التركيبة الطبقية للتنظيمات الإسلامية

عبد الرحمان النوضة
nouda.abderrahman@gmail.com

2019 / 11 / 23

الموقع الطبقي لكل شخص هو عُمُومًا المُحَدِّد الرئيسي لِمَوَاقِـفِه السياسية. لكن، بِـقَدْرِ ما تكون ثـقافة شخص مُحدَّد وَاسِعَة أو مُتَـقَدِّمَة، بِقَدْر مَا تَكْبُرُ حُظُوظُ تَبَـنِّيه لِـقِيَم تَـقدّمية، أو لِـأَفْكَار عَقْلَانِيَة، أو ثورية، أو يَسَارِيَة. وعلى عكس ذلك، بِقَدْرِ مَا تَكُون ثـقافة شخص مُحدّد ضَعِيفَة، أو محدودة، بِقَدر مَا تَكْبُرُ حُظُوظُ تَـبَـنِّـيـه لِـقِيَم انتهازية، أو لأفكار عَتِيـقَة، أو يَمِينِيَة، أو مُحافظة، أو غَيْبِيَة، أو دِيـنِـيَـة (أي إسلامية أُصولية في حالة البلدان المُسلمة).
لِتحديد البِنْيَة الطبقية للأحزاب الإسلامية الأصولية، نحتاج إلى تحقيقات أو إحصائيات حول أعضاء الأحزاب الإسلامية الأصولية. لكنني لَا أتوفّر على هذه المعطيات. فَأَسْتَنِدُ على تجاربي الشخصية، وعلى المعلومات المُكَدَّسَة في ذاكرتي. وفي رأيي، تتكوّن التنظيمات الإسلامية الأصولية على الخُصوص من أشخاص من طبقة الذين لَا يَسْتَغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون، ومن طبقة المُسْتَغَلِّين، ومن طبقة المُسْتَغِلِّين الصِّغَار، وأحيانًا حتّى من بعض المُسْتَغِلِّين المتوسطين(1). أمّا المُسْتَغِلُّون الكبار فهم نَادِرُون في التنظيمات الإسلامية الأصولية. ويَنْفُرُ عَادَةً كبار المُسْتَـغِـلِّين من الفكر الإسلامي الأصولي، ويَهْزَؤُون من غَيْبِيَتِه، ولَا يَثِـقُون في خُرَافَاتِه، ويخشون تَطَرُّفَه.
وفي بعض أسواق المدن الكبيرة، يُوجَد تُجَّار من كلّ الأحجام (متخصِّصُون في البيع والشراء)، يَتَبَنَّون بِحَمَاس الفِكْرَ الإسلاميَ الأصوليَ، أو يَنْتَمُون إلى جماعات إسلامية أصولية، أو يُنَاصِرُونَها. ويَحْرُصُون على إظهار علامات "إِسْلَامِيَتِهِم" (مثلًا من خلال اللِّحْيَة، أو اللباس السَّعُودِي أو الأَفْغَانِي، أو تَعْلِيق لَوَحَات الآيات القرآنية على الجُدْرَان، إلى آخره). ويُوجد ضِمْنَ هؤلاء التُجَّار، تُجَّار صِغار، ومتوسطون، وحتى بعض الكبار. ويَبْنُون فيما بينهم شبكات من العلاقات التجارية، أو من اللِّـقَاءَات الدِّينِيَة. ويَمْنَحُون تَـفْضِيلَات تِجَارية لبعضهم بعضًا. ويُـقَدِّم بعض هؤلاء التُجَار دَعْمًا ماليًّا لبعض الجماعات الإسلامية الأصولية. ويَتَمَتَّعُون بِتَأْثِير مُعْتَبَر على أنشطة، أو على تَوَجُّه، هذه الجماعات الإسلامية. ويُوَفِّرُون لبعض أصدقائهم أو زَبَائِنِهِم تسهيلات في أداء أثمنة البضائع التي يبيعُونها إليهم. ويعرضون عليهم أحيانًا حُلُولًا بديلة تُمَكِّنُهُم من تَـفَادِي الاِقْتِرَاض من البُنوك التي تمارس «الرِّبَى».
وتُوجد بالمغرب عدّة أحزاب إسلامية أصولية. والعُنصر المفسّر لِتكاثر وتَمَايُز التنظيمات الإسلامية الأصولية عن بعضها بعضًا، يرجع إلى صِنْف الفئات الطبقية الغالبة في كل واحد من بين هذه التنظيمات الإسلامية. كما أن التَـفَاوُتَات فيما بينها قد تُـفَسَّر بِنَوْعِيَة الانتماء الطبقي لِغَالِبِيَة قِيَادَاتِهَا، أو أُطُرِهَا. وقد تُساهم أيضًا في تفسير التفاوتات فيما بين الأحزاب الإسلامية الاستراتيجيات الشخصية التي تنهجها الأُطُر السَّائِدَة في هذه الأحزاب. ونجد مثلًا أن غالبية أطر "حزب العدالة والتنمية" (الإسلامي) هي من صنف الأشخاص الذين يُرَاهِنون في تَسَلُّـقِهِم الطبقي على التَـقَرُّب من الدولة، وعلى خدمة النظام السياسي، وعلى المشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحلية، وعلى الانتفاع بِنُـفُوذ مناصبها، أو بتأثيراتها. بينما غالبية أُطُر "جماعة العدل والإحسان" يُفَضِّلُون، في مجال تَسَلُّـقِهِم الطبقي، الاعتماد على التضامن والتعاون القائمين داخل شبكات وَاسِعَة ومتنوِّعَة من "الإخوان" أو الأنصار. وتبقى هذه الأحزاب الإسلامية الأصولية قَابِلَة لِلنَّـفَاذ (poreuses)، حيث يمكن لِبعض أعضائها أو أطرها أن تنتقل من حزب إسلامي إلى آخر، وذلك حسب الظروف القائمة.
والميزة المُشْتَرَكَة لِغالبية أعضاء الحركات الإسلامية هي أنهم من قُدَمَاء الفَلَّاحين، أو من الذين يَرْتَبِطُ نمط عيشهم بالبادية أكثر مِمَّا يَرْتَبِطُ بالمدينة. وهذا الارتباط بالبَادِيَة لَا يَتَجَسَّدُ بالضرورة في التواجد في البادية، وإنما يَتَجَلَّى في نمط عَيْشِ الشخص المعني، على مستوى عائلته، أو حياته الاقتصادية، أو تقاليده، أو مُعتَقَدَاته، أو قِيَمِه، أو أفكاره الدِّينية.
ومن بين مِيزَات الأشخاص الإسلاميين الأصوليين أنهم يحملون في الغالب أفكارًا وطموحات مَا قَبْل رأسمالية (précapitaliste). [ومن المفارقات أنه يمكن أن تُوجد جزئيا، في التنظيمات اليسارية، نسبة مُعيّنة من الأشخاص، ينتمون إلى نفس الطبقات أو الفئات المذكورة سابقًا. لكن الميزة المشتركة لهؤلاء الأشخاص اليساريين هي أن ثقافتهم متنوّرة، أو تقدّمية، أو أنهم من سكّان المُدُن، أو من الذين يَغْلُبُ ارتباطهم بالمدينة على ارتباطهم بالبادية، أو من الذين يُقِيمُون في البادية لكن عقليتهم الغَالِبَة هي عقلية مَدِينِيَة، وليست بَدَوِيَة].
والأشخاص القِيَادِيُّون الرئيسيون، الذين حَمَلُوا مشروع «الإسلام السياسي الأصولي»، ينتمون على الخُصوص إلى طبقة المُسْتَـغِلِّين الصِّغَار، وليس إلى طبقة المُسْتَغَلِّين، ولَا إلى طبقتي المُسْتَغِلِّين المتوسّطين أو الكبار. [وبالمصطلحات الكلاسيكية، ينتمون على الخُصًوص إلى "البرجوازية الصغيرة"، وليس إلى "البرجوازية المتوسطة"، ولَا إلى البرجوازية الكبيرة].
ونِسبة هَامَّة من أُطُر الحركات الإسلامية هُم موظفون في القطاع العُمُومِي، وعلى الخصوص في التعليم العمومي، أو هم مأجورون في القطاع الخاص، أو في «المِهَن الحُرَّة» المتواضعة. ونسبة هَامّة من أنصار الحركات الإسلامية يَشتغلون في القطاعات الاقتصادية "غَيْر المُهَيْكَلَة" (أي التي لَا تخضع للقوانين القائمة).
وأثناء بناء التنظيمات الإسلامية الأولى، استفادت هذه التنظيمات الإسلامية من تجارب التنظيمات الثورية، أو الماركسية اللّينينية، التي سَبِقَتْهُم (خلال سنوات 1960 و 1970). حيثُ قَلَّدت التنظيماتُ الإسلاميةُ بعضَ الأساليب التي سبق أن اِبْتَدَعَتْهَا التنظيمات الثورية، في مجالات الدِّعَاية، والتأطير، والاستقطاب، والتنظيم، والعمل السرِّي.
وكَـنَمُوذَج مُعَبِّر، كان في البِدَاية المُدَرِّسُ عبد السلام يَاسِين، قبل أن يُصبح زعيما لِـ "جماعة العدل والإحسان" (الإسلامية الأصولية)، كان يعمل كَمُوَظَّف «مُـفَتِّش» (inspecteur) عَامٍّ في التعليم العمومي. وكان اِطِّلَاعُه على الثـقافة العَالَمِيَة أو الكَوْنِيَة هَزِيلًا. وكانت عَقْلِيَتُه تَرْتَبِطُ بالبادية، أكثر مِمَّا تَرْتَبِطُ بالمدينة. واستغلّ عبد السلام ياسين نفوذه كَمُفَتِّش رئيسي لاستقطاب "مُـفَتِّشِين" آخرين من بين مَرْؤُوسِيه. واعتمد عبد السلام يَسِين (مع زُمَلَائِه "الفُقَرَاء" في "الزَّاوِيَة") على هؤلاء المُـفَتِّشِين لاستقطاب المُعَلِّمِين، وأَسَاتِذَة المدارس الثانوية، ثم الطلبة والتلاميذ، ثم الأُطُر التِـقْنِيَّة، ثم المِهَنِيِّين الآخرين، ثمّ الأساتذة الجامعيين. [لكن محمد البَشِيرِي، قال أنه هو شخصيا، وليس رفيقه عبد السلام ياسين، الذي قام بالدّور الرئيسي في استقطاب المُؤَيِّدِين والأنصار إِبَّان تأسيس "جماعة العدل والإحسان". ولمّا انتـقد محمد البشيري إِفْرَاطَ عبد السلام ياسين في مُيُوله إلى الزَعَامِيَة، وفي اِدِّعَاءه رُؤْيَة النَبِيِّ محمد في مَنَامِهِ، والحِوَار معه، وفي اِدِّعَاءِه اخْتِرَاق الجُدران والمَسافات الجُغرافية، أَقْدَمَ ياسين على طَرْد البشيري من "الجماعة"(2)]. وحَوَّلَ عبد السلام ياسين المُعلّمين والأساتذة إلى مُرَوِّجِين للأَيْدِيُولُوجِيَة الإسلامية الأصولية. وهكذا بَنَى النَوَيَات [جمع نَوَاة] الأولى الأساسية في الشبكة السِّرِيَة لِتنظيم «جماعة العدل والإحسان». وهكذا غَزَى "الإسلاميون الأصوليون" أجهزة التعليم العمومي خلال قُرَابَة عشرين عَامًا. وسيطروا على وزارة التعليم، وَحَوَّلُوا التعليم العُمُومِي إلى آلة ضخمة لِغَرْسِ الفكر الإسلامي الأصولي في أَذْهَان التلاميذ والطلبة، وفي مُجمل الأجيال الناشئة.
وكانت السُلطة السياسية (بالمغرب) تُوَافِقُ ضِمْنِيًّا على إِنْشَاء وإِنْمَاء تِيَارَات "الإسلام الأصولي" في المدارس والجامعات العُمُومِية، لأن السلطة السياسية كانت تَأْمُل اِسْتِعْمَالَ هذه التِيَارات "الإسلامية الأصولية" لضرب عَدُوِّهِا الرئيسي، المتجسّد في التِيَارَات الثَوْرِيَة، وفي التنظيمات اليسارية المُعارضة. وقد استعملت دول أخرى مُسْلِمَة، أو ناطقة بالعربية، تَكْتِيكًا مشابهًا.
وفي بداية سنوات 1980، أنشأت الدولة بالمغرب «شُعَبًا للدِّرَاسَات الإسلامية» في عدّة «كُلِّيَات للآداب والعلوم الإنسانية»، داخل جَامعات التعليم العالي بالمغرب. واسْتُعْمِلَت هذه «الشُعَب للدِّرَاسَات الإسلامية» لِتَزْوِيد الحركات الإسلامية الأصولية بالأطر الـلّازمة. وَوَزَّعَت هَيْئَات في وزارة التعليم مجموعات من «المِنَح» على الطلبة للقيّام بِـ «دراسات إسلامية» في المملكة السعودية. وصاحبت هذه السياسة مبادراتٌ أخرى، تهدف إلى إِضْعَاف المَدِّ العَـقْلَانِ النـقدي، وحذف أو تقليص شُعَب «عِلْم الاجتماع» (sociologie)، و«الفلسفة»، و«علم النّـفس» (psychologie). وساهمت هذه المُبادرات في الإجهاز على الروح التقدمية التي كانت دائمًا سَائِدَة في النقابة الطُّلَابِيَة: «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب». وكانت هذه التَكْتِيكَات تنسجم آنذاك مع إطار «الحرب الباردة» بين المُعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ومع «حرب العصابات» التي كان «المُجَاهِدُون الإسلاميون» يخوضونها في أَفْغَانِسْتَان، بِدَعْمٍ من السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وضدّ الشيوعيين السُّوفْيِيت. فبدأت المِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية الوَهَّابِيَة تَظْهَر كَحَلّ نَمُوذَجِي وجَذْرِي لِاسْتِئًصَال التنظيمات اليسارية.
وبهذه الطريقة، تحوّل التعليم العمومي بالمغرب إلى آلَة لِنَشْر، وإعادة إنتاج، الأَيْدِيُولُوجِيَة الإسلامية الأصولية. ومنذ قرابة سنوات 1995، أصبحت أغلبية الطَّلَبَة، وفي معظم الجامعات المغربية، أصبحت تُساند، أو تَتَـعَاطَفُ، مع الأيديولوجية الإسلامية الأصولية. ومن المَنْطِقِي أن تَـقْتَرِنَ «أَسْلَمَة» (islamisation) التعليم العمومي بِإِفْلَاسِه. لأن تخلّف الأَيْدِيُولُوجِيَة الإسلامية الأصولية يُؤَدِّي حتمًا إلى تخلّف أيّة هيئة تتبنّاه. وغَدَت غالبية الأجيال المُتَوَالِيَة من الأُطُر المُتَخَرِّجة من الجامعات المغربية تتبنّى الفكر الإسلامي الأصولي، أو تَتَعَاطَفُ معه، أو تَتَحَمَّلُهُ، أو تَـقْبَلُ التَعَايُشَ معه. ومع إحكام «أَسْلَمَة» الجامعات المغربية، اِنْخَـفَضَت قِيَمُ هذه الجامعات، وَقِيَمُ شَوَاهِدِهَا، وكذلك مراتبها في سُلَّم المقارنة فيما بين جامعات العالم.
وبعد انهيار «حائط برلين»، ثم انهيار "الاتحاد السُّوفْيَاتِي" في قرابة سنة 1989، رَوَّجت وسائل الإعلام التابعة للإمبريالية أُطروحة «موت الاشتراكية»، و«خطأ الماركسية». وزعمت أن «الحلّ الوحيد والأبدي هو الرأسمالية». وعَمَّت العَالمَ مَوجةٌ من الشَكِّ في صحّة الطُمُوح إلى الاشتراكية، وحتى في صحّة الفكر الثوري. وجاءت الحركات الإسلامية الأصولية، المَدْعُومَة بِـ «البِتْرُو-دُلَار» (pétro-dollars) الخَلِيجِي، واستفادت من هذه الظرفية المُتَمَيِّزَة بِاِنْتِـقَاصِ قيمة الفكر الثوري، واستغلّت الفراغ الذي تركه سُقُوط النموذج الاشتراكي. وانتشرت الأيديولوجية الإسلامية الأصولية كَالنَّار في الهَشِيم، في أوساط بعض الجماهير الشعبية، التي يَغْلُبُ عليها الفقر والجهل. فظهرت "الأحزاب الإسلامية الأصولية" كَقِوَى مُعَارِضَة من نوع جديد. وغَلَّطَت هذه "الأحزاب الإسلامية الأصولية" الجماهيرَ، حيث زَعَمَت أنها «ليست لَا يَمِينِيَة وَلَا يَسَارية»، بينما هي رِجعية.
ومعظم هذه الفِئَات المُجتمعية، المُتَبَنِّيَة لِلْأَيْدِيُولُوجِيَة الإسلامية الأصولية، مُنْبَـثِـقَة من طبقات الشعب. وتُعَبِّر عن بعض التناقضات الموجودة وسط الشعب. وتُحِسُّ هذه الفئات أن مصالحها الطبقية تتعارض مع مصالح المُسْتَـغِلِّين الكِبَار والمتوسِّطين. وتطمح هذه الفئات "المُتَأَسْلِمَة" إلى إحداث تغييرات سياسية ومجتمعية تخدم مصالحها الطبقية الخاصة.
ويوجد اليوم في الحركات الإسلامية الأصولية "أغنياء جُدُد" بُسَطَاء. غالبيتهم أغنياء صِغَار، وقِلَّة قليلة منهم أغنياء متوسّطون. ويلعب هؤلاء "الأغنياء الجُدُد" البسطاء دورًا كبيرا في هذه الحركات الإسلامية. ويُدْرِكُون أنه بإمكانهم أن يغتنوا أكثر بِكَثِير مِمَّا هم عليه. لكنهم يحسّون أن «عالم الأعمال» (le monde des affaires)، المَبْنِي على أساس «حَدَاثَة» (modernité) رأسمالية مُتـقدّمة، مُقْـفَل (verrouillé) في وَجْهِهِم. ويلاحظون أن الدخول إلى «عالم الأعمال» يتطلّب شروطا كثيرة ومُعَـقَّدة. ومن بين هذه الشروط أن يكون الشخص المعني حَاصِلًا على شَوَاهِدَ من أَرْقَى الجامعات الأمريكية أو الأوروبية، وأن يتوفّرَ على رَسَامِيل كبيرة نِسْبِيًّا، وأن يحظى بعلاقات عائلية قَوِيَة ومُؤَثِّرَة، وأن يكون مُؤَهَّلًا للحُصول على القُرُوض من البُنُوك. لكن معظم أعضاء وأنصار "الحركات الإسلامية الأصولية" لَا يتوفّرون على أيّ واحد من بين هذه الشروط المذكورة. الشيء الذي يمنع معظم هؤلاء "الإسلاميين الأصوليين" من الانخراط في الدائرة الاقتصادية الرأسمالية القائمة.
وما دام «عالم الأعمال» مُقْـفَلا في وَجْهِ هؤلاء "الأغنياء الجدد" (الإسلاميين الأصوليين)، وما دام التكوين الوحيد، أو الرئيسي، الذي حصلوا عليه في حياتهم هو تكوين دِينِي (إسلامي) بسيط، فإن هؤلاء "الأغنياء الجُدد" (الإسلاميين الأصوليين) يُريدون أن يُحَوِّلُوا التكوين الدِّيني (أي تكوينهم الإسلامي الأصولي) إلى تكوين وَلِيٍّ، وَمُمْتَاز، وَمُـقَدَّس، لكي يَعْلُوَ فوق كلّ التَكْوِينَات العِلْمِيَة الأخرى التي يعجزون على الوُلُوج إليها.
وكون "الشريعة الإسلامية" تُحَرِّمُ «الرِّبَى» (أي الفائدة التي تحصل عليها البُنُوك الرأسمالية)، يَجعل "الإسلاميين الأصوليين" مَمْنُوعِين من الاستفادة من قُرُوض البُنُوك الـلازمة في الاستثمارات الكبيرة. وَيَحْرُمُهُم بِالتَّالِي من إمكانية التحوّل إلى رأسماليين كبار، أو إلى أثرياء أقوياء. لكن "الإسلاميين الأصوليين" يَتَبَنَّون تِلْقَائِيًّا الرأسمالية، ويعجزون على تصور نَمَط لِلْإِنْتَاج مُخَالِف للرأسمالية. ونظرًا لكون الاقتصاد الرأسمالي يحتاج إلى منظومة البُنُوك، أصبح الإسلاميون الأصوليون في حاجة مُلِحَّة لِإِيجَاد حلّ مُعَيَّن لتجاوز مشكل «تَحْرِيم الرِّبَى». وقد وَجَد بِسُرْعة بعض الفقهاء حَلًّا جذريا لِمُشكل «الرِّبَى». وَمَوَّلَت البُنُوك الرأسمالية هي نفسها الدِّرَاسَات الفِـقْـهِيَة الـلَّازمة لِتَجَاوُز «تحريم الرِّبَى». ودَعَى هؤلاء الفقهاء المَأْجُورِين لِإِقَامة «بُنُوك إسلامية» رأسمالية. وأنتج الفقهاء كُلَّ «الفَتَاوَى» الضرورية لِتَبْرِير وَشَرْعَنَة هذه «البُنُوك الإسلامية». وتكمن الحِيلَة التي اِبْتَكَرُوهَا في تغيير شكل «الرِّبَى»، وتسميتها باسم مُخَالِف، هو اِسم «المُرَابَحَة».
ولا يعرف هؤلاء "الأغنياء الجُدد" (من بين الإسلاميين الأصوليين) كيف يَتَكَيَّفُون مع «عالم الأعمال». ويعتـقدون أن أقصر الطُّرُق لِدُخُول «عالم الأعمال»، يَكْمُنُ في استغلال الدِّين في السياسة، وفي تَوَفُّرِهِم على قاعدة اجتماعية من الأنصار، تُمَكِّنُهم من الفوز في الانتخابات التمثيلية، والحصول على مناصب مُؤَثِّرَة في المُؤسـسات المُنْتَخَبَة. ويُحاولون المُتَاجَرَة بنفوذهم. ويريدون اِسْتِغْلَال تأثيرهم، ومُقَايَضَة نُـفُوذِهِم، للضّغط على الدولة، وعلى «عالم الأعمال»، بهدف الحصول على نصيب مَقبول، أو على فُرَص مُوَاتِيَة، أو على تسهيلات، أو امتيازات، تُمَكِّنُهم من الوُصُول إلى فُرَصٍ أكبر للاغتناء. فتصبح استراتيجيتهم هي المراهنة على "الإسلام الأصولي"، واستثماره كسلاح سياسي وأيديولوجي.
وتُسيطر البرجوازية الصغيرة المَيْسُورَة، في قيادات الحركات الإسلامية الأصولية. بينما يَبـقى الأشخاص البرجوازيون المتوسطون قَلَائِل في هذه الحركات الإسلامية. ويجتمع في قَوَاعِدِ الحركات الإسلامية الكثيرون من الأشخاص الذين يشعرون بِتَهْمِيشِهِم في المُجتمع، أو بِحِرْمَانِهِم من إمكانية الوصول إلى اليُسْر أو الرفاه. ولَا يتوفَّرون سوى على الدِّين الإسلامي الأصولي كأداة نظرية لِـفَهْمِ المُجتمع، أو لِنَـقْدِه، أو لِتغييره. ويُحَتِّمُ تخلّف الأيديولوجية الإسلامية الأصولية أن يكون الوعي السياسي لهؤلاء الإسلاميين الأصوليين محدودًا، ويَـفْرِضُ أن يكون فَهْمُهُم للمجتمع بِدَائِيًّا (primitif)، ويُوجِبُ أيضا أن يكون تصوّرهم لِتَـغْيِير المُجتمع رِجْعِيًّا.
رحمان النوضة
[مُـقتطف من كتاب جديد لرحمان النوضة، تحت عنوان: "نقد تعاون اليساريين مع الإسلاميين"].
(1) أنظر كتاب: رحمان النوضة، "طبقات المُجتمع". ويمكن تحميله من المدوّنة: (https://LivresChauds.Wordpress.Com).
(2) أنظر فِيدِيُو "حقيقة طرد محمد البشيري من جماعة العدل والإحسان": https://www.youtube.com/watch?v=cAda82hSMlQ&t=3859s



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن