أضواء على الزرادشتية

سامح عسكر
ascooor@gmail.com

2019 / 9 / 8

ينتمي الإيرانيون إلى قبائل عاشت على ضفاف بحر قزوين قديما بينها وبين الهنود في الشرق والسلاف في الغرب والشمال صلة قرابة تجمعهم فيما سمي قديما ب "الشعوب الآرية" ومن هذه التسمية ظهر إسم "إيران" وتعني أرض الآريين أو أرض الشرفاء الأوفياء كما في الثقافة الهندوأوروبية الجامعة..

ومن تلك التسمية الآرية يتبين أن فضيلة الشرف والوفاء ملتصقة ذهنيا بجذور الآريين البعيدة منذ آلاف السنين، ولأن الإنسان القديم كان يعيش في عزلة شبه تامة عن المجتمعات المحيطة ظنت كل الشعوب أنها مركز العالم، فالعرب في صحراء نجد والحجاز واليمن لا زالوا يظنون أنهم أصل الشرف والوفاء والمروءة برغم انطباق هذا المعنى في ذهن الآريين أيضا بالنسبة لهم، وبحسبة بسيطة يتبين أن كل شعب في العهود القديمة كان يحتكر الأخلاق والفضائل لنفسه..ولم يكن الانفتاح الضعيف الممثل في التجارة والسياسة سببا كافيا لإزالة تلك النظرة سوى عند بعض الملوك ممن أجبرتهم صراعات السياسة على التواصل، أما الشعوب فبثقافتهم وعزلتهم ظنوا أن الآخر شريرا .

هذه العزلة بين معتقد الحاكم ومعتقد الشعب هيّئت المجتمع ليستقبل أي طموح سياسي للملوك في توسيع نفوذهم وثرواتهم فكانوا يشنون الحروب من باب الفضيلة كما قلنا ليستفيدوا من احتكار الشعب للأخلاق، بينما هي عند الملوك مقصودة بدافع الهيمنة والاستغلال ومصادرة أملاك الآخرين، ولا زالت بقايا هذه العلاقة إلى الآن عدا أنها انخفضت بنسب كبيرة من أثر الانفتاح وزيادة حجم المراقبة لآداء ونشاط الحكام.

تلك المقدمة هامة لاستطلاع دين الإيرانيين القدماء المعروف ب "الزرادشتي" فالإيرانيين كغيرهم احتكروا الفضيلة والأخلاق لأنفسهم دونا عن بقية العالم، والطبيعي أن يأتي ملكا من الملوك أو زعيما دينيا ليستغل هذا الاحتكار في صراعاته حتى رأينا إيران من أكثر دول العالم القديم حربا ممثلة في صراعها الأشهر مع الروم ثم مع العرب والأتراك والروس بعد ذلك ثم مع أمريكا وإسرائيل الآن، ولمعرفة دور تلك الصراعات في تشكل وتطور دين الإيرانيين مع الزمن حتى أنه وفي داخل الزرادشتية نفسها حدثت انشقاقات كما سنوضحها لتظهر أديان جديدة متفردة كالزورفانية والمانوية والمزدكية ..حتى هذه الخلافات ألقت بظلالها على أديان شعوب الجوار في الشرق الأوسط بالذات كونه البقعة التي انتفضت سياسيا على دين الزرادشتيين فاحتكت بهم دون أن تلقي بالا لجوانب الأدب والثقافة والمجتمع.

في البداية لا يمكن فصل دين الإيرانيين القدماء عن معتقد الإنسان العاقل بقوله الأول عن مصادر الكون الأربعة "النار والماء والهواء والتراب" فتلك المصادر هي التي صنعت أيضا دين المصريين واليونان والسومريين القدماء، ومن مظاهر حضور ذلك القول خلق الإنسان من طين وعرش الآلهة وحياتهم في الفراغ الأعلى (كالسماء) وعلى الماء ، فتأتي مرحلة زمنية لاحقة ليتطور هذا المعتقد على شكلين:

الأول: إما بالزيادة لتُضاف عناصر أخرى فوق الأربعة، أو بالنقص ليجري اختصار تلك الأربعة في واحد أو اثنين، ولأن هذه العناصر الأربعة جميعها قد تشكل عنصرا ماديا جديدا كالطين فقالوا أن خلق الإنسان كان من الطين..وبعد إضافة النار له بعد حرقه ليصبح صلصال..هذا المعتقد دخل كل الأديان تقريبا.

الشكل الثاني: بتفسير كل عنصر وإضافة معانٍ مجازية له أحيانا، فيبحثون عن جوهر النار ليصلوا أن مصدره الحسي موجود في السماء على شكل الشمس أو القمر..ومن هذا الاتجاه العقلي جرت عبادة الشمس والقمر بوصفهما تجليا للنار التي هي مصدر الضوء والحرارة..وهذا المعتقد أيضا دخل معظم الأديان القديمة ليتطور إلى عبادة للأجرام السماوية والأفلاك بنفس الأسلوب.

يقول المؤرخ "ميشيل ميسلان" في كتابه "علم الأديان" أن المعتقدات الدينية هي نتيجة لعلاقة مباشرة بين الذات والموضوع، الذات بصفتها النفس الواعية والموضوع كظاهرة كونية حسية، من هنا نفهم الربط الذي حدث في تفسير العناصر الأربعة ليتشكل الدين القديم في ذهن الإنسان، وبعبارة أوضح قال ميسلان أن موضوع الدين هو المقدس في ذهن البشر..فالقمر والشمس مواضيع في هذا السياق يتم تقديسهم فورا..بينما الذات الواعية هي النفس المؤمنة التي يجب أن تخضع بالعبادة لذلك المقدس، وهذه العملية السيكولوجية تحدث بطريقة تطورية في الأخير حيث يمكن لأي إنسان أو مخلوق –حيوان أو نبات – إذا وُضعوا كظاهرة موضوعية حسية يتم تقديسهم فورا بنفس الأسلوب..ومن هذا الجانب جاءت عبادة الحيوانات والنباتات.

إذن فأصل التدين هنا ظاهرة كونية تحدث بقوانين معزولة عن تحكم البشر، فلو وصل الإنسان لكيفية التحكم بها خرجت من كونها ظاهرة لتُنتزع منها القداسة..أما لو ظلت على حالها أو اكتشف الإنسان ظواهر أخرى غير مفهومة فتجري عبادة الظواهر القديمة ثم يتم الربط بينها وبين الظواهر الجديدة لتتشكل عقائد أخرى إضافية..ومن هذا الجانب ظهرت عبادة الجان والشياطين بوصفهم كائنات خارج مركز التحكم البشري.

الدين الزرادشتي تطور بهذه الطريقة بدءا من الاعتقاد بقدسية العناصر الأربعة ليتم اختصارهم في النار كمصدر للضوء والحرارة التي تحمي الآريين من ثلج الهضبة الإيرانية، ليُضاف إليهم في عصور لاحقة الخضوع للجان وانتشار السحرة كوسيط بين البشر وهذا العالم الخفي..ودليل ذلك أنه وعند قدوم الإسكندر الأكبر بجيوشه إلى إيران وصف علمائه كهنة الزرادشتيين بالمجوس Magos والذي يعني في الثقافة اللاتينية ب "السَحَرة" نظرا لما وجدوه باشتغال كهنة الإيرانيين بأعمال السحر، حتى ظل هذا الإسم اليوناني ملتصقا بالإيرانيين فترة ليتم تخليده في القرآن.

شئ آخر يثبت مصدرية العناصر الأربعة في دين زرادشت ما طرحه سليمان مظهر في "قصة الديانات" حيث اعتبر أن سبب دفن الزرادشتيين موتاهم في "أبراج الصمت" وهي أبراج معزولة عن المجتمعات السكنية اعتقادهم قدسية الماء فلا يلقون بالجثث في الماء كما يفعل بعض الهنود أو يحرقون الجثث كما يفعل سائر الهنود، كذلك لا يدفنوها في باطن الأرض لقدسية التراب..مما يعني أن جسد الميت في ثقافة الزرادشتيين نَجِس بخلوّه من الروح المقدسة ولا يصح فقهيا ملامسة المواد النجسة للعناصر الطاهرة، لاسيما أن طقوس الجنازات عند الإيرانيين القدماء ومعاصري الزرادشتية أن من يتولون دفن الميت في أبراج الصمت هم مجموعة محددة لا تختلط بالناس فترة من الزمن بعد الدفن، بخلاف المسلمين مثلا الذي يمكن للحانوتي أو القائم بالدفن أن يخالط الناس ويأكل عادي نظرا لعدم إيمان المسلمين بنجاسة الميت.

كذلك ما يثبت مصدرية العناصر الأربعة ما ساقه مظهر أيضا بعبادة الإيرانيين القدماء – ما قبل زرادشت – الإله "ميثرا" إله الشمس والإلهة "أنيتا أو أناهيتا" إلهة الماء ، وأضيف أن الإيرانيين القدماء عبدوا أيضا الإله "زام " إله الأرض والإله "أنار" إله النار والإله "وهيو" إله الرياح والهواء حسب ما قاله "طه باقر" في كتابه "تاريخ الحضارات القديمة" أما تطور تلك المعتقدات فقد حدث لاحقا لينتهي شكل الدين الإيراني القديم إلى عبادة إله أوحد هو "آهورا مازدا" الذي يصارع رمز الشر الكوني "أهريمان" ولربما هذا الاختصار نتج عن تصور زرادشت نفسه - أو بعض ممن سبقه - لآثار بعض الظواهر الكونية كالرياح المدمرة..هنا الإله "وهيو" إله الهواء ليس رمزا للخير بل ظاهرة شريرة تدمر البيوت والمحاصيل فيرث أهريمان تلك الصفات الشريرة.

في البداية محور الدين الإيراني يدور حول شخص واحد هو "زرادشت" وقد اختلف في وجوده التاريخي، فيقول حامد عبدالقادر في كتابه "قصة الأدب الفارسي" أن زرادشت مختلف في وجوده بين القرن 6 ق.م والقرن 60 ق.م مما يعني أن زرادشت بالقول الثاني كان في عصور ما قبل التاريخ متساويا في ذلك مع الدين الهندوسي والمصري والسومري، و يضيف عبدالقادر في كتابه الآخر "زرادشت الحكيم" أن هناك من ينكر وجود زرادشت أصلا بفقدان أي دليل تاريخي وأركيولوجي له مثلما فقد العالم أدلة وجود أنبياء الدين الإبراهيمي ،إنما الأشهر والراجح عند معظم المحققين أن زرادشت وُجد بالفعل وعاش في ما بين القرنين 6و 7 ق.م ، لاسيما أن هذا التاريخ رافق صعود الدولة الإخمينية التي حملت دين زرادشت ليستمر حوالي 1000 عام سائدا في الهضبة الإيرانية وآسيا الوسطى.

إنما عند العرب والمسلمين ليس ثمة تكذيب لوجود زرادشت بل يثبتوه ومنهم من يرفعه لمقام النبوة كالشهرستاني في "الملل والنحل" وابن حزم في "الفصل في الملل والنحل" والقلقشندي في "صبح الأعشى" ولعل هناك تعاطفا نفسيا من المسلمين مع زرادشت لما قرأوه من توحيد زرادشتي خالص لله وصراعه مع الوثنيين القدماء ولإنزاله صفة الشر من مقام الألوهية لمقام الخلق المتمرد "أهريمان" الذي يساوي في تصورهم لمقام الشيطان، هنا ثمة مشترك بين الزرادشتية والإسلام ساعدها بعض أحكام الفقهاء باعتبار أن المجوس أهل كتاب يفرض عليهم الجزية وبالتالي تُنزع منهم صفات الكفر والشرك أحيانا، مع أن الخلاف شديد في هذه الأحكام لكن السائد عند جمهور الفقهاء أنهم ينظرون للزرادشتيين كأهل كتاب، وفي تقديري أن حكم فقهاء المسلمين ذلك ليس مبنيا على تصور لمعتقد المجوس أو إدراكهم لفلسفة الإيرانيين وتاريخهم بل طمعا منهم بالجزية التي ضربت على الفرس بعد غزوها في عصر عمر بن الخطاب.

إنما المثير عندي أن الأديب "عباس محمود العقاد" في موسوعته "توحيد وأنبياء" أقر بتوحيد ونبوة زرادشت ووصفه بكافة خصال الخير والصلاح..وهذا يخالف نظرة العرب المعاصرين والقدماء عموما للمجوس واعتبارهم عَبَدة للنار لا يعرفون الخير ويتربصون دائما للآخر بما يتوافق مع تعاليم دينهم الشيطاني، وهذا المعنى الأخير منتشر في صحراء شبه الجزيرة لعوامل سياسية قديمة بين الفرس وبعض قبائل العرب النجدية والشامية، أضيف لذلك توجيها لمعنى وجود أهريمان كقوى منافسة لآهورا مازدا فتم اعتبار ذلك الوجود مصدرا للاعتقاد بالثنوية أو المثنوية، فشاع بين العرب والمسلمين أن المجوس مثنويون بهذه الطريقة ، ولو تأملنا في هذا القول سنجد أن وجود الشيطان في الإسلام كقوة منافسة لله ومتمردة على سلطانه يمكن اعتباره ثنوية أيضا بنفس المنطق، فغاية ما هنالك أن المسلمين والزرادشتيين متحدين في تصور الإله الأوحد واختصار معاني الشر في مخلوق متمرد هو رمز الغواية بشكل عام.

والقارئ في كتاب "الأفستا" الذي يعد المصدر الأول للدين الزرادشتي ويحوي تعاليم وأدعية زرادشت سيجد فيه استنكارا للوثنية وتعدد الآلهة القديمة خصوصا ما يتعلق منها بالمصادر الأربعة كآلهة التراب والهواء والماء والنار..على أن زرادشت هذّب مفهوم النار وحطّ منه ليكون معنىً للبركة والطهارة لا العبادة..كذلك هو كتاب خالي من تقديس أهريمان أو اعتباره إلها يُعبَد.. بل كل أدعيته موجهة لخالق واحد ورب واحد هو آهورا مازدا، وربما هذا الاتهام العربي والإسلامي للمجوس بالثنوية دافعه السياسة والجهل بكلام زرادشت معا، وقد ترجم هذا الكتاب للعربية الدكتور "خليل عبدالكريم" مشكورا ليعلم العرب الجانب المخفي في عقائد زرادشت التي على الأرجح لم يعرفها العرب القدامى خصوصا ممن لحقوا عصر دخول العرب بلاد فارس ولم يهتموا بأقوال المجوس ولا معتقداتهم بل اهتموا بنشر الإسلام وفقا للثقافة العربية المحتكرة لنفسها للأخلاق والفضائل كما شرحنا في المقدمة.

وكعادة أي دين لم يكتف الزرادشتيون بالأفستا بل آمنوا ببعض الشروح والطقوس التي وضعها فقهاء المجوس ككتب "الزند والفسبرد والأليسنا" فأصبح تصور دين زرادشت لم يعد محصورا في الأفيستا بل في هذه الكتب على شاكلة السنة في الإسلام والتلمود في اليهودية، وبالتالي لم يعد مقبولا الخروج عن تلك الشروح دينيا واجتماعيا مما أدى لاحقا إلى ظهور انشقاقات بفعل هذا التحكم لتظهر أديان موازية هي الزورفانية والمزدكية والمانوية وجميعها تجلٍ للزرادشتية في صور جديدة آمن بها مصلحين تمردوا على تحكم الكهنة في فهم الأفيستا، وقد قيل أنه حتى الأفيستا نفسه لم يصل إلينا كاملا فما بين أيدينا الآن جزء من 20 جزء كتبهم زرادشت تم جمعه في نسخة واحدة عرفت ب "القنديداد أو الكاتاها" حسب كتاب "زرادشت الحكيم" ولأن البحث في النسخ الضائعة لم يعد ممكنا لتوقف الزرادشتيين أنفسهم عن ذلك أصبح الاهتمام بالمفقود من الأفيستا مثيرا للفضول لكنه يفتح بابا كبيرا للادعاء والخرافة.

لكن ولأن الزرادشتية نشطت في عصر نشط فيه التدوين اليهودي خصوصا في العصر الإخميني وما حواه من أحداث مفصلية هامة لليهود كالأسر البابلي تم إيجاد ربط بين ثقافة زرادشت ونصوص يهودية كتشابه بين أدعية زرادشت في الأفيستا وبين أدعية أشعياء وبعض نصوص سفر القضاه، كذلك في مخطوطات قمران المعروفة ب "البحر الميت" تم إيجاد علاقة بين قيامة الأجساد في الزرادشتية وبين اليهودية في حين غابت تلك القيامة عن نصوص العهد القديم التي لم تهتم في صياغتها بالحياة الأخروية أكثر من عرض وحل مشاكل بني إسرائيل.

وفي مخطوطات قمران بالذات رصدت مفاهيم كالروح الشريرة المنافسة والمتمردة على الله بتطابق مع مفهومي "آهورا مازدا وأهريمان" في الزرادشتية، في تدوين قد يجلب الاتهام لليهودية بالمثنوية على نفس اتهام المجوس بذلك، وقد أشرنا إلى فساد ذلك القول باعتبار أنه لم يقل أحدا من الزرادشتيين أو اليهود أو المسلمين والمسيحيين بأن الشر إلها يُعبد بل تم اختصاره في جوهر مختلف عن الإنسان وحاقدا عليه ليغويه

لكن ما يعزز صحة اتهام المثنوية للزرادشتيين في هذا السياق هو مبدأ الصراع بين "الظُلمة والنور" فالصراع يفترض أنه قائما على تكافؤ قوى بالأساس وليست الفكرة مجرد تمرد من قوة على قوة أخرى، فأهريمان هنا ممثلا للظُلمة التي يصرعها آهورا مازدا كل صباح بالنور، وفي فكرة انبثاق الضياء النوراني عن الظلام السوداوي مبدأ أخلاقي بأن الخير والصلاح لا يتمكن مرة واحدة كما أن النور في الصباح لا يظهر مرة واحدة فتبدأ الشمس حمراء ثم بيضاء لتنتهي إلى اللون الأصفر في وسط السماء، هذا التطور في مراحل ظهور النور يعني أن ثمة مقاومة لمبدأ النور سيادة الظُلمة، ولا سيادة إلا للقوي..بالتالي فأهريمان في بعض مراحله كان أقوى من آهورا مازدا، فكافح الأخير الأول ليحصل على القوة اللازمة لإشاعة النور.

ويعزز ذلك أيضا أن آهورا مازدرا في معتقد الزرادشتيين لم يخلق أهريمان ولم يخلق أرواحه الشريرة، بل خلق العالم والإنسان والكائنات فقط، هذا الجانب الزرادشتي تمثل عند فقهاء المعتزلة بعدم خلق الله للشر، مما استدعى هجوما وتكفيرا لهم من أهل الحديث..بحفظ الفارق بين الاعتزال والزرادشتية بأن الأول يقول بعدم خلق الله (لفعل) الشر لمقتضى العدل الذي يلزمه فعل الإنسان الشر بمحض إرادته ليستحق العقاب واستدلوا على ذلك بالقرآن وبدهيات العقل، بينما الزرادشتية قالت بعدم خلق آهورا مازدا (لإله) الشر لكنه خلق ما يعينه على هزيمته، وقد أثار هذا الجانب بعض رواة الحديث حين نسبوا حديثا مكذوبا للنبي بأن "القدرية مجوس هذه الأمة" ولفظ القدرية في زمن تدوين الحديث كان يُقصد به المعتزلة.

أيضا يعزز ذلك الاتهام مبادئ الزرادشتية نفسها بالإبقاء على النار متقدة في المعابد لاعتقادهم أن بقائها ظاهرة خصوصا في الليل يعني بقاء الخير طوال اليوم وكفاحا للظُلمة الشريرة، ومن هذا الاعتقاد تشكلت مبادئ الاختيار الحر بين الزرادشتيين، فأصل ظهور النور كمقاوِم للظلام يعني امتلاك النور إرادة حرة دفعته للظهور وإلا كانت هناك سلطات غيبية عليه تمنعه من ذلك وسط سطوة الظلام، وقد قلنا في كتابنا الأخير "إيران والخليج تحديات وعقبات" أن الصراع بين الظُلمة والنور هذا في المعتقد الإيراني لا زال حاضرا في الثقافة الآرية على وجهين:

الأول: اعتقاد الإيرانيين أن بلادهم ومجتمعاتهم ليست هي الأقوى بل هي (المكافِح) للأقوى ، والمتتبع للخط التاريخي منذ العهد الإخميني أن الفرس - وأشقائهم في الآرية ضمن إمبراطورية الإخمينيين ثم البارسيين والساسانيين بعد ذلك - قدموا أنفسهم كمُكافِحين للقوة الرومانية ثم الإغريقية، وكثيرا من معارك الإغريق معهم وقعت في أراضي إيران مما يدل أنهم كانوا في موضع دفاع، كذلك في صراعهم الطويل مع العثمانيين والروس في العهدين الصفوي والقاجاري حدث نفس الشئ..وتلك الظاهرة لا زالت مع الإيرانيين إلى اليوم حيث يقدمون أنفسهم كمُكافحين لأمريكا وحلفائها الأقوياء..مما أدى لفوزهم بعواطف أكثرية المسلمين والعرب المعادين لإسرائيل.

هذه النقطة تمثل ثابتا من ثوابت سياسة إيران اليوم، فطالما يقدمون أنفسهم أعداءً لإسرائيل وأمريكا سيظلون أقوياء كأجدادهم في حين لو تخلوا عن تلك الثوابت سيصيروا ضعفاء للحد الذي يتساوون فيه مع الخصوم الأشرار، ولظهور التشيع كأغلبية عقائدية إيرانية تم الدمج بين معتقديّ الوهابية والصهيونية كأعداء أصلاء في المجتمع الإيراني، وعليه كلما ينشط هذين المعتقدين سياسيا ودينيا ينتفض المجتمع الإيراني في المقابل، وقد كانت هذه من أسباب صعود قوة الخوميني في السابق إذ ترافق صعوده مع صعود الوهابية والصهيونية في غزو العالم والشرق الأوسط، فتشكل صراع جديد بين تلك القوى لا زال هو المهيمن على المنطقة اليوم وسيظل مهيمنا ربما لعقود مقبلة إذا لم يَجدّ جديد.

الثاني: أن الصراع بين الظُلمة والنور أحدث في نفوس الإيرانيين تقديسا للعمل والإنتاج، فهم يقدسون الحركة جدا ومجتمعهم نشط بحِرف ومهارات يدوية اشتهروا بها كالنسيج والزراعة والصناعات التحويلية ، فطبيعة الدين الزرادشتي القديم أعطى الأولوية للعامل كما يحكي سليمان مظهر في قصة الديانات خلال عرضة لقصة ولادة زرادشت، فوالد زرادشت بُشّرَ بمولوده وهو يرعى الماشية، وأن عبادة الآلهة كانت مرتبطة بمواسم الزراعة والحصاد والرعي، إضافة لتحريم زرادشت للصيام بوصفه عائقا عن الحركة والعمل..وعندما جاء ماني بعد ذلك في القرن 2 م أقر الصيام على الزرادشتية متأثرا بالمسيحية، فخلق ماني دينا يجمع في أصوله بين المسيحية والزرادشتية إلا أن هذا الدين المانوي لم يدم طويلا ليعود تحريم الصيام إلى المجوس من جديد.

كذلك لم يُذكر في ثقافة الإيرانيين أي تقديس للكاهن (القاعد) كما عند الهنود مثلا الذين يتقربون للكهان المتحدين روحيا مع "براهمان" والذين يقطنون في المعابد ويذهبون لنهر الجانج في موسم الحج من أجل تبرك الحجاج بهم وبأجسادهم، أو عند المسلمين السنة الذين يقدسون خطباء المنابر والفضائيات الذين لم تُعرَف لهم وظائف ربحية غير الدعوة ، هذا لا يعرفه الإيرانيون الذين يشترطون لصلاح الإنسان أن يعمل ويكسب من كدّه وتَعَبه..مما يفسر ازدهار اقتصاد إيران في أغلب أحواله التاريخية إلى اليوم ويجيب على تساؤلات مهمة حول دوافع وأسباب صمود إيران في وجه الحصار العالمي طيلة 30 عام.

من هنا يوجد رابط بين معتقدي "الإرادة الحرة والصراع بين الظلمة والنور" فالثائر على الظلام لابد أن يكون حرا، وصورة الظُلم في نفسه هي صورة الظلام في عينه..وبعد دخول التشيع وسيادته في إيران تم استبدال لفظ الظلام بلفظ "الباطل" لكن الصورة السوداوية عنه الأسبق على ظهور النور لا زالت منطبعة في الذهن ، مما يفسر بقاء إيران المعاصرة في صورة المقاوِم للظلم الإسرائيلي والأمريكي طيلة 40 عاما دون تنازل كما حدث عند العرب..فالمؤكد إذن أن المجتمع الإيراني قبل ثورته سنة 79 كان يكره الشاه مستفيدا من نشاط الإسلاميين واليسار الثائر على إمبريالية الشاه وتحالفه مع أمريكا، ولتلك الثورة جذور في حقبة مصدّق في الخمسينات كما هو ثابت تاريخيا من ردة فعل الغربيين على قرارات مصدّق بتأميم قطاع النفط.

هذا الجانب السياسي مهم عرضه في سياق عرض الدين الإيراني لاعتقادي أن منظومة الفكر مرتبطة ببعضها ولحقائق منها أن شعوب الشرق الأوسط لا زالت تخلط بين السياسة والعقيدة عند كل المتصارعين، ولتفسير بعض الجوانب التي تُشكَل على القارئ أو تحتاج لإجابات منها مثلا ما أجبت عليه في كتابي الأخير عن "إيران والخليج" أن سياسة المرشد بالأصل وحرسه الثوري معبرة عن تصور جمعي إيراني سائد ليس فقط عند الفرس ولكن عند كل قبائل الآريين في آسيا الوسطى بمن فيهم باكستان وأفغانستان، بالتالي مبدأ الضغط على إيران لإسقاط نظامها السياسي هو خاطئ بل يعزز قوة ذلك النظام وانتشاره في تلك المنطقة التي تجمعها لغات وثقافات متشابهة تعود بأصلها للمجموعة الهندوأوروبية قبل آلاف السنين.

وهذا يعزز رأي من يقول بأن فهم الإيرانيين يبدأ من فهم دينهم الزرادشتي القديم لا مجرد الإسلام، وبالقياس فالدين المصري القديم في كثيرٍ من جوانبه لا زال باقيا في نفوس المصريين وسلوكياتهم وطريقة تعبدهم، واختصار ذلك فزرادشت هدف بدينه الجديد أن يصل الإنسان للكمال عن طريق النزاهة الأخلاقية واصطلح لذلك بلفظ Haurvatat أو Hordad بالنُطق الفارسي وهذا لن يتحقق سوى بالإيمان بالله "آهورا مازدا" كخالق واحد أزلي رب النور والخير وقاهر أهريمان، إنما هذا لن يحدث سوى ببحث الإنسان عن الحقيقة واصطلح عليها فارسيا بكلمة Vahishta وللحقيقة دور محوري في الدين الزرادشتي..فهي الركن الثاني بعد الإيمان بآهورا مازدا

ولأن طريق الحقيقة صعب أحيانا وله عوائق تعود لجشع الإنسان فيرى زرادشت أن القوة مطلوبة لنيل الحقيقة واصطلح عليه إيرانيا بلفظ Hshatra Varia أو "شاترا فاريا" والإيرانيين طوال تاريخهم لم يتخلوا عن تلك القوة مما جعل بلادهم حصنا منيعا ضد غزو الأعداء، فمن يستشكل سعي الإيرانيين للقوة وامتلاك السلاح بوجه أمريكا فاللقصة بُعد إيراني زرادشتي قديم متوافق مع الطبيعة الآرية لشعوب ما وراء النهرين، تطور ذلك مع دخولهم الإسلام وذكرهم قوله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم "[الأنفال : 60] والإضافة الإسلامية لمعتقد زرادشت في الاعتقاد بأن قوة الحقيقة أو Hshatra Varia لا توجه فقط للعدو الواضح لكنه مبدأ في حد ذاته لردع من لا يعلمه الإيرانيون لكن الله أو آهورا مازدا يعلمهم..

أما عن معتقد الخلود فالزرادشتية لم تؤمن فقط بأخرويته بل هو قابل للتحقق في الدنيا بالاتحاد الجوهري مع آهورا مازدا، شئ مشابه لعقيدة وحدة الوجود الهندية واتحادهم مع "براهمان" وقد عرف الإيرانيون الخلود الزرادشتي الدنيوي بلفظ Ameretat أو "أميرتات" ولعل هذا المعتقد هو الوحيد في ثقافات الشرق بتفرده وظهوره بمعنىً كثير التعددية والتشعب مما أضاف تعقيدا في فهم الزرادشتيين بالعموم، وفي تقديري أن فهم عقائد الكمال والحقيقة والقوة والخلود بهذا الشكل الذي شرحته سيقرب كثيرا من فهم الزرادشتية حتى يصبح فيه الإيراني كتاب مفتوح.

وقبل أن نغادر قصة المصطلحات الإيرانية فيوجد مصطلح Spenta Mainyu أو Amesha Spenta ويعني الروح المقدسة أو الكامنة في الرب "آهورا مازدا" ومطلوب تحققها عند الإنسان ليبلغ الكمال والخلود..وفي الأفيستا وضحت أن لها شروط تحقق كالرغبة والحماس والإرادة القوية..وكلها صفات ثورية بالأساس نزولا لطبيعة زرادشت نفسه كثائر على الوثنية والشرور في عهده، لذا فالزرادشتي يملك عقيدة ثورية بالأصل مليئة بالحماس والرغبة ظلت مرافقة لكل ملوك وشعب إيران منذ العهد الإخميني، وقد استفاد منها الإسلاميون في ثورتهم على الشاه بإحياء هذه النزعة الإيرانية والكامنة في نفوس العامة..مما يعني أن قصة إيران الحديثة لها جذور غير إسلامية كما تقدم لكنها أخلاقية بالأساس جمعت بين خير الزرادشتية والإسلام مستفيدة من تاريخ وثقافة الإيرانيين قبل آلاف السنين..وهذا سر اعتزاز ذلك الشعب بحضارته وذكرها دائما من باب التفاخر والاستعلاء أحيانا.

أما عن سر تسمية اليونان للزرادشتيين بالمجوس Magos أو السَحَرة فهو مشكِل ثقافي يعود لأن زرادشت نفسه لم يأمر بالتنجيم فكيف رأى اليونان الإيرانيين مجوسا أو سَحَرة في عصر الإسكندر بينما تعاليم دينهم لم تؤسس لذلك؟ في تقديري أن التنجيم لم يكن فقط مشكلة إيرانية بل مشكلة الشعوب القديمة كلها من روما إلى الهند والصين..ومن مصر إلى أدغال أفريقيا، وبرأيي أنه وفي حال ثبوت انتشار السحر في إيران خلال العصر الهلليني فلربما يكون دافعا لثورة "ماني" لاحقا على الزرادشتية واعتقاده بربط العوام بين دينهم والتنجيم، علما بأن المسيحية ضد التنجيم والسحر فجمع المانويون بين ثورة المسيحية على السحر وتعاليم زرادشت في الأفيستا بمذهب ديني أرثوذكسي في طبيعته يطالب بالعودة لأصول الأفيستا وترك خرافات الكهنة المجوس.

والثابت أن دوافع الثورات الدينية الإصلاحية غالبا تكون بمطالب واضحة في العودة للجذور كما عند القرآنيين والمعتزلة والفلاسفة الإسلاميين، ومن قبل عند الإنجيليين في المسيحية..أعتقد أن هذه كانت دوافع ماني التي لم تسعفه ثقافته بالفصل بين مطالبه وطبيعة دين الإيرانيين من جهه وتفسير ظاهرة التنجيم كظاهرة اجتماعية ثقافية مرتبطة بشعوب العالم القديم من جهة أخرى، وهذا الفصل ضروري لتفسير ظاهرة "النباتية" مثلا والتي تنتشر بين شعوب الهند وبين الإيرانيين وشعوب آسيا الوسطى بشكل ملفت، حتى أن زرادشت نفسه ضمن تعاليمه في الأفيستا أوصى بالحيوانات وحبهم ورحمتهم بالشكل الذي يظهر لك أن زرادشت يمنع أكل اللحوم برغم عدم وجود نص لذلك، لكن تفسيرات الكهنة المجوس لتعاليمه ربما أضافت هذا البعد النباتي من جهة غير إلزامية تتسق مع رؤية الآريين للحيوانات بالعموم.

والذي يعزز هذا الرأي أن زرادشت لم يزعم تدخل وتحكم آهورا مازدا في إرادة مخلوقاته، فالإرادة الحرة هي محور الزرادشتية وبحسبة بسيطة فآهورامازدا خلق الكون بقوانين ودعا الإنسان لفهمها والتكيف معها ، لذا فالأخلاق هي لُب الرسالة كي تصل للحقيقة والكمال من أجل الاتحاد مع جوهر الخالق، وعن طريق فهم هذه القوانين يمكن للإنسان تحسين وجوده وتحسين معيشة الكائنات الأخرى كالكلاب الذي دعا زرادشت بأمر مخصوص فيهم بعدم التعرض والأذى، وبالتالي فموقف الزرادشتيين من العلم جيد يقبلون كل نظريات العلم بوصفها قوانين أهورا مازدا في الأخير، لكن يجتهدون في فهمها حسب الحقيقة Hshatra Varia مما يفسر موقف ظاهرة ثقافية إسلامية بأن ظهور العلم والفلسفة الدينية الإسلامية كان في إيران..منها انتقل وتطور لبقية مناطق المسلمين.

مبادرة الإيرانيين في فهم العلم والفلسفة متسقة مع مذهب الإرادة الحرة المتعايش مع قوانين الطبيعة، وهذا يفسر أيضا لماذا المعتزلة – المؤمنين بحرية الإرادة - لم يكونوا ضد العلم..وأحفادهم المعاصرين من أكبر المؤيدين لنظريات التطور والكمّ وغيرها باعتبارها قوانين إلهية ليست مقابِلة أو معارِضة للدين.

كذلك يفسر لماذا الإيرانيين مؤمنين بالفن وتمثيل الشخصيات الدينية المُحرّم تمثيلها عند العرب، فهم وإن كانوا شيعة لكنهم إيرانيين فوق ذلك يعتقدون بأن الفن ظاهرة إنسانية بالتالي فهو قانون كوني يمكنهم التعامل معه بحدود، مثلما تعاملوا مع وجود الحيوانات كظاهرة وقانون كوني رأى زرادشت أن حب الحيوانات واجب تم تفسيره بعد ذلك لعدم الإخلال بالطبيعة، وقد تحدثت مع صديق إيراني قال ناقدا للعرب: أن صيد النمور العربية في الجبال سيؤدي لاختفاء الحشائش والغابات والأشجار، قلت كيف ذلك: قال أن وجود النمور والسباع في مكان ما يمنع ظاهرة الرعي الجائر مما يساعد على نمو الأشجار، عندنا في إيران أماكن وأوقات مخصصة للصيد والرعي والفقهاء لدينا يجتهدون في تفسير النهي عن الصيد في زمن الحج وربطه بالثقافة الإيرانية.

على جانبٍ آخر يوجد ملمح هام لم يتعرض له الباحثون قبل ذلك وهو علاقة اليهودية بالزرادشتية مما يستدعي تحقيقا زمنيا في أيهم الأقدم، فالثابت أن هناك احتكاكا مباشرا حدث بين الاثنين مما يُعظّم من احتمالات تأثر أيٍ منهم بالآخر، فلو ثبت مثلا أسبقية الزرادشتية زمنيا فالتوحيد اليهودي مصدره زرادشت في الغالب وبالتالي يُبحث في طبيعة ذلك التوحيد فلسفيا، أما لو ثبت العكس بأسبقية اليهود فالتوحيد الزرادشتي في جزء كبير منه سيكون متأثرا بعقائد اليهود مما يسهل لنا فهم الزرادشتية من هذا الجانب..

وفي رأيي أن الموضوع مُشكَل تاريخي لم يُحلّ إلى الآن، فعلاوة أنه لا توجد أدلة أركيولوجية على دين زرادشت قبل القرن 7 ق.م لا توجد أدلة على وجود بني إسرائيل قبل عام 1200 ق.م في لوحة مرنبتاح، على أن وجود بني إسرائيل ذلك ليس دليلا على وجود اليهودية كديانة لأنها مرتبطة بموسى تحديدا والذي لم يُعرف زمنه على وجه التأكيد بينما تنسب التوراه إلى عزرا الموثق تاريخيا في ما بين القرنين 4 أو 5 ق.م..بالتالي فهناك فراغا زمنيا كبيرا يصعب بناءً عليه التحقق في وجود أيهما أولا

ولمن يقول أن اليهودية أقدم بكثير قلت أن مخطوطات معبد فيلة المصرية التي يعود تاريخها إلى القرن 5 ق.م لا تشير إلى وجود أسفار للتوراه أو عهد قديم وشريعة معروفة لليهود برغم أن أصحاب تلك المخطوطات يهود كتبوها باللغة السريانية، ولا زالت مخطوطات معبد فيلة المصرية لغز كبير حول توثيق العهد القديم، والأرجح عند البعض من الذين يؤمنون ويطمئنون لوجود التوراه في زمن متقدم قولهم أن من كتب مخطوطات معبد فيلة هم طائفة يهودية صغيرة معزولة لم تكن على علم بيهود فلسطين في ذلك التوقيت ومشكلتهم الأساسية كانت بناء معبد يهودي في جنوب مصر، ورأيي أن هذا الجواب غير مقنع..فالسبي البابلي حدث قبل هذا التاريخ ب 100 أو 200 عام فكيف تجهل طائفة يهودية أحداث السبي بالكلية؟ كذلك فكيف تطالب طائفة يهودية ببناء معبد في مصر عِوضا عن معبد سليمان الذي يفترض أن البابليين قد هدموه؟

الراجح عندي أن اليهودية والزرادشتية ظهروا بتوقيت واحد ربما يكون متوافق مع الظهور الإخناتوني في مصر، بأدلة تاريخية منها أن الإنسان في هذا العصر الممتد من القرن 13 ق.م إلى 6 ق.م كان ثائرا على التعددية الإلهية ولديه توجها بحصر المعبودات واختصارها وتقليص نفوذ الأكثرية منها، تحول في تاريخ الأديان أدى لصراع كبير مع الكهنة أدى لضعف أديان مصر والعراق القديمة الذي يؤرخ عمليا في مصر بتولي "أبسماتيك الأول" أنه بداية لاختفاء ديانة آمون بصراعه مع كهنتهم واضطراره إلى استقدام مرتزقة وجنود يونان لحمايته منهم..مما أدى في النهاية إلى زيادة نفوذ اليونان في مصر الذين لم يجدوا صعوبة لحكمها في عصر الإسكندر بسيطرة تامة دامت نحو 4 قرون.

وبالتالي يمكن القول أن الفترة ما بين القرنين 12 إلى 4 ق.م كان فيها الإنسان ثائرا على تعدد الآلهة وأشكلت عليه معاني التدين البدائي الموروث من قبل التاريخ، ففي هذه الفترة ظهرت ديانات اليهود ورزادشت وإخناتون وبوذا وكونفوشيوش والطاو الصينية، جمعت هذه الأديان في جوهرها مبادئ التوحيد من جهة أو التأمل العقلاني دون الاعتقاد بقوة عليا مهيمنة، وما يعزز ذلك الرأي ظهور الفلسفات القديمة الرئيسية في هذا التوقيت التي بدأت مع طاليس والسوفسطائيين ، ثم تقدم حركة العلم وتدوين الكتب عند الإغريق ..لاشك أن تزامن هذه الحركة وتلك التطورات لم تأتي بالصدفة..بل هي نتاج تغيرات جذرية في بنية العقل البشري تعد هي الفاصل ما بين الدين البدائي وتصوراته والدين العقلاني ومبادئ القرووسطية لاحقا والتي حرصت فيه البشرية على إيجاد صيغة تدين تجمع بين العلم والدين فظهرت حركات توفيقية داخل الأديان في رأيي كانت مستفيدة بشكل مباشر من العصر الهلنستي وقيمه الفلسفية.

أما الدليل العقلي الذي يؤكد هذه النتيجة أن مبدأ توحيد الآلهة هو عن تطور لم يعد يثق في مصدرية العناصر الأربعة ومُجادلا في حقيقتها مما يلزم ذلك بحثا في طبيعة الآلهة عقليا وقدراتهم ووسائلهم وكيفية اتصالهم بالبشر...هذه النقطة بالذات هي التي شغلت الإنسان بعد هذا التاريخ وإلى الآن مما أدى لظهور مئات الأديان الجديدة، وعندي أن ملاحم هوميروس اليوناني هي آخر ما تم تصويره أدبيا في ظل سياقات ضعف التعددية مما استدعى ثورات عقلية يونانية عليها بعد ذلك أدت لنشوء العصر الهلليني العقلي والباحث في أصول الكون والآلهة والأشياء ودراسة الإنسان أخلاقيا وأنثربولوجيا أحيانا.

من هنا نربط الدليلين التاريخي والعقلي بأن توافق ظهور الأديان التوحيدية مع الحركة الهللينية العقلية - ثم الربط فلسفيا وروحيا بينهم بعد ذلك في العصر الهلنستي - دليل على أن الإنسان طوال هذه الفترة التاريخية لم يعد مؤمنا بجدوى التعدد، حتى في الهندوسية ترافق ظهور بوذا مع ظهور عزرا وزرادشت كما هو شائع، مما يدل أن الحركة العقلية والروحية لاختصار أديان ما قبل التاريخ كانت قوية في هذا الزمن..إنما لعوامل مختلفة بقي الدين الهندي كما هو عليه بشكل كبير لم يتطور ربما لنجاته من غزوات الإسكندر والرومان وعدم اهتمام الإخمينيين بالتوجه شرقا وحصر صراعهم مع الروم في الغرب، هذا جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة دينية ملتهبة ورثت تلك الصراعات إلى الآن.

ولكن هذا القول يؤدي بطريقة غير مباشرة للطعن في صحة العهد القديم والقرآن واعتبار أن صعود موسى للجبل وكلامه مع الرب مستوحى من صعود زرادشت إلى جبل "سابلان" ونزول كبير الملائكة عليه "فاهومانا" ليَعرج به إلى الله في السماء وينزل عليه الرسالة التي شكلت محور أدعيته وصلواته في الأفيستا، ورأيي أن هذا التشابه يؤكد ما قلته بأن الإنسان في ذلك الزمن كان ثائرا على التعددية، وأن غاية ما هنالك أن المسلمين واليهود لديهم اعتقاد خاطئ باحتكارهم للتوحيد والرسائل..فالجائز أن الله بصفته القوة العليا المهيمنة والعلة الأولى للكون أن يرسل أنبياء لأقوام مختلفين لا يعرفون بعضهم، وفي قول الشهرستاني بنبوة زرادشت رأي يؤكد ذلك.

وينسى القائلون بهذا الطعن أن محور كلام زرادشت وقصة حياته مختلفة في أكثر تفاصيلها عن العهد القديم والقرآن كإيمان زرادشت بالنار المقدسة والأرواح الخالدة في النباتات والحيوانات ..كيف لم تنتقل هذه التفاصيل لليهودية والإسلام؟..لماذا انتقلت قصة صعوده للجبل تحديدا دون غيرها؟..وهل في اليهودية بالذات أي قصص لصعود الأنبياء إلى السماء؟..نحن نعلم أن فكرة صعود المخلوقات إلى السماء لتلقي رسائل إلهية وجدت في معرج أخنوخ في المسيحية وفي أحاديث المعراج في الإسلام برغم خلوّ القرآن منها، لكن الذي نقل قصة صعود زرادشت لجبل سابلان ليثبت بها نسخ قصة صعود موسى لجبل الطور تناسى أن قصتي الصعود للجبل والسماء متلازمتين في المعتقد الزرادشتي فكيف لم ينتقلا بحذافيرهما لليهودية ما دام القائل أو الناسخ واحد؟

لكن تبقى أحد أهم الإشكاليات حول الزرادشتية أن موضوعها الأبرز هو الإيمان بالإله الواحد "آهورا مازدرا" إله الخير والنور معه 6 ملائكة نصفهم ذكور يمثلون الحكمة والشجاعة والعدل والبقية إناث يمثلون العفة والإخلاص والكرم، هؤلاء الذين يتصارعون مع أهريمان وأرواحه الشريرة كالنفاق والظلم والبخل والقتل..إلخ..هذا الموضوع يتعارض مع بعض نصوص الأفستا التي يذكر فيها زرادشت الإله "ميثرا" إله الشمس الأشهر في دين الإيرانيين القدماء والذي تعود عبادته للألف الثاني ق.م وربما تعود عبادته لأديان ما قبل التاريخ، إن أركيولوجيا إيران نقلت زرادشت ومعه ميثرا في صور وتماثيل قائمة مما يدل أن ميثرا لم يفارق أهورا مازدا في مرحلة زمنية ما في عمر الزرادشتية، وفي دائرة المعارف البريطانية (28/1039) ما يفيد عبادة ميثرا في حياة زرادشت مما يوجد لبساً حول معتقد الزرادشتيين الأوائل.

ورأيي أن هذا التزاوج طبيعي ويحدث في معظم الأديان غالبا، فالدين الجديد لا يقضي على الدين القديم مرة واحدة بل تأخذ فترة زمنية تكون فيه معتقدات الناس تطورت ليجري الفصل بين الدينين في مرحلة لاحقة ودليلنا في ذلك أربعة أمور:

أولا: الزرادشتيون المعاصرون لا يعرفون عبادة ميثرا..مما يدل أن جوهر الزرادشتية لا يؤمن به إلها.

ثانيا: ظهور زرادشت الأول لم يكن مخترعا لدينٍ جديد حسبما يظهر من نصوص الأفستا نقلا عن سليمان مظهر في قصة الديانات، فعندما سألوه عن قدسية الآلهة القديمة لم ينكر قدسيتها ولكنه لم يعتبرها آلهة..وبالتالي يظهر أن هناك فارقا عند زرادشت بين الألوهية والقدسية، فلربما ذكر ميثرا وتم تصويره بجوار آهورا مازدا من هذا الجانب أنه مقدسا يرمز للشمس والنار ليس إلها حقيقيا..والتاريخ ينقل لنا أن المسيحية في عهدها الأول كانت حركة إصلاحية يهودية ثم انفصلت لدين مستقل في عصر لاحق..وبالتالي ما الذي يمنع نشوء الزرادشتية كدين إيراني إصلاحي في بداياته..

ثالثا: ميثرا كان إلها للشمس التي هي مصدر الحرارة والضوء والنار، هذه كانت ولا زالت قيمة مقدسة في دين الزرادشتيين ، ليس فقط فعلى ضفاف النيل عبد المصريون رع الخالق في صورة الشمس..حتى عندما تطور لآمون ثم لآمون رع ثم لآتون لم يفارق قرص الشمس رأس الإله..وهذا يؤكد ما قلناه في البداية عن رمزية النار وكل ما يتعلق بها في معتقدات الأوائل.

رابعا: الاضطراب الزمني في توثيق كيفية نشأة الزرادشتية يقول أنها مرت بمراحل لم تنفصل كما قلنا عن الديانات الإيرانية الأولى، لكن في زمن ما فصلت لتستقل..هذا الزمن هو الذي سجل فيه الأفستا وبدأ عصر التدوين الزرادشتي، وبالتالي يظهر لي أن كُتّاب الأفستا وغيره لم يلحقوا زرادشت وأنه يشكل الرواية الوحيدة والموروثة عنه بدليل سيادة مخاطبة الإله الواحد الأوحد والخالق على 99% من محتوى الكتاب ، وأن الأقلية التي ذكر فيها ميثرا كانت رواسب تاريخية وتأثيرات عند المصنفين من الدين القديم المختلط.

وعن انشقاقات الزرادشتية فأهمها (الزورفانية) Zurvanism التي تقول ب(الزمن اللانهائي) أي لا وجود لخالق عندهم، وانشقاقها عن الزرادشتية بسبب قول الزرادشتيين أن "أهورا مازدا" رب النور والخير أقوى من "أهريمان" رب الظلام والشر..فاعترض الزورفانيون وقالوا أن كلاهما توأم متساوي القوة..وأبناء لقوة عليا تدعى "زورفان" هي أصل الوجود، وهؤلاء نشطوا في العصر الهلليني، الذي يُحتمل أن قولهم بلانهائية الزمن هو لاحتكاكهم مع الفلسفة اليونانية الهللينية بعد غزو الإسكندر بلاد فارس، لكن ظلوا في إيران مضطهدين ومعارضين لا يمثلون رؤية السلطة والدين والمجموع

لكن مع بداية العصر الساساني في القرن 3 م سادت رؤيتهم تعاليم الزرادشتيين، وأصبحت شعوب ما وراء النهرين تساوي بين قوتي النور والظلمة، لاحظ أن فلاسفة إيران الإسلاميين هم أول من قالوا بلانهائية الزمن المشهور وقتها بعقيدة (قدم الكون) كالفارابي وابن سينا وأبو بكر الرازي، فهؤلاء لم يأتوا بعقيدة جديدة..ولكنها الدين المشاع في بلاد فارس وقتها..حتى مع دخول الإسلام بلاد فارس مزجوا بين تعاليمه وبين تعاليم الزورفان الزرادشتيين في السابق..

يوجد تطور لاحق للزورفان هو العقيدة "المزدكية" التي أسسها مزدك المنشق عن المانويين، فتساوي النور والظلمة عنده هو أصل الوجود..بمعنى أن تفاعل متساويين هو أصل نشوء وبقاء الحياه، وهو قول سياسي بالمناسبة ساوى فيه بين البشر جميعهم ، مما دفع بعض المعاصرين لوصف المزدكية أنها (أول دين اشتراكي) في التاريخ، ومُلهِمة جدا لفلسفة اليسار، ويقال أن يسار الثورة الإيرانية سنة 79 اتهم بعضهم بالمزدكية.

بحلول القرن السابع الميلادي وبعثة الرسول محمد في مكة كانت بلاد فارس زورفانية مزدكية معا..أي أنها زرادشتية صحيح لكنها زرادشتية متطورة عن التي كانت سائدة في العصر الإخميني والهلليني، والتطورات التي لاحقتها سمحت بتفسير جديد للإسلام بعد دخوله في تقديري هو السائد في العصر العباسي الأول المشهور في التاريخ بعصر الموالي والفرس، وهو الذي شهد أول حركة فكرية روائية صنعت تراث المسلمين، ومن وجهة نظري لا يمكن فهم أفكار المذاهب المسلمة التي صيغت في هذا الزمان (فكريا ومنهجيا) دون فهم المزدكية والزورفانية معا، فالمتتبع لقصة حياة زرادشت بدءاً من علامات ظهوره وولادته والمعجزات والكرامات التي صاحبت أمه نجد أنها دست بالحرف على النبي كذلك قصص المعراج والصراط والمهدي المنتظر أصولها الزرادشتية واضحة.

نعم توجد اتفاقات بين الإسلام والزرادشتية لكنها ليست حصرية بهم فالإيمان بالتوحيد والحياة الآخرة عرفه المصريون القدماء والمسيحيون، لكن تأثيرات زرادشت أعتقد أنها لم تتوقف على المسائل عالية بل طالت طُرق تفكير الفقهاء والرواة والفلاسفة المسلمون في العصرين العباسي والأموي، لذا أتفق مع الذين يقولون بأن دين المسلمين الحالي -والمقلد للسلف الأوائل - هو نسخة شبيهة من دين زرادشت ومجتمع خراسان وآسيا والوسطى فترة من الزمن، أما القرآن ففيه ثوابت وأركان ضد الزرادشتية كالصيام والطلاق والدفن وقصص الأنبياء وعدم نشر الدين بالقوة..وتلك الجزئية الأخيرة ذكرها سليمان مظهر في قصة الديانات باستعراض قصة زرادشت مع مملكة "توران" وابتزازه الملك بعدم تسديد الديون مقابل الإيمان بآهورا مازدا.

ورأيي أن مبادرة علماء الفرس بفهم الإسلام عقليا قبل أي شعب آخر هو لطبيعة المزدكية بالأساس، فمصر كانوا أقباطا والعراقيين كلدان والشام سريان، وجميعهم مسيحيين محافظين وملزمين باعتقاد الكنائس، أما مزدكية فارس فكانوا مهتمين أكثر بالتواصل الاجتماعي والسعادة التي نتجت باتحاد النور والظلمة لإيجاد الكون، أي أن الكون عندهم سعادة بالأساس، والإنسان السعيد هو الأكثر قدرة على التفكير بشجاعة وحرية دون اعتبار لعامل الخوف، كذلك فعلماء الفرس كانوا أقل اهتماما بالشكليات الدينية، ونظروا للدين على أنه طاقة عقل وتأمل وإصلاح اجتماعي – نفس المنهج المزدكي – وباعتبارهم حركة إصلاحية فارسية فهم كانوا ثوارا على الظلم الطبقي وفساد رجال الدين كأي حركة إصلاحية في التاريخ..

الزورفانية انتهت لأسباب لا أعلمها..لكن المزدكية - ورغم أن أتباعها اندثروا ولم يبق منهم سوى قليل من الزرادشتيين - لكن أفكارهم ما زالت باقية ملهِمة ، ورأيي أن الصحابي "سلمان الفارسي" كان متأثرا بهم ، يحكي علي الوردي في كتابه "وعّاظ السلاطين" أن سلمان كان نصيرا للفقراء ليس فقط لفقرهم ولكن لأنه يعتقد أن الغنى الفاحش كالفقر الفاحش، كلاهما يؤديان لضياع الدين، وهي وجهة نظر مزدكية تعني أن تحسين حياة الناس الاقتصادية هي شرط ممارستهم للدين والفكر.

ويبقى أن وجود الزرادشتيين الآن في معظمه داخل الهند بسبب أنه وبعد غزو المسلمين لبلاد فارس بدأ الخلفاء في فرض الشريعة الإسلامية ومعاملة المجوس/ الزرادشتيين ككفار، ومعابد النار تحولت لمساجد في ظل اضطهاد وقتل لعلماء الدين الإيراني، أصبحت فارس بعدها مكان غير ملائم للزرادشتيين، وبرغم إن الدين نشأ وترعرع وتكون وانتشر في إيران لكن الأغلبية هاجروا للهند بقصة طريفة شائعة موجزها كالتالي:

مع نهاية القرن الثالث الهجري بدأ الزرادشتيين في الهجرة حتى وصلوا الهند وهناك استقبلهم الهنود بترحاب وتسامح، لكن الملك "جادي رانا"jadi rana لم يوافق على دخولهم، ويحكي الموروث الزرادشتي أن الملك الهندي جاء بوعاء مملوء بالماء على آخره وشرح للضيوف كيف أن الوعاء لن يحتمل المزيد، فقام أحد حكماء الزرادشتيين بوضع قطعة سكر في الوعاء حتى ذابت ولم يفيض الإناء، كان ردا ذكيا أوصل رسالة مفادها أن الزرادشتيين لن يكونوا مشكلة وسيحترمون تقاليد وأديان وأعراف الهنود، ومعها بدأت رحلة الزرادشتيين في الهند حتى استقبلوا الهاربين من حكم الخلفاء تباعا مع حفظ تسامح الخليفة "المعتصم بالله" الذي لم يُسجل في عهده اضطهادا للزرادشتيين فتسامح معهم وأوقف هدم معابدهم وتحويلها لمساجد، لكن سياسيا ربما سلوك المعتصم كان محاولة منه لكسب بقايا الزرادشتيين ضد خصومه من البيزنطيين والعلويين وثورتي بابك الخرمي والمبرقع اليماني..

وأما أشهر اتهام طال الزرادشتيين كان إجازتهم لزنا المحارم، بينما في الحقيقة لو كان هذا صادقا لانتهوا بأمراض وراثية مميتة، بينما الزرادشتيين والإيرانيين عموما باقين كما أي شعب آخر لا يعاني من أمراض وراثية ثبت علميا وجودها كظاهرة للاتصال الجنسي بين الأقارب، وفي تقديري أن ما أعطى هذا الاتهام شيوعه الحالي أنه صدر عن طريق جهات متعددة ، أذكر منها خصومهم الثوار المانويين والزورفان والمزدكيين الذين ظهروا كمصلحين في المجتمع الإيراني بزمن قريب من الإسلام، ولا يخفى تأثير دعاية ثوار مجتمع قديم عند شعوب الجوار

كذلك خصوم المزدكيين بعد تأثيرهم على المجتمع الفارسي في عصر الملك "قباذ الأول" فالمزدكيون أصحاب فلسفة سعادة أقرب للأبيقورية ، وكانوا يقولون أن التأمل والتفكير العقلي لن يتوفر في ظل مجتمع حزين ومكتئب، فالراجح أن خصوم تلك الفلسفة الأقرب للتحرر – الذي هو شرط السعادة – رأوا أنه لا حدود للتحرر المزدكي المقصود فتوسعوا في تأويله ليطال تشريعهم زنا المحارم، وهو سلوك لم يُرصد تاريخيا عند الإنسان وأسلافه لاسيما أن العلم يؤكد تضرر نسل أكثر الكائنات منه على المدى الطويل.

بحثت عن أصول هذا الادعاء التاريخي وجدته منسوبا للصحابي"علي ابن أبي طالب" والأئمة في العصر الأموي، ولو كان هذا صحيحا لأقره الرسول الذي تعامل مع مجوس هجر والبحرين (الأحساء وجزر البحرين حاليا) وفي موطأ مالك روى ابن شهاب أنه أخذ منهم الجزية ليجري اعتبار الزرادشتيين أهل كتاب بتلك الواقعة، حتى روايات وصف القدرية بالمجوس لم يرد على الرسول وصفهم بزنا المحارم، وهذا يرجح أنه اتهام صدر من أتباع النبي في أعقاب غزوهم لفارس إما انتقاما من ثورات ومقاومات وإما استجابة لخصوم الزرادشتية والمزدكية كما أوضحا، أي مجرد إشاعات واتهامات كانت داخل المجتمع الفارسي نفسه وموجهة بالأصل لرجال الدين والملوك..بدليل أن رواية الإمام علي كانت ضد "أمير فارسي" وليست لشخص من العوام..(مصنف عبدالرزاق 10029)

باختصار: زنا المحارم يعني أمراض وراثية وخطر وجودي يقلل من الإنجاب ويكثر تشوهات الأجنة، وحدوثه في مجتمع لمئات الأعوام كفيلُ بضياعه، ما بالك والزرادشتية عمرها آلاف السنين..!..هذا كفيل بنفي التهمة من حيث المبدأ ، لكن يبقى السؤال من أين صدرت ولصالح من بشكل مؤكد؟..هذا مبحث تاريخي مهم أراه من أهم المباحث التاريخية والاجتماعية لتفسير مجتمعات الشرق الأوسط على زمن الرسول، وأكتفي هنا بنفيه علميا مع بعض قرائن ومداخل بحث جادة قد تُسهّل إيجاد المصدر.

أما من جهة علاقة الزرادشتيين باليهود فهي جيدة لموقف الملك "قورش العظيم" من اليهود في الأسر البابلي، فهو الذي خلّصهم وساعدهم في بناء المعبد الأورشليمي بعد ذلك، حتى أن إسرائيل تدين بالفضل لهذا الملك إلى الآن بتخليد إسمه في أحد شوارع الدولة إضافة لإصدار طابع بريدي بإسمه، ومن هذه العلاقة أوجد بعض الباحثين صلة للملك الإخميني بشخصية "ذي القرنين" الوارد ذكرها في القرآن، باعتبار أن اليهود وقتها كانوا ممثلين للإنسان الصالح الموحد ومساعدة قورش لهم بركة من الرب وتعبير عن كرامة إلهية ورسالة من السماء بدعمهم.

يعزز ذلك حِكم ومواعظ قورش المتداولة بين الإيرانيين ، فعلى ما يبدو أن مكانة هذا الملك الإخميني لم تكن فقط سياسية بل دينية فلسفية واشتهر عنه قوله " أن النجاح يجب أن يكون فرصة ودافعا لمزيد من العدل واللُطف والكَرَم لا الذين عاشوا في الظلام ورأوا نجاحهم فرصة للجشع" تأمل لفظ الظلام على لسان قورش إنه متأثر بقاعدة زرادشت المختصة بصراع الظُلمة والنور، فقورش إذن مبعوث للنور وإرساء العدالة والكَرم مثلما يعتقد..وفي تقديري أن الإيرانيين يظنون أنفسهم كذلك لم يتخلصوا بعد من قاعدة زرادشت عدا أنهم طعّموها بإضافات إسلامية لم تغير المعنى .

لكن تبقى أهم ما يفصل الديانتين ببعضهم هو موضوع "الإرادة الحرة" فاليهود جبريين في تصورهم للرب وإقراره بأفضليتهم واحتقارهم للأغيار..ولولا الثورة التي أحدثها كل من موسى بن ميمون وسبينوزا لأفلت اليهودية منذ زمن، لكن ما زلنا نرى إلى الآن فلاسفة يهودا للتوفيق بين دينهم والعلم والمجتمع كالحاخام "إبراهام هيشل" والفيلسوف "مارتن بوبر" إنما الزرادشتية تجاوزت معضلات الجبر والحرية مع مؤسسها وبالتالي لم تكن بحاجة إلى مفسرين وشارحين يسيئون فهم النصوص أو حكام يوجهون قول المؤسس لمصالحهم الخاصة، وتبقى الإرادة الحرة أهم ما يميز الزرادشتية عن غيرهم لوضوحها التام في دينهم وممارساتهم الطقوسية فلا إجبار للناس على العبادة كما يحدث عند المسلمين مثلا بإجبار الناس وضربهم على الصلاه.

ومجمل ما يميز الإرادة الحرة عموما هو اعتمادها على ثلاثية (التفكير – الكلمة – العمل) بالتالي لا أهمية لطقوس وعبادات شعائرية في فعل الخير ، فالتفكير الحر والكلام والعمل الناتج عنهم سيعطى نتائج معبرة عن جوهر الإنسان الصادق..وهذا هدف التدين بالعموم أن يعبر الإنسان عن ما يفكر به ويشعره دون قيود كي يتسنى له البناء وفعل الخيرات إذا أراد ذلك، وعموم البشر لا يرفضون فعل الخيرات إنما يختلفون حول تقييمهم للأحداث ونسبية مصالحهم، وكأن معتقد الإرادة الحرة يخاطب جانب الخير في الإنسان ويريد تطويعه لخدمة المجتمع كما ينبغي، ومن هنا حرّض زرادشت على العمل والجهد لكونه عائدا طبيعيا للتدين ووسيلة أولى لإرضاء الرب والخلاص الأخروى.

لكن هذا لا يعني أنه لا طقوس في الزرادشتية فهي دين له تعاليمه وجماعته الخاصة، إنما وفقا للإرادة الحرة فالطقوس والشعائر هي وسائل تجمع وأحياء قيمة التفكير والتأمل والكلام والعمل..فهي إذن سُلّم وصول عقلي وروحاني لآهورا مازدا، وفي تقديري أن هذا ينطبق على كل الصلوات بما فيها صلاة المسلمين..أن طقوس وشعائر المسلمين مقصود بها الجمع والتذكير بقيمة العقل والروح واللسان والعمل..أما أن طقسا ما يؤدي للتحريض على الآخرين كما يحدث في مساجد المسلمين فهذا لا يعرفه الزرادشتيون ولا مثقفي ومعتدلي المسلمين، ويمكن القول أن مركز صراع المسلمين مع أنفسهم والعالم الآن هو دور المسجد في التدين كمؤسسة طقسية لها برنامج خاص لتأهيل وتدريب المسلمين على العمل..ففساد هذه المؤسسة يؤدي بالضرورة لفساد البرنامج وكل ما يتعلق به من تأهيل وتدريب.

أخيرا: كان هذا عرضا وتحليلا للزرادشتية لم يهتم بسرد تاريخ ملوكهم ومصلحيهم لكن عرضنا فكرتهم الرئيسة وخطوط مذهبهم العريضة بما يمكن للقارئ فهم هذا الدين كلُ حسب طريقته، فشرح المعتقدات لن يفي بمطلقها أبدا لاختلاف موضوعها من حيث جوانب "الجوهر والشكل والإجراء" وقد شرحت على صفحتي بالفيس بوك الفارق بين الثلاثة جوانب في تناول أي موضوع واختصاره " أن الجوهر: يعني بتعريف الفكرة وموضوعها الأساسي مجردا، والشكل هو الصورة المنطبعة في أذهان الناس عن تلك الفكرة بشكل نسبي، وهذا الجانب متغير لا يمكن الاتفاق عليه في الغالب لتعلقه بالمصالح والرغبات والقدرات العقلية والنفسية، وأخيرا: الإجراء الذي يهدف لتطبيق (جوهر) الفكرة أو واقعها (الشكلي) في الحياه، مما قد يفرض عليك تحليل الفكرة وتقسيمها وإعادة تعريفها أحيانا"

وبتمثيل بسيط فجوهر الزرادشتية هو "الأخلاق والإرادة الحرة والحقيقة والكمال والقوة والوحدة مع الخالق" أما الشكل فسيخضع لانطباعات وقدرات الناس في تقبل هذا الجوهر لأن الجاهل مثلا والكسول لن يهتم بالحقيقة والضعيف الجبان لن يهتم بالقوة والخانع المستعبَد لن يهتم بالإرادة الحرة..وهكذا..بالتالي فتعريف الزرادشتية سيختلف حسب هذه الصور الذهنية والأشكال المختلفة عند الناس، ويأتي الإجراء كتطبيق لشريعة آهورا مازدا وقدرة ورغبة الحكام فيها..أما هذه الدراسة فاهتمت فقط بعرض ما تحمس له الزرادشتيون وغاب في معظمه عن الثقافة العربية من ناحية مصحوبا بتحليل ومناقشة فلسفية وربط بين الظواهر المعاصرة وهذا المعتقد للتقريب من ناحية أخرى



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن