طفلان ضائعان لسلام ابراهيم قصص ترصد وحشة المنفى وتستدعي الحنين إلى الوطن

عدنان حسين أحمد
adnanahmed9@hotmail.com

2019 / 9 / 10

يُنقِّب القاص والروائي العراقي سلام ابراهيم في مجموعته القصصية الجديدة "طفلان ضائعان" الصادرة عن دار "الدراويش" بمدينة بلوفديف البلغارية في منجم سيرته الذاتية والعائلية لكنه لا يتردّد في الانتقال من الفضاء الذاتي المُحتشِد بالأحداث إلى الحيِّز الموضوعي الذي يُعمِّق نصهُ القصصي ويُثريه. ومَنْ يقرأ مجموعاته القصصية الثلاث ورواياته الست سيتعّرف من كثب على الأبعاد السيرية له ولأفراد أسرته قبل أن نلمّ بسيرة مدينة الديوانية التي نشأ وترعرع فيها، وخاض غِمار حياته الثقافية والفكرية مؤازرًا اليسار العراقي من دون أن ينتمي إليه شأنه شأن الكثير من المثقفين العراقيين الذين كانوا يتعاطفون مع اليسار حتى وإن لم ينضمّوا إلى خلاياه السريّة.
تتألف هذه المجموعة من 19 قصة قصيرة، الرابعة منها تحمل عنوان "قالت لي" مُذيّلة بملحق "جُرح الحمامة" وهي مكتوبة في زمن العلاقة بين السارد والنصيرة، والعاشرة "أحلام منفي" تضم ثلاث قصص وهي "وجهك المأمول حجّتنا، معشوقتي الجنّية، وعاصفة هبّت من جواره وضيّعتهُ" التي تشترك كلها بنفس المناخ وذات العلاقة بين السارد المتزوج والمرأة. أما بقية القصص السبع عشرة فهي قائمة بذاتها، ومتنوعة في الأشكال والمضامين السردية لعل بعض أحداثها يعود إلى أواخر الستينات فيما يمتدّ البعض الآخر ليغطّي سنوات المنفى والتوحد والعزلة التي يشعر بها السارد أو الكائن السيري الذي يتطابق كُليًا مع كاتب النصوص ومبدِعها.
يسعى هذا المقال للتركيز على سيرة الذات والمدينة فقط من دون أن نتطرّق إلى موضوعات أخرى كثيرة تتناولها هذه المجموعة التي تستطيع أن تشمّ فيها رائحة البيت والحارة والمدينة سواء في الديوانية أو موسكو، أو روسكيله أو العديد من القرى الكردية في شمال شرق العراق؛ قصص تتسيّد فيها الحواس الخمس؛ فرائحة الجسد في قصة "عشتار العراقية" تُذكّر السارد بروائح "الجوري والخبّاز وأعشاب البرّ التي كان يجمعها من حافات سواقي الحقول المُحيطة بالمدينة". ومع أنّ هذه القصة تقود القارئ إلى ماوراء النزعة الإيروسية إلاّ أنها تتلاقح مع أسطورة عشتار ودموزي لتُعيدنا إلى نبع الحُب الأول وتمنح المتلقي متعة مضاعفة وهو يرصد التماهي العاطفي بين العاشق والمعشوقة.
تُسلّط قصة "القدّيس" الضوء على مدينتي الديوانية وآل بدير، ففي الأولى نتجوّل مع الراوي في "الحيّ العصري"، وسوق التجّار، والمقاهي الشعبية المبثوثة في أرجاء المدينة، بينما يأخذنا السارد إلى غرفة صغيرة في دائرة زراعة "آل بدير" لنتعرّف على الناظر التعاوني "المُعارض" جاسم شبلي الذي أفنى حياته من أجل الأفكار التي آمن بها، ودفع ثمنًا باهضًا في الدفاع عنها، فقد سُجن لمدة ستة أشهر لأنه تناول الورقة البيضاء ووضعها في صندوق الانتخابات فأخذوه وسط صراخ بناته السبع وزوجته لكنهم أخلوا سبيله بعد أن أيقنوا من براءته من الأحزاب الدينية المحظورة. يُساق السارد إلى الخدمة العسكرية لكنه يهرب إلى الثوار في الجبل، وبعد أكثر من عشرين عامًا يعود إلى "آل بدير" ويسأل عن صديقه جاسم شبلي فيخبره المدير بأنه استشهد في منتصف الثمانينات في المعتقل ولم يعثروا على جثته في المقابر الجماعية المكتشَفة بعد سقوط النظام.
يُفجَع الأب السارد في قصة "طفلان ضائعان" حينما يكتشف أنّ ولده البِكر قد انغمس في العنف والمخدرات والجريمة وينتقد نفسه بشدّة لأنه أباح له كل شيء خاصة بعد أن تركه صغيرًا في ظل الحرب والتحق بالثوار في الجبل. لم يستوعب الأب المحنة التي سقط فيها ابنه حينما وجد في بيته وتحت سريره السكاكين والهراوات والأقنعة السوداء التي تستعمل في السطو وتمنّى عند ذلك لو أنه لم يغادر مدينته الجنوبية رغم قسوة الدكتاتورية التي لا تترك المواطن وشأنه. لم يجد هذا الأب المدحور سوى أن ينهال نطحًا ولَكمًا على ساق متين لشجرة حتى أدم جبهته وقبضتيه، وحينما سأله الابن عمّن أدماه؟ أجابه: أنتَ! وعندما عانقه بحنان هرب الكلام من بين شفتيه.
تحظى تجربة "الأنصار" بعناية خاصة من لدن القاص سلام ابراهيم فقد كتب عنها العديد من القصص والروايات التي لم تستنفد مخزونه السردي بعد، وعلى الرغم من تكرار بعض الوقائع والأحداث إلاّ أنها لم تفقد نكهتها الخاصة وكأنّ القاص يريد أن يحفرها في ذاكرة قرائه ومتلّقيه. ففي قصة "قالت لي" يلتقي بالنصيرة "رجاء" ويفتح لها قلبه لكنه لم يلّمح إلى زواجه من حبيبته التي تحدى من أجلها العادات والتقاليد القبلية ليقترن بها إلاّ عندما وصلت رسالة من زوجته. كلاهما يشدّه الحنين إلى الأهل ورائحة البيت والمدينة لكنها سبقته في التسلل إلى الفرات الأوسط فقبضوا عليها مع شقيقها الأصغر وضاعا في تيه الأقبية ولم يعثروا عليهما في أية مقبرة جماعية مكتشفة بعد سقوط الدكتاتور. أما في "جُرح الحمامة" فيتعلّق كل مَنْ في الربيئة بصبية لعوب كانت توزّع سحرها وفتنتها على الجميع حتى أن مسؤولاً كبيرًا كان يقلّد صوتها الناعم المغناج لكننا نكتشف من دون سابق إنذار أنها قد زُفّت إلى فلّاح في قرية نائية وأن هؤلاء المتربّصين لن يكحِّلوا أعينهم برؤيتها بعد الآن.
يعوّل سلام ابراهيم في بناء بعض قصصه على الاستعادات الذهنية كما في قصة "كتابات الفجر" ويروي لنا كيف كان يتسلل بهدوء من بين إخوته في صيف عام 1968 ويخطّ مع صديقه حيدر شعارات تُحرّض الناس على الثورة ضد الحكومة الاستبداية. وبعد 37 سنة يعود من منفاه الدنماركي ليتذوّق تلك النشوة العارمة ويلتقي ببعض الأصدقاء الذين رحبّوا به وعانقوه ومن بينهم حيدر الذي لم يتعرّف عليه لأنه كان يرتدي نظّارة سوداء حينما خلعها شاهد الراوي حفرة صمّاء، وبعد حوار مقتضب مع ثامر الحلاق سنكتشف أن شقيقه حيدر قد داس على لغم ولم يبعد وجهه فأصابته شظية في عينه لكنه بقي حيًا وسُرِّح من الخدمة العسكرية. تتمثل اللحظة الحاسمة في هذه القصة أن الراوي قد نسي صاحبه في كتابات الفجر ولم يجنيا شيئًا، فهو مقيم في منفىً بارد، وصاحبه بائع خردة بنصف قدم، وعين واحدة!
تبدو قصة "اليوم قتلوا قطّي" مختلفة عن بقية القصص فهي تدور في فضاء دنماركي صرف حيث يتعرّض القط Ketti إلى حادث سيارة ويبقى بين الحياة والموت وبما أنّ عائلة الراوي فقيرة ولا تستطيع أن تؤمّن تكاليف الفحص والعلاج التي تقارب 1200 دولار فعليهم أن يعطوا الطبيب إشارة بقتله كي لا يتعذب كثيرًا مع أنّ هذا القط الحميم كان ينقذ الراوي من وحدته ويُخرجه من العزلة القاتلة التي يعيش فيها يوميًا بعد مغادرة الأولاد إلى المدرسة، والزوجة إلى عملها.
تسرد قصة "ضحك" حياة سلام ابراهيم، فقبل 26 عامًا في عربة مترو كاد الراوي أن ينفجر من الضحك الأمر الذي دفع رجل روسي أنيق جدًا أن يسأل صاحب الراوي ويطلب منه الجلوس معه لأنه الوحيد في هذا العالم الكئيب يضحك ببهجة! ثمة قصص قصيرة أخرى أقرب إلى الومضات التي تلتمع في ذهن القارئ ولا تغادره بسهولة مثل "أمي" و "الرفيق" وسواهما من القصص المُحكَمة التي تزدان بها المجموعة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن