الذات في الفكر العربي الإسلامي

حميد لشهب
hlechhab@yahoo.fr

2019 / 9 / 3

صدر للفيلسوف المغربي محمد المصباحي مؤلف" "الذات في الفكر العربي الإسلامي"، عام 2017 ببيروت، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات القطري، لينضاف إلى العديد من الدراسات العربية الإسلامية في هذا الإطار. ولا تُعتبر الدراسة تكرارا واجترارا -ولربما أيضا توسيعا- لما سبقها من الدراسات في الموضوع، بل لها ما يميزها ويجعل منها دراسة تستحق الاهتمام.

يوحي الكتاب، تقنيا، بأنه بني على أساس ورشات متعددة، لا يلقي القارئ القبض على خيطها الناظم إلا بعد إنهاء القراءة. ولعل تقنية ربط القارئ بمحتوى الكتاب من مميزات هذا الأخير، بالنظر إلى طريقة تدوين المفكر المصباحي لأفكاره من جهة ولأسلوب كتابته الواضح والسلس من جهة أخرى، يوصل الفكرة دون تكلف في اللغة؛ وهذا بالذات ما تحتاجه "الذات العربية الإسلامية" حاليا. الكتاب ضخم من حيث الأفكار والحجم، لذا لا مفر من اللجوء إلى تركيز ما نود تقديمه هنا، دون المس بالمضمون.

لا يختار الفيلسوف المصباحي طرقا ملتوية للإعلان عن موضوع دراسته، بل يعلن عنه في السطور الأولى من كتابه: "تدور معظم بحوث هذا الكتاب في الأساس حول البحث عن الذات في الفكر العربي الإسلامي في صورها الفلسفية والصوفية، الفردية والتاريخية، الأنطولوجية والعمرانية ...." (ص 11). والهدف المُعلن واضح للغاية: "البحث عن الذات" وليس في الذات، بالخدش في تصور مجموعة من المفكرين العرب المسلمين للذات كابن باجة، ابن طفيل، ابن خلدون، الغزالي، ابن رشد، المكلاتي، ابن ميمون. ولهذا الإختيار دلالاته الموضوعية والذاتية غير معلنة بوضوح، بحيث إن الباحث يقوم بعرض شبه محايد لبعض ما جاء به المفكرون السالفي الذكر، مصحوبا بنقد "مُحتشم" مباشر "لقتلة الذات" العربية المسلمة منهم، وداعيا في كل مرة أتيحت له الفرصة إلى ضرورة بناء ذات عربية إسلامية متكاملة المعالم، لمسايرة العصر والإنخراط فيه، وليس بالعكوف على النداء إلى فكر "الفرقة الناجية" في مناخ عالمي يتحدانا يوميا في كل الميادين وعلى كل الأصعدة. ولعل البناء الثلاثي الأبعاد لإشكالية الذات التي يفصح عنها المفكر المصباحي من الأهمية بمكان، إذا كان العالم العربي الإسلامي يريد بالفعل فهم "ذاته": "يمكن أن يتفرع سؤال الذات إلى مجموعات عدة من الأسئلة، نكتفي منها بثلاثة: أسئلة نظرية وأسئلة تخص فلسفتنا العربية الإسلامية وأسئلة تخص علاقة الذات بزمنها المعاصر" ( ص 19).

لعل أهم سؤال طرحه الباحث هنا هو: "هل من الملائم حقا وضع سؤال الذات في ثقافة تعاند الحداثة وتناوئ الحرية وتشتم الديمقراطية وتنفر من الفردانية؟" (ص 19ـ20). وعلى الرغم من أن السؤال مشروع، بل ضروري في هذا الإطار، وعلى الرغم من أنه طُرح بطريقة تعميم افتراض يحمل خصوصية حكم، وهو تعميم غير مشروع في نظرنا، ما دامت الحداثة قد داهمتما بالفعل وكسرت أبواب ونوافذ أكواخنا ودعت نفسها بنفسها لمأثم تقديمنا كقرابين لها؛ فإنها أصبحت مقبولة جزئيا/نسبيا، بل تمثل بؤرة صراع عليها أو من أجلها أو بسببها في مجموع العالم المسلم. نقول على الرغم من هذا فإن الفيلسوف المصباحي يضع الأصبع على صراع الذات العربية المسلمة مع نفسها ومع محيطها ومع الآخر. وهو صراع "ألقى الباحث القبض عليه " بطرح أسئلة جوهرية، تحمل في طياتها كل معالم بحث أكاديمي عميق، أي أن كل سؤال من أسئلته هو عبارة عن مشروع بحث قائم بذاته، دسم المادة ومتعدد المداخل والميادين. إضافة إلى هذا فإنها أسئلة تلتقي مباشرة مع أحدث دراسات الذات في الغرب نفسه، وبالخصوص في العالم الجرماني، وبالأخص عند بعض المحللين النفسانيين كإيريك فروم (دراساته الجريئة حول "توجه الطبع المجتمعي الإستهلاكي"، وبالخصوص كتابه "الإمتلاك أو الوجود؟"، ترجمناه مؤخرا للعربية) وراينر فونك (في كتابيه: "الأنا والنحن" و"الإنسان دون قيود" قمنا بترجمتهما للعربية).

دون الدخول في تفاصيل "نبش" المفكر محمد المصباحي في البحث عن الذات في تراثنا، نؤكد بأن خلاصاته المباشرة هدمت كل النظرات والنظريات الرومانسية لهذا التراث عن ذاته، لأنه وضع الأصبع على مكمن الداء المتمثل في التماهي مع الذات الإلهية، بل محاكاتها ليبقى "الوعي" المسلم رهين "منطق" لاهوتي أخطبوطي، لا يسمح للمسلم إلا بأداء شعائره الخمسة في أحسن الأحوال، دون التساؤل أو المطالبة بحقه فيما سماه الباحث "ذاته السياسية" وما ينتج عنها من "ذوات" فردية "حرة": "إن كبار مفكرينا كانوا يطرحون سؤال الذات الإنسانية [...] بقصد التحايل عليها لربطها بالذات المطلقة [...] وكانت النتيجة المباشرة لمثل هذه الرؤية المعرفية القائمة على الشك في الموجودات تأجيل النظر في الذات السياسية، وبالتالي في موضوع الحرية بما هي حرية ..." (ص 24).

يصل الفيلسوف المصباحي في مؤلفه هذا إلى تقرير كارثي عن محنة الذات العربية المسلمة، لكنه واقعي، موغل في المعقولية، لأنه لا ينبني على افتراضات، تُقر مسبقا بما افترضته، بل على استنطاق واقع فكري-سياسي-اجتماعي: "إن الذات العربية تعيش محنة مركبة: عقلها مقيد، وحريتها مطوقة، وجسدها ممتهن، وولاؤها موزع بكيفية تراجيدية بين قطبي التراث والمعاصرة" (ص 29). فإذا كانت الذات المابعد حداثية قد وصلت إلى ما وصفه الباحث، فإن الذات العربية لم تتحرر في مجملها من جُرم التصور الوسيطي للذات كمرتع للرذائل إلا بنسبة قليلة جدا. ويرى المصباحي بأنه لا مفر، من أجل تحرير الذات من محنتها، من الاهتمام بإشكالية الحرية. ويربط هذه الإشكالية بمكون جوهري للذات، ألا وهو الشعور بالنقص: "يستدرجنا الإقرار بأن الحرية جوهر الذات إلى ربطها بالشعور بالنقص" (ص 30). ولربما نخالف الباحث هنا بعض الشيء، لأنه يرى بأن الشعور بالنقص هذا قد يُستثمر لتغيير الذات نحو الأحسن، بما أن طبيعة الإنسان هي البحث عن هذا الأخير، بل وحتى على الكمال -أي ما ينقصه-، بمعنى أن هذا الشعور قد يكون المحرك الذي يحفز ويرفع من الهمم. وما نراه هو أن الشعور بالنقص -كمكون نفسي وجودي للعربي والمسلم حاليا- مرتبط أساسا بهوية الذات ذاتها؛ إلى درجة أننا تعودنا عليه ونمارسه بانتظام كدريعة لفشلنا كأفراد ومجتمعات، أي كميكانيزم دفاع، بل نَحِنُّ له إذا نسيناه في قرارة أنفسنا للحظة، ونستعمله كمنشف يدين لنمسح أيدينا، متهمين السلطة السارقة لحريتنا وحقنا في الحياة. بل إن هذا الشعور هو طوق نجاة لنا لكي لا نُطاَلَب بأي شيء؛ ولعل مرد هذا إلى أن مدة "سلب الحرية" في العالم العربي دام أكثر من اللازم، بل كلما لاحت في الأفق ملامح الطموح إلى الحرية، كلما زادت قبضة السلطات، كما حدث بعد ما سُمي عبثا بـ"الربيع العربي". فالشعور بالنقص مُرافَق دائما بالشعور بالعجز، ويأتي هذا الأخير من وعي المرء بتكبيل يديه. ولعل هذا ما كان الباحث يقصده في خلاصة كتابه: "لا نفشي سرا إن قلنا إننا نحن العرب ... صرنا مدمنين في الأزمنة الأخيرة على ألا نكون أنفسنا، ألا نكون ذاتنا، وإنما نكون غيرنا، ونبدد وجودنا بكثير من العبث واللامسؤولية. لا ندري من نكون. أمسى فعل إعدام ذاتنا وتبديد وجودنا هوايتنا الأثيرة وهُويتنا المفضلة" (ص 436).

إن نفي الذات هو جواب بالإيجاب على العدمية. ولربما نلاحظ هذه العدمية ورفض الذات الفردية في سلوك بعض الطوائف المتطرفة في إسلام اليوم، التي لا تُنكر ذاتها فقط، بل مُستعدة لإعدام جسدها وإتلافه والقضاء عليه نهائيا لمواجهة ضرورة انخراط المسلم المعاصر في عصره وبناء ذات مليئة بالحياة وقادرة على رفع التحديات من أجل إثبات ذاتها واستكمال حريتها، لأنها الشرط الأساسي لبقاء واستمرار المسلم. ولعل ما لن نصل إليه في تعاملنا مع التصوف الذي ينفي الذات هو اعتباره أهم عمل فني في الإسلام، بما أنه يوفر كل شروط العمل الفني الخلاَّق والمُبدع في ترك الذات تذوب في موضوع فنها، وعوض اعتبار "الفكر الصوفي" مساهمة فعالة في مجال الفن الإسلامي وحرصه على ممارسة وتطوير أنواع كثيرة من فنون الرقص والشطح والطرب والغناء إلخ، حصل ما لم يكن مُتوقعا وهو "حضر" مثل هذا الفن، لأنه حسب زعمهم يعارض "الشريعة": "وهذا ما يفسر رفض المتصوف هجرة أرض الميتوس إلى أرض اللوغوس" (ص 441).

يتضح، بعد قراءة متأنية للكتاب، بأن الفيلسوف المصباحي ينخرط بوعي في فكر ما نسميه بكلماتنا الخاصة "فكر مابعد النهضة العربية"، الذي لا يحاول الجمع بين التراث والحداثة أو التوفيق بينهما، بقدر ما يقدم فهما "موضوعيا" لهما معا ويفتح الآفاق على فكر إنساني شامل، ليس له وطن واحد ووحيد ولا دين ولا لون بشرة، بقدر ما له توجه إنساني راديكالي، يبحث عن ذاته وحريته دون المشي على رقاب الآخر من أجل هذا الغرض؛ في عملية اعتراف متبادل بخصوصيات وحقوق كل الذوات البشرية. لا يبحث المفكر المصباحي في هذا الكتاب عن خصوصية ذات عربية مسلمة، بقدر ما يُشجع على تبيان الحبال السميكة التي تجرها إلى تراث ينفيها ويَعدِمها وما بعد حداثة تتحداها و "تعفط" عليها. إنها لحظة وعي ضرورية في "فكر مابعد النهضة العربية"، لأنها لحظة مصيرية في تشكيل هوية ذاتنا وذات هويتنا، بالأخذ بعين الإعتبار انصهار هذه الهوية وهذه الذات في مابعد حداثة عالمية، تفرض منطقا مغايرا للتعامل على كل المستويات. فقد وصل نفي الذات والجسد معا في القرن الواحد والعشرين أوجه في العالم المسلم، وتستمر محنة الإقصاء الفعلي لكليهما في مقرات ديبلوماسية، جارة إيانا من جديد إلى ظلام العصور الوسطى، واستباحة قتل الآخر، إذا شعرنا بأنه يهدد طُمأنتنا ورفاهيتنا. وبالنظر إلى هذا يكون كتاب "الذات في الفكر العربي الإسلامي" منبرا لا يَكِّل خطيبها من خُطبَة خطيبته الأزلية "الحرية" كهوية حقيقية للذات المسلمة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن