اليوم الأول ومنا من منتصفها،حتى يوم واحد حرب يكفي أن تشعر بالفرح لحظة النهاية.
قلت لستار الخياط،نحن بحاجة لأن نرتب ذاكرتنا ونغادر قاموس الحرب،قال كيف يا رجل،قلت له أول شيء سأنزل غدا للمدينة وأشتري قميص وبنطلون،عندما اذهب في إجازة لن ألبس تلك الملابس التي توحي بالحرب.
قلت لأبو أحمد في منتصف الليل الذي سهرنا فيه طويلا،لماذا لا تسمع لندن وتتأكد من نهاية الحرب،ضحك وقال من ساعتين سمعت أبو لندن وهو يقول السابعة تماما بتوقيت بغ بن،وهذه نشرة مفصلة بالأخبار،توقفت حرب الخليج،ضحكنا وقلت له كم أشكرك أيها الرائع لأنك كنت هنا من أجلي،لم يفهم كلماتي وقال والله أبوعلي أنت خوش تتكلم.وراح يقلب المذياع ويستمع للأناشيد الوطنية.
مضت ألأيام هادئة حتى ألإجازات أصبحت متقاربة،تحركنا من السليمانية إلى عقره،مدينة تقع بين أربيل ودهوك،تجمع الفوج بأكمله في قلعة كبيرة بطوابق متعددة،مضت أشهر على وقف الحرب،بدأت عملية تسريح الجنود كل حسب مواليده.
هنا في عقره كان اللقاء ألأخير لنا مع أبو أحمد الذي نٌقل إلى وحدة عسكرية أخرى حسب طلبه،من الصعب أن نتفارق،حضنته بقوة وحضننا جميعا وهو يغادرنا،شعرت إننا سنظل نحتاج هذا الرجل.
بدأ الجنود يعودون لحياتهم المدنية،الكثير منهم تسرح من الجيش،في ذروة هذا تحرك الفوج من عقره التي غطتها بعض الثلوج ومنا من لم يرى تساقط الثلج من قبل وأنا منهم،كان المنظر أكثر من رائع،وما بعد توقف سقوط الثلوج من الصعب عليك أن تمشي فالهواء البارد تشعر كأنه قد أزال أنفك،كانت الملابس السميكة التي لم نعتد عليها سابقا هي الحل،كانت وجهتنا الجديدة زاخو تلك المدينة الحدودية مع تركيا،البعض قال مازحا،هل سنحارب تركيا أيضا؟ضحكنا جميعا ونحن نجلس في العجلات التي مرت سريعة وهي تبتعد عن عقره ونظراتنا تودعها،أكثرنا كان يحب هذه المدن رغم قساوة بعضها علينا،ذات مرة قلت لستار الخياط هذه المدن أمهات لنا،بعضهن حنونة والبعض الآخر فيها قساوة.
نظر لي وقال أبصم بالعشرة أنت شيوعي،ضحكت وقلت له عمي يا شيوعي،قال تعرف فقط الشيوعي مثقف،قلت له لما البعثيين الأوائل الذين أعدمهم صدام كانوا مفكرين،قال اي صحيح،لا أحد كان يختلف في هذا أبدا،الجميع كان يشعر إن البلد خسر طاقات هؤلاء كما خسر غيرهم من الطاقات العلمية والفكرية،حتى في هذه الحرب خسرنا الكثير من الشباب الذي كان مهيأ لخدمة البلد في الجانب الذي تخصص فيه.
قبيل نهاية الحرب بأشهر طلبوا دفعة من الاحتياط، كان من بين الذين آتوا لوحدتنا جاسب من البصرة عمره أربعين سنة،يشتغل موظف في شركة النفط،قال تعرف إنني قبل سنة فقط تم ترفيعي لمدير شعبة،الآن هذا المنصب شغله غيري عندما أعود أبدأ من جديد،لم أفهم قصده لكن أدركت إن ثمة خسارة أن يغادر هذا الرجل مكتبة ليجلس هنا عند حافات الموت.
كانت دفعته هي أول من تسرحت بعد وقف الحرب،كانت شروط التسريح قاسية جدا،من لديه غياب يخدمه مضاعفا،الكثير من الجنود كانت تعاني من هذا الأمر،بعضهم لديهم هروب لسنة أو أكثر.
إقتربنا من زاخو،التي بدت أمامنا،بعض الجنود القدماء كان قد خدم فيها سابقا،طالما لا توجد حرب فكل المدن تبدو جميلة،هكذا كانت نظرتي، أنظر إليها بعيون أخرى ربما لم تكن موجودة عندي من قبل.
قد تكون هذه آخر المدن في ذاكرتي العسكرية،كان هذا في بداية عام 1989،في آخر إجازة أتمتع بها توفي والدي عن في منتصف الستينيات من عمره،تألمت كثيرا،وشعرت إنني فقدت جزءا مهما كنت أستند إليه كلما احتجت لذلك.
في مقبرة وادي السلام في النجف،كان حفار القبور يتحدث ويقول قبل نهاية الحرب بأشهر قليلة أشترينا هذه الأرض وأشار إلى أراض بيده واسعة وخالية،قال له أحدهم،هي تنفعكم أنتم الدفاته فالموت لا يتوقف،قال بشيء من الحسرة لكن الحرب توقفت،قلت أين أنت يا ستار الخياط كي تعرف إن لا أحدا يحب الحرب سوى هذا الرجل ومن على شاكلته.
عندما أنتهت إجازتي وجدت كتاب انتدابي من العسكرية قد وصل لوحدتي،أكملت أوراقي وحضنت زملائي بعد أن عشنا معا سنوات الحرب الطويلة،شكرتهم جميعا كما شكرت ذلك الرجل الطيب آمر الوحدة ألذي أصبح مقدما بالجيش،قال لي لا أدري هل أعزيك بوفاة والدك أم أهنئك بعودتك للمدرسة؟قلت الحياة هكذا تسير.
حملت أوراق تسريحي متوجها صوب مدينتي،تاركا خلفي ذاكرة معبأة برائحة الحرب،تلك الحرب التي أكلت منا أجمل السنوات.
كنت مهيأ لأن أمارس حياتي الطبيعية،وعرفت من موظف التربية إنني لا أحتاج سوى كتاب مباشرة من مدرسة السموأل التي أنتمي إليها،إضبارتي تقول إني معلما في هذه المدرسة،أخذت بعضي إليها.
هي ذاتها بكل ملامحها،لكنها شاخت أصبحت تحت مستوى الشارع العام،الحديقة اختفت،لعل هذه المدرسة كانت هي الأخرى تعاني من الحرب.
المدير لم يكن ذلك الرجل الذي سلمته ذات يوم كتابي،رجل آخر عندما عرف إنني ذلك المعلم الذي كان والده البناء يأتي لاستلام راتبه كل رأس شهر،انجز كتاب مباشرتي وفي اليوم التالي كنت أقف إلى جوار المعلمين في الاصطفاف الصباحي وأنا أنظر للتلاميذ الذين ربما الكثير منهم يسأل من هذا،كما كنا نسأل نحن عندما نرى وجوها جديدة في المدرسة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن