كي لا يقتلنا النفط

حارث رسمي الهيتي
harith.alhetty@gmail.com

2019 / 10 / 11


قبل أيام التقيت بصديق لي من مدينتي هيت، ولأني أحب أن امازحه لأسمع أحدى قفشاته الجميلة، سألت قيصر صديقي عن سبب عزوفه عن الزواج رغم انه سيكمل قريباً ثلاثة عقود ونصف العقد عن قريب، ضحكنا بادئ الأمر بعد اجابته، لكن ما أن فارقته حتى استعدت ما حدثني عنه هو، قيصر يحمل شهادة البكالوريوس في احدى الاختصاصات الانسانية، باءت كل محاولاته الرامية الى ايجاد تعيين في مؤسسات الدولة بالفشل، ولأنه يعمل مصوراً في استوديو صغير في المدينة فقد كيّف نفسه مع الوقت، في السنوات ما بعد انتهاء الاقتتال الطائفي كانت الاموال في السوق كثيرة، فقد كان الانفاق الحكومي في اعلى مستوياته بحكم اننا بلد يعتمد على واردات النفط فقط، ولأننا دولةً ريعية فإن القائمين على سدة الحكم وبعد ان واجهوا مشاكلاً كثيرة وعلى اغلب مستويات ومجالات الدولة والمجتمع فهم يلجأون الى زيادة الانفاق العام بدلاً عن ايجاد حلول لكثير من الأزمات التي تعصف بنا وما زالت تمارس فعلها الى اليوم، وصل الأمر في هيت الى درجة ان أجرة البنّاء "الخلفة" وصلت الى مائة الف دينار باليوم والعامل الى أربعين الف تقريباً، وانتعشت شركات النقل والسفر، ومحلات بيع الملابس والأشياء الكمالية حتى، مقابل ذلك زاد الاستيراد حتى فيما يتعلق بأبسط انواع الخضر والفواكه التي كانت بساتين هيت تشتهر بزراعتها، يقابل ذلك ارتفاع في اسعار تلك الخضر، خاصة بعد أن ترك الفلاحون أراضيهم وذهبوا الى ما سمي وقتها "الصحوات" التي بذخت عليها الدولة أموالاً طائلة حتى أصبحنا نضحك حين نرى ان سيارة ابسط فرد في الصحوة أفضل وأحدث من سيارة القاضي والاستاذ الجامعي ولكم أن تتصوروا حجم الاموال التي انفقت هباءً!!
يبدو أن احداً لم ينتبه لكتاب تيري لين كارل ( مخاطر الدولة النفطية ) الذي يكتب فيه عن مخاطر اعتماد الدولة على واردات النفط فقط دون الاهتمام بتطوير الجوانب الاخرى التي من شأنها ان تخلق سوقاً للعمل، ومجالاً لانتاج الكثير من الخيرات المادية بعيداً عن الاعتماد على الاستيراد، فيذكر تيري كارل ما نصه:
"ان البلدان التي تصدر النفط بوصفه نشاطها الاقتصادي الرئيسي تولد انواعاً محدودة من الطبقات الاجتماعية والمصالح المنظمة وانماط العمل الجماعي الداخلية والخارجية التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالدولة وتستفيد من الريوع النفطية وتكون لدى هذه الطبقة أسباباً وجيهة لتعزيز البترلة كوسيلة لتحقيق مطالبها".
سأتحدث عن الانبار باعتبارها محافظتي وأعرف ما فيها جيداً، ففيها أربعة منافذ حدودية الوليد والقائم مع سوريا، وعرعر مع السعودية، وطريبيل مع الاردن، هذا اذا علمتم ان المنفذ الأخير وحده كان يعطي تقريباً 300 مليار دينار سنوياً قبل داعش حسب تصريح السيد حميد العلواني عضو مجلس المحافظة هناك، ناهيك عن الفوسفات وحقل نفط عكاز الذي لم يباشر العمل فيه ومعامل السمنت والجص في المحافظة، وليس أخيراً عيون الكبريت والقار التي تشتهر بها المحافظة والى غير ذلك من الموارد الطبيعية التي ما ان يضع القائمين على مواقع السلطة في المحافظة خططاً حقيقية وجادة للنهوض بواقعها المعاشي فستتحول الى محافظة معطاء لأبناءها الذين اتعبتعهم الحروب والسياسات الخاطئة.
ما اتحدث عنه يبتعد عن كونه مشكلة شخصية لصديق والكثير مثله، وليست شيئاً كمالياً ممكن ان نؤجله حالياً، أنا اتحدث هنا عن قضية تتعلق بالأمن الوطني ومصلحة هذا البلد، هل فكر مسؤولينا الأجلاء بأن شاباً اكمل دراسته الجامعية ويجبر على العمل ليعيش وعائلته يضطر اليوم للعمل في محل لبيع الملابس مثلاً أو في اسواق تجارية يتقاضى راتباً شهرياً مقداره (120) الف دينار ويبدأ دوامه منذ الساعة الثامنة صباحاً الى الثامنة مساءً، شاباً مثل هذا كيف لنا أن نقنعه أن الغد هو أفضل ونحدثه عن الانتماء لهذا البلد الذي يتجار ساستنا به وبنا وبمستقبل اطفالنا أيضاً.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن