العراق : من الاحتجاج إلى ثورة المستقبل

ميثم الجنابي
aljanabi52@bk.ru

2019 / 10 / 6

تقديم وملاحظة أولية: إن ما يشاع أو ما جرى إلصاقه بأحداث العراق الحالية على انه "ثورة الجياع" هو أما جهل بما جرى ويجري، أو تشويه متعدد الأوجه لمحتوى الصراع الحالي. إن ما يجري في ظروف العراق الحالية من احتجاج يحتوي في أعماقه على أغلب عناصر التمرد الاجتماعي والانتفاضة الشعبية، والتي يمكن أن نطلق عليها وصف ثورة الشباب، أو ثورة المستقبل. بمعنى أن ما يجري ليس تمرد جياع. بل ثورة الشباب العراقي، اي قوته المستقبلية.
***
إن للاحتجاج مستوياته وأساليبه وغاياته المتنوعة والمختلفة، كما إن لمستوياته أقدارها الخاصة في حالاته الفردية والجماعية والوطنية والقومية. لكن المشترك فيها جميعا هو حالة الغضب والعمل من أجل شيئ ما لم يعد الفرد والجماعة والشعب والأمة تحملّه. بمعنى تلافي الوقوع في حالة الجزع والانكماش على النفس صوب الخارج. وسيان بالنسبة له ما إذا كان ذلك إنسانا أو مؤسسة أو سلطة أو دولة أو غير ذلك.
وهي حالة يمكن رؤية ملامحها الظاهرية فيما نراه من حالات وصور متنوعة للاحتجاج وشعاراته في المظاهرات الأخيرة والجارية لحد الآن في مناطق الوسط والجنوب العراقي، أي في موطن العراق الأصلي والحقيقي.
إن الشيء الجوهري الذي يستحق الاهتمام هو رؤية مقدمات وآفاق الحركة الاحتجاجية في الوسط والجنوب. إذ عليها فقط تتوقف آفاق ما يسمى بالعملية السياسية، أو المستقبل السياسي والاجتماعي والوطني للدولة العراقية. لاسيما وأن للاحتجاج فيهما، كما هو الحال بالنسبة لكل احتجاج اجتماعي سياسي كبير، مراحل مساره السياسي والتاريخي. والمقصود بالمسار السياسي هو تراكم الاحتجاج وشحناته التي تتولد منها مختلف مظاهره وأساليبه وغاياته. أما مسار التاريخي فهو تجاوز حالته المتكررة ووقوفها من حيث بدأت، بمعنى إن المسار التاريخي للاحتجاج هو ذاك الذي لم يعد مجرد تسلسل للزمن بل هو تراكم الوعي الاجتماعي.
ففي تاريخ العراق الحديث يمكن رؤية ملامح المراحل السياسية في انتفاضة العشرين وما سبقها من احتجاجات كبيرة، وفي كمية الاحتجاجات التي سبقت وثبة كانون عام 1948، ثم تراكم الاحتجاج وتفجره في انتفاضة 1952، وأخيرا استمرار الاحتجاج وتراكمه حتى تفجر في انقلاب (ثورة) الرابع عشر من تموز عام 1958. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة التي اشبه ما تكون بقانون تاريخي سياسي صارم في كل تاريخ التمرد والانتفاضات والثورات الكبرى. بمعنى بلوغه الحالة التي ينبغي لها تصحيح المسار التاريخي السياسي للمجتمع والدولة.
وإذا كان انقلاب الثامن من شباط الدموي لعام 1963 قد عرقل وشوه هذا المسار الطبيعي السياسي للفكرة الاجتماعية والوطنية، فإنه أدى بالضرورة التي تراكم شحنة الاحتجاج التي وجدت تعبيرها العنيف، بسبب عنف السلطة وإرهابها الشامل، في أول فرصة مناسبة، كما نرى نموذجها الكلاسيكي في الانتفاضة الشعبانية لعام 1991. وإذا كان قمعها الدموي الشامل قد اصاب المجتمع بقنوط ويأس شامل، فإن هذه الصيغة قد أدت إلى أسلوب احتجاجي نخر الدولة من الداخل بسبب انهيار النفسية الاجتماعية والفكرة الوطنية والوجدان الاجتماعي العراقي. من هنا انهيار الدولة كاملة وليس فقط نظامها السياسي في أول معركة جدية مع الغزو الخارجي. فقد تهشمت الدولة كما لو أنها بناء خرب منخور لم يصمد أمام أول صدمة. لقد كانت دولة بلا شعب. أما القوات العسكرية فقد كانت هي الأخرى مجرد قوى خائرة بلا روح مقاتل ومجاهد، بسبب استهلاكها في مواجهة تخريبية مع النفس (الشعب والوطن والدولة). لقد تحلل العراق من الداخل في مجرى عقود قليلة، لهذا أصبح فريسة سهلة للغزو الأمريكي، وذلك لأن العراق كان من حيث الحقيقة والواقع مجرد هشيم ورماد.
لقد أدى القضاء على الدكتاتورية الصدامية إلى انتقال فج واصطناعي للديمقراطية السياسية وملامحها الظاهرية وبعض أساليبها ووسائلها بل وحتى قوانينها ودستورها. غير أنها ديمقراطية تفتقد لأسسها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل عام والسياسية بشكل خاص. فقد كانت الطبقة السياسية التي جاءت إلى الحكم بأثر الغزو والاحتلال هي هي نفسها الحالية. بمعنى أنها كانت تفتقد منذ البداية للروح الاجتماعي والوطني والوجدان الحر. كما إن لكل منها تاريخه الخاص وأيديولوجيته السياسية والعقائدية ومصالحه المختلفة. والمشترك الوحيد بينها آنذاك، أي ما قبل الاطاحة بالدكتاتورية، هو الاطاحة بها فقط. وما عدا ذلك اختلافات جوهرية وتناقضات كبرى عصية على الحل.
لقد أدت هذه الحالة إلى ابتداء مسار جديد للفكرة السياسية وتشكل الأحزاب ونفسيتها وذهنيتها وتوجهها الخاص والعام. وبالمقابل أخذ يظهر المسار السياسي الجديد للمجتمع. وهي مسارات كان من الصعب توليفها في وحدة مقبولة ومعقولة للجميع (العراقي). فقد كان المجتمع مفككا ومنهارا وهلامي الشكل والمضمون، أقرب ما يكون إلى مجموعة من الحثالة الاجتماعية ورماد فكري ثقافي، وهموم تختلط فيها الأشياء كلها بصورة عشوائية. وبالتالي، فإنه كان بحاجة إلى فرز وتصفيف وتوجيه. والقوة الوحيدة القادر آنذاك على القيام بهذه المهمة هي الأحزاب السياسية. وبما أن اغلها آت من الخارج بسبب انعدام الحياة السياسية والشرعية في مرحلة الدكتاتورية، فإن من الصعب توقع فهمها الدقيق والواضح لفكرة الديمقراطية ومناهجها. إضافة لذلك أنها كانت جميعها تفتقد لأبسط أنواع الرؤية الاستراتيجية في بناء المجتمع الديمقراطي والدولة المدنية والنظام السياسي الشرعي. فقد كانت أحزاب الخارج هشة بالضرورة، كما أن أحزاب الداخل المتشكلة بصورة عشوائية رثة بالضرورة. والاستثناء النسبي للأحزاب الكردية. غير أنها كانت تتسم بالكساح الوطني والاجتماعي والديمقراطي. وهي أقرب ما تكون إلى أحزاب العائلة والقبيلة مع هيمنة مطلقة لنفسية وذهنية العصابة. والمشترك الجوهري بينها هو الاستعداد للبيع والشراء مقابل أي فعل.
لكن التحول الذي احدثه الغزو والاحتلال والحكم الامريكي المباشر هو تنظيم التفرقة والانعزالية والتقوقع من خلال نظام الحكم الجديد (المؤقت). وقد كان ذلك نظاما مؤقتا في كل شيئ بحيث صنع ما ادعوه بالعابرين الجدد. وقد كان يكمن هنا مربط الفرس الخنوع، والاستعداد للخيانة بكافة أنواعها ومستوياتها وأشكالها. وهنا كانت تكمن الخطورة الأولية. دستور مؤقت تحت الاحتلال جرى رفعه إلى دستور الاحتلال الثابت! ومع ذلك كانت هذه العملية طبيعية آنذاك من حيث مقوماتها ومقدماتها ولكنها ليست طبيعية بمعايير البدائل الوطنية والدولة العصرية. من هنا ظهور مفاهيم المكونات والمحاصصة والشراكة والتوافق وكثير غيرها. وفيها كان يكمن وقود الاحتراب الداخلي للانعزالية الكردية والتحمس للسرقة والابتزاز باسم المكون المغبون، والشيعة باسم المكون المظلوم، والسنّة باسم المكون المنبوذ. الأمر الذي دفع الجميع صوب منافسة غير عقلانية ومخربة للعناصر والمبادئ الجوهرية للدولة الحديثة والمجتمع المدني والوطنية الدستورية. ومن هنا أيضا حروب الابتزاز الهائلة. من هنا تحلل الفكرة الوطنية والقومية العربية والاستعداد للخضوع إلى خطط القوى الخارجية مثل السعودية ودول الخليج، حيث تحولوا إلى مرجعية "عربية سنيّة" لا محل فيها للعراق. مع إن كل حروب العراق في العصر الحديث مع الجزيرة كانت من جانب "السلطة السنيّة" في العراق. بينما انهمك الشيعة في الاستحواذ على السلطة ومراكزها الأساسية (الجيش والشرطة والقوى الأمنية والمال). والنتيجة تفكك وتحلل الكلّ.
ومع ذلك كان يجري في هذه العملية المتناقضة ويرافقها محاولات (بائسة) لبناء الأسس والأرضية القانونية للدولة الشرعية. غير أن الخلل الذاتي في النظام السياسي جعل من نفسية وذهنية الاستحواذ على السلطة والأرض وما شابه ذلك هي السائدة. من هنا هيمنة وتغلغل الرشوة والابتزاز في كل مفاصل الدولة. مما جعل من السلطة الوحيدة الفعلية والفاعلة في ظل هذا النظام السياسي الكسيح هو الرشوة والفساد. لقد ادخلت هذه الحالة الأحزاب السياسية والمجتمع لحد ما في هذا الصراع المحموم مما أفقد الجميع من كل حس اجتماعي وحكومي ووطني. وبأثر ذلك أخذ الجميع يفقد كل ملامح الحس الأخلاقي والوجداني والضمير الاجتماعي. وأصبحت المنافسة في محاربة هذه الظواهر المخربة من جانب الأحزاب بطاقة الدخول إلى مزاد السرقة. وتحول البرلمان والسلطة التنفيذية ولحد ما القضائية إلى محلات للمقامرة والمغامرة بالثروة الوطنية ومن ثم بالمستقبل. وبأثر ذلك لم يعد للدعوات الأخلاقية من قيمة وأثر وفاعلية. وعموما إنها لم تفعل في يوم ما من الأيام فعلا محسوسا، خصوصا في زمن الانحطاط الشامل كما هو الحال في ظروف العراق الحالية. فالساسة أصبحوا جميعا كما تقول العبارة العراقية ممن "غسل وجهه بالبول". وأصبحوا بالفعل اشبه ما يكونوا بأكياس خراء. فقد كانت همومهم الأساسية هو البحث عن كل ما يدخل فيهم، مما أصبح قدرهم على قدر ما يخرج منهم. وأصبح هذا لهوهم المحبوب!
كما أن المؤسسات الدينية من مرجعيات شيعية وشيوخ سنيّة أخذت بالتسوس. وتحولت هذه المراكز الروحية والأخلاقية إلى مراكز لا روح فيها ولا أخلاق غير المشاركة في هذه الوليمة. وكل عزائمهم تحولت إلى عزيمة بالمعنى العراقي، أي إلى وليمة الأكل والمال والجاه. والمأثرة الوحيدة لها هو يوم الإفتاء في مقاتلة داعش. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن تخوفها من التعرض إلى هلاك شامل في حالة سقوط بغداد. والفضل في كل ذلك كان للحماس الشعبي الهائل بتطوع الملايين من اهل الجنوب والوسط للدفاع عن الوطن. بينما جرى تطويع الحماس على الأقل في الشعارات، ومن ثم في الواقع لمصالح نفس القوى التي أدت إلى نشوء داعش وقدرتها على الدخول والسيطرة في أراضي "حواضنها". من هنا كان الشعار هو "الدفاع عن المقدسات" في ظل واقع لا قدسية فيه على الاطلاق لكل شيئ باستثناء المال والجاه والرشوة والسرقة، بما في ذلك من جانب أغلب المرجعيات و"المؤسسات" الدينية. الأمر الذي يجعل من الممكن القول، على سبيل المقارنة والمشابهة، بأن المرجعيات الشيعية والأحزاب الشيعية وشخصيات "العائلة المقدسة" هم أحفاد الشخصيات والنماذج التي خانت الإمام علي ولاحقا الحسين. إنهم حوّلوا شخصية الحسين إلى صناديق الحصول على التبرعات بينما يصرخون ويبكون في عاشوراء والأربعينية مع كل بداية لخطبهم بعبارة:"لو كنا معكم لنفوز فوزا عظيما". والآن هم ليسوا معهم فحسب، بل وكل شيئ في أيديهم: السلطة والقوة والمال والدعاية والإعلام وكثير غيرها. فأين هو "الفوز العظيم"؟ اللهم إلا أن يعتبروا الاستحواذ والسرقة والغش والخداع والنهب والسلب هو عين الفوز. وهو كذلك. إذ لا دليل غيره!
لقد كشفت هذه الحالة وبرهنت بصورة تامة على أن الفساد المستشري والآخذ في الاستحواذ الشامل والتام عل كل شيئ وفي كل شيئ هو رديف الإرهاب. ومن ثم أصبح كل منها مساعدا للآخر ورديفا له. وهي قضية لم ترتق بعد إلى جعلهما كلاهما من نفس الجريمة وعقابها. إلا أن المجتمع الذي جرى دفعه بصورة حثيثة صوب الافلاس شبه الشامل بمعايير التنمية الفعلية للاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والتربية والتعليم والصحة وغيرها من المرافق الحيوية الأساسية والبنية التحتية للتطور المستديم، قد أدى في نهاية المطاف إلى ما نرى ملامحه الأولية في تحول الاحتجاج المتراكم إلى غليان ثم تمرد. ولا شك في انه سيتحول إلى عصيان عام وانتفاضة قابلة لمختلف أشكال الثورة (الراديكالية والعنيفة والإصلاحية).
وعندما نقرأ ونتأمل ردود الفعل الرسمية والحزبية والحكومية على ظاهرة الاحتجاج والتمرد الأولي فإننا نرى فيها الإدراك المشوه والمقلوب للأسباب والحقائق، مع انعدام فعلي للإصلاح والبدائل. فرئيس الوزراء يقول، بأن التظاهر حق مكفول بالدستور، وانه لا يفرّق بين المواطن والقوات العسكرية، وأن أولويات الحكومة هي الإصلاح. ومهمتها وضع الحلول الجذرية للمشاكل المتراكمة لعقود من الزمن. وأن هناك قوى مخربة في المظاهرات. ورئيس الجمهورية يدعو للتحلي بالحذر والحفاظ على الأمن العام، وأن "أبناء شعبنا يتطلعون إلى الإصلاح!". ومقتدى الصدر يدعو الرئاسات الثلاثة بفتح تحقيق عادل بما حدث. والمالكي يعتبر ما جرى أمر مؤسف لا يصب في مصلحة الجميع. ويدعو إلى ضبط النفس والاحتكام إلى القانون، وضرورة تجنب الاصطدام مع القوات المسلحة. والخزعلي يقول، بأن سقوط ضحايا يشير إلى وجود أياد خبيثة. ومن ثم يدعو للتحلي بالصبر والحيطة والحذر. والحزب الشيوعي ينطلق من الدستور وكفالته لحق التظاهر السلمي. ويشير إلى أن هناك من يشترك في المظاهرات ممن هو "غير واضح الهوية". وهناك من يروج لاستعمال العنف. بينما المهمة تقوم في إجراء تحقيق عادل لما جرى، ويختتم دعوته بالدعوة للإصلاح الشامل. واتحاد الأدباء يدعو للحوار، والحفاظ على مكاسب الديمقراطية، والعمل بالسياق الديمقراطي والسلمي من اجل تلافي تقديم صورة مشوهة عن العراق ونظامه السياسي. ومن ثم الدعوة إلى تغليب العقل والحوار.
إننا نقف أمام قوى باردة تعلمت وأتقنت لغة البلاستيك الرخيص "للعقلانية" و"الديمقراطية" و"الدستورية" وما شابه ذلك، دون أن تغفل جميعها وجود "قوى بلا هوية" و"متسللة" و"مخربة" وما شابه ذلك. وهي عبارات تذكرنا بما كان يقوله النظام الدكتاتوري عن أي فرد وجماعة وحزب تحتج أو تعصي أوامره. بحيث نراه يأخذ آخر حياته بوصم أهل الوسط والجنوب بأثر الانتفاضة الشعبانية بالغوغاء والغدر والخيانة. ولولا خجل تكرارها لكان بالإمكان سماعها الآن من افواه هذه القوى الداعية للإصلاح! باختصار، إننا نقف أمام أسلوب التسويف والمماطلة والكذب والدجل من اجل إبقاء الحالة على ما هي عليه. والسبب هنا ليس فقط في أنهم لا يرغبون بالإصلاح، بل لأنهم ليسوا قادرين بالفعل على تحقيقه.
غير أن النتيجة الجلية لهذه الحالة تقوم في كشفها عن وجود هوة هائلة بين النخبة السياسية الحاكمة والشعب. وإنها تستعيد نفس تقاليد النظام الصدامي. بل نرى مقالات مدبجة عن التدخل الامريكي وما شابه ذلك. بينما أمريكا هي التي أتت بهم إلى الحكم!
إن الأحداث الجارية وما سبقها من احتجاجات البصرة وأمثالها تكشف عن حقيقة عميقة في تاريخ العراق السياسي والثقافي تقول، بأننا نقف أمام نفس التقاليد العريقة والمتغلغلة في أعمق أعماق الذاكرة العراقية ومسام وجودها التاريخي والثقافي. وأقصد بذلك البصرة والكوفة بالمعنى العراقي للمرحلة العباسية، أي مكان الوسط والجنوب الحالي (وأكثر منه).
كل ذلك يكشف عن إننا بحاجة إلى روح الثأر الاجتماعي والوطني كما عمل عليه المختار الثقفي، وإلى عقل المعتزلة في الصراع ضد كل الشعوذة والدجل الديني والسياسي وتجاوزهما بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية والعقلانية والنزعة المدنية والدنيوية (العلمانية).
إن مشكلة الطبقة السياسية بمختلف تياراتها وأشكالها وأصنافها تقوم في فقدانها للبصر والبصيرة والعقل والضمير. إنها تبحث في كل شيئ باستثناء نفسها. إنها لم تحس لحد الآن، ولا اقول تدرك وتعرف، بأن السبب الجوهري لكل ما يجري هو منها وفيها، وفي طبيعة النظام السياسي الحالي وأساليب إدارته للحكم. وهنا دوما تكمن المخاطر القاتلة لهم أولا وقبل كل شيئ. إنهم لا يرون الهاوية وهم على أطرافها. وهذا هو شأن ومصير كل قوة من هذا القبيل.
لقد أعدم العراقيون وقتلوا وسحلوا وأحرقوا جثث العائلة الملكية وأعوانها. وأعدموا صدام وحاشيته. وهو مصير كل من لم يتعظ بهذه العبرة.
إن آفاق التجربة السياسية لنظام الحكم الحالي والحزبي تكشف عن انه لا أمل في إصلاحه الذاتي. لأن جميع من فيه من قوى سياسية أصبحت فاسدة بالطبيعة والتطبع. انها تختلف في مستوى تحمسها للفساد. والأكثر "ثورية" و"إصلاحية" فيها هو اكثرها فسادا.
فقد جرى سابقا تطويع الاحتجاجات من خلال الاستحواذ على شعاراتها الاجتماعية ثم حرفها اللاحق. ونموذج الشعار الأول كان "باسم الدين باكونا الحرامية"، أي باسم الدين سرقونا اللصوص. عندها لم يكن للأحزاب السياسية الدينية أثر فيها، بل انسحبوا خوفا من الاقتراب منها، دعك عن المشاركة فيها. بل إن هناك الكثير من المعطيات التي كانت تتحدث عن "مساكين حركة الصدر" واشتراكهم الخائف فيها من خلال الاقتراب منها ومؤازرتها بالماء وبعض المأكولات والدعوة لها! وحالما خفتت الجولة الأولى ظهرت الجولة الثانية لامتصاصها من قبل التيار الصدري نفسه وبروفات الهجوم على البرلمان ثم "قيادة" الدعوة للإصلاح وشعار (شلع قلع) أي قلع الفاسدون من جذورهم. والتي سيتبين لاحقا، إن هذا القلع كان مجرد من اجل "تنظيف" الأرض لأتباعهم. وبلغ هذا الامتصاص الماكر للاحتجاج الاجتماعي ذروته في مؤامرة تجليس عادل عبد المهدي على رئاسة الحكومة. إذ كان بالنسبة لهم مجرد دمية للتحكم بالسلطة من خلال المساهمة الشرسة في الابتزاز والسرقة مع البقاء وراء ظهره. من هنا موقف الصدر "ننتظر سنة وسنرى". إنها سنة السرقات العنيفة والشرسة وليس سنة الرؤية الاجتماعية والإصلاحية. انها تشبه السماح للجيش باستباحة المدن لثلاثة أيام أو أسبوع فيما مضى. من هنا غياب عبارات الإصلاح ومحاربة الفساد. وعندما يجري استعمالها، فإن المقصود من وراءها دعوة أصحابه لاستغلال الزمن بأقصى طاقة ممكنة للسرقة لا غير.
كل ذلك يوصلنا إلى حقيقة جلية، وهي أن القوى السياسية والحزبية الحاكمة في العراق الآن ليست فقط فاقدة للقلب والضمير والأخلاق والرؤية العقلية والعقلانية، بل وممتلئة بفساد لا حدود له ولا يمكنه الوقوف عند حد غير هاوية الزوال. فكل ما نراه يكشف الهوة الفعلية العميقة بين الطبقة السياسية الحاكمة والشعب. المتظاهرون في مناطق خربة تعكس مستوى الخراب. والسلطة في "حصون" "المنطقة الخضراء". وفي هذه الصورة يتبين بجلاء الاغتراب المطلق للسلطة عن الشعب وهمومه. انه اغتراب في كل شيئ، بالمظهر والملبس والوقوف والجلوس والكلام والمشاعر والفهم، والسكن، باختصار في كل شيئ.
أما الجيل الجديد الذي نرى ملامح وحدود مشاركته في المظاهرات والاحتجاج والتمرد، بوصفه القوة الوحيدة "غير المنظمة" و"العشوائية"، فهو قوة التصنيع المستقبلي للإرادة الشعبية. انه جيل ما بعد الدكتاتورية الصدامية والعمالة "الديمقراطية". انه لم ينضج بعد، لأنه ما زال يعمل ويناضل ويكافح ضمن عجلات المناطقية والجهوية والفئوية والطائفية والعرقية والفقر والتجهيل وانعدام فرص العمل ومختلف مظاهر الانحطاط المتغلغلة في نظام الحكم السياسي وطبقته الحاكمة، أي كل ما يسحق إمكانية النمو والتراكم العقلاني في ظهور قواه السياسية المستقبلية. غير أن هذه الحالة مؤقتة وعابرة. وفيها ومن خلالها يجري تقوية العقل والإرادة والرؤية المستقبلية.
إن حالة الانغلاق هي التي تولد حالة الاحتقان. وما يجري الآن ليس الجولة الأخيرة. وقد تكون ما قبل الأخيرة أو ما قبل جولات لاحقة، إلا أنها ستؤدي بالضرورة إلى نهاية معقولة ومقبولة للمجتمع والدولة، ألا وهي كنس هذه الطبقة السياسية، وبناء أسس جديدة لنظام الحكم، وقواعد جديد في بناء مؤسسات الدولة تلغي بصورة قاطعة قواعد المحاصصة الحزبية وشراكة اللصوص والتوافق في المؤامرات والمغامرات. وكتابة دستور يضعه حكماء القانون في العراق، والتصويت عليه بالأغلبية وكثير غيره، بوصفه الضمانة الوحيدة للإصلاح الحقيقي الشامل.
إن المستقبل الحقيقي المتولد من رحم المجتمع وقواه الحية يلازمه بالضرورة آلام مبرحة. لكنها في الوقت نفسه هي مصدر الفرح الحقيقي. والمستقبل دوما لشبابه. وهو قانون الوجود في كل موجود.
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن