إذا تجلى المطلق تجددت اللغة/ بكائية على صدر الوطن

مرتضى محمد
mortada.mohammed85@yahoo.com

2019 / 9 / 1

(أنا أشك ! أذن انا موجود*) عبارة اشتقها العقل الباحث عن أبجديات الخروج عن الحياة للنظر الى الحياة؛ لتتوالى الافعال المضارعة متوسطة ً الضمير وحرف الجزاء الذي لا محل له من الاعراب ؛لتبقى الأنا/صدق الكلمة تجترُ خانة البحث والتقصي والتمرد المشبع بالعمل الشعوري الذي ولـّـد عدة أشارات كانت محصلتها الحواس، معودة الدماغ على تكوين الآلية من اجل بث الروح الى الكلمة ، فالكتابة خروج من فُلكِ استفهامات البداية: من أين تأتّى هذا الماء للجلوس ! ، أو من أين تأتّى لتلك النظرية أن تقىء هذا الكم الهائل من الجمال والاستفسارات !!. الكتابة هي بحد ذاتها سؤال يختلي بالاستفهامين الازليين ليولد أجوبة ً نسبية تدركُهُ لحظة خلوصه الى ذاته المشبعة بألم ما، وشوق ما ،وحب ما لتحيله ايضا ً الى ما الذي يحمله الاداء المسرحي للحياة،ربما هذه الإحالة تُجددُ له اجابة ً: ان الاداء المسرحي للحياة يولدُ اشتقاقاتٍ للبوحِ، متحركا ً بأتجاه هالة الاطمئنان النفسي الذي يعود بعد حين مستفسرا ً عن ضربات الوجد نتيجة سماع أو قراءة للكلمة، شريطة ان تكون الكلمة هي تناسبا ً طرديا ً للنفس التّواقةِ الى شكر الوحي لحظة الكلام! .
في العودة على المتواليات التي اثرت ما بين الضمير والحرف الزائد، لنا أن نضع، أفكر/أتصوف/ أتذوق/أعي/أبحث/ أحاول/ أختار ... أفكر ، بمعطيات الكلام التي تذهب بعيدا ً بالكلمة ، بأن هناك زفرات خرجت إلينا بفلسفة جديدة تجلت للناس (اهتماما ً منغرسا ً في أرض الواقع المعاش،والهموم اليومية، والمعاناة الانسانية ...)1 وان تبقى مفاداً نحو البحث والتأثر بمكانية البوح التي حددت أزمنته الباقية بقاء الموجود/صدق الكلمة :
((... كنت أجوب الحزن البشري .. الاعمى
كالسرطان البحري
كأني في وجدي الازلي
محيط يحلم ألالاف الاعوام
ويرمي الاصداف على الساحل ...
كأني اتنبأ ان بذور اللذة مدت ألسنة خضراء ...
في رحم الكون
واعطت جملا ً أبدية... ))
التنبؤ الذي قاده مع كل شعور الوحدة والخوف واللقاء والتمني والبعد والقرب من اللحظة، ألى التمرد من وإلى المطلق بالقرب من الاشجار التي ذكرته بـــ (موال) البعد والقرب من الوطن، هذا الإخبارُ القاسي بكل تجليات القوة التي تحتضن الظلمة َ كأتجاه يقضي - على صعيد المادة – تعريفٌ ساذجٌ للضوء. التنبؤ الذي جعله في بداهة هذه الوحدة/الخوف/التجلي أن يستدعي الآخر/ المطلق من خلال " ... حضور العقل والوجدان معا في التدبر والتفكر بما يشتمل عليه الوجود من أشياء ..."2 :
((... من يخبر روحي أن تطفأ فانوس العشق
وتغلق هذا الشباك
فإن غبار الليل تعرى كالطفل
وان مسافات خضراء احترقت في الوعي
فأوقدت ثقابا أزرقا
في تلك النيران الخضراء
لعلي في النار أرى
ولعل اللحظة تعرفني
من ذلك يأتي
بين النفس و بين عواء الذئب
وبين غروب النخل يرافقني نصف الدرب
وبعد النصف يقول يرافقني
ناديت بكلتا أذني .. فأوقفت مجاهيل الصحراء...))
ها هو تكديس الجمل التي كونت أبدية اللغة بتعاطيها الآخّاذ مع الكلمةِ ؛ذلك ان الكلمة َ " اقوى من الحجر وان أعمال الشعراء ... في وسعها ان تصمد أمام ... السنين"3 ، هذا التفاعل الروحي/الكتابي الذي يخلق مجساتٍ تلتقط ما وراء الأفقِ؛ لتستجلي كل أبعاد الوقت، هذا الاستجلاءُ الذي امسك بطرفيه الشاعر ليبتعد بنا من "... التشبيه الذي ينظر الى الاشياء بوصفها أشكالاً لا معاني أو وظائف... لا يمتلكها،لا يتوحد معها، لا يقبض عليها..."4 ، الى جعلها روح تنطبق فيها الابعاد/الخلجة/البوح/الشكوى من خلال إتاحة الصورة التي سوف تمتلك " الاشياء امتلاكا ً تاما ً ... يعني النفاذ الى حقيقتها فتتعرى،وتلألأ في النور ... الذي يضيء العالم ."5 :
((...أمسكت على الطين لأعرف أين أنا
في آخر ساعات العمر
رفعت الطين الى الرب
بهذا الطين .. تقربت اليه
فأطرد عاطفتيه
وكانت قبضته تشتعل الآن بنيران سوداء
وكان المطر الآن صياحا
وانطبقت كل الأبعاد
وصرت كأني صفر في الريح ...))

ثم (الزمكانية) التاريخية التي يستدعيها النص،ليضيء عالما ً آخر تبتعد فيه الفكرة لتولد فكرة أخرى بجعل النص كأنه رواية طوليّة تنتقل فيه/فينا على امتداد البوح المشبع بهذا الاحتفال الذي يبتهج فيه النص الذي (... يبنى من أمشاج النصوص وتعدد الاصوات القلقة ... يهفو الى قول نقيض ما تصّرح به تلك العناصر في سياقاتها الاصلية .)6 ، هذا القلق الذي يكتنف (جوانب النص الجمالية الابداعية التي تنشأ من أرباك علاقة الالتزام المتبادل بيد الدال ومدلوله ... بغية تفجير دلالات الالفاظ حتى يصير التاريخي منبعا للرؤيوي،ونار الواقع نوراً للشعر، ...)7 :
((ودعني النوتي وكان تنوخيا تتوجع فيه اللكنة
قال الى أين الهجرة
فارتبك الخزرج .. و الأوس بقلبي
ومسحت التنقيط من الحبس
لئلا يقرأني الدرب
وسيطر قنطار وعاش الصبح
فجاء الله الى الحلم..))
ها هو المترنم أمام ابواب الابدية قد شحذ هامة الوقت والموقف والتجلي والبقاء، ها هو يقف أمام ابواب الابجديةِ طارقا ً (بكلتا أذنيه) تجاويف معطاها ليهيء الترنيمة التي تهودُ قلب الحبيبة/الارض/الكلمة/الوطن ، ها هو يتشظى ويموت ويحيا قبالة الشعر؛ لان الشعر هو معجزهُ الذي حمله في وجدانه ،وقلبه، وعلى راحتيه المتعبة من ألم وقسوة الايام وخرافتها قبالة الحقيقة ، ها هو من شدة فراقه/ألمه/عذاباته يتماهى مع المطلق لحظة سكون ما؛ ولدتّهُ تلك الافاعيل المجتّرةِ بأبواق الصراخ والمبهم، ها هو أنيقا ً بكامل وطنيته مشبعا ً بأرضه ومطمئن بنصه/شعره ، يقف تجليه بالتماهي مع مطلقه ليبيح صوفية قابلت (القرن الرابع الهجري) بكل عفوية البراءه ونبلها وصدقها عارفا ً ثورته وتوجهها :
(( توجهت إلى المطلق في ثقةٍ
أنقذ مطلقك الكامن في الانسان ))
بهذا الآنف كان وقوفه ،وثورته، وتجليه ؛ فهو مطلقه ؛لان الانسان والثورة والله : (عملية أبدالية) .
****************************************************
الهوامش:
* قصيدة (بكائية على صدر الوطن) ، للشاعر العراقي مظفر النواب،ضمّها ديوانه المعنون (مظفر النواب الاعمال الشعرية الكاملة/طبعة جديدة)، ص356.
* عبارة للفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) ، أصلها (أنا أفكر أذن أنا موجود) ، تعرف أيضا ً بنظرية (الكوجيتو). أبدلت بــ (أنا أشك أذن انا موجود) لضرورة البداية.
المصادر:
1) حديث الطريقة/رينيه ديكارت/ترجمة وشرح وتعليق د. عمر الشارني/المنظمة العربية للترجمة/الطبعة الاولى-بيروت 2008 .
2) الرؤى الفلسفية في الشعر العراقي الحر/د. بشير عريعر/دار المدينة الفاضلة/الطبعة الاولى -2014.
3) الحكاية الخرافية نشأتها.مناهج دراستها.فنيتها/فردريش فون ديرلاين/ترجمة
د. نبيلة إبراهيم/رؤية للنشر والتوزيع/الطبعة الاولى-2016.
4) 5) زمن الشعر/ أدونيس/دار الساقي.
6) "المشرط" لكمال الرياحي بين مكر الراوي وكابوس المشهد/الناصر بو عزة رياحي (باحث-تونس)/مجلة الحياة الثقافية (تصدر عن وزارة الشؤون الثقافية-الجمهورية التونسية)/العدد290 أفريل2018.
7) قلق أولاد أحمد أو شعرية الديستوبيا/ الهادي إسماعلي(باحث-تونس)/ مجلة الحياة الثقافية (تصدر عن وزارة الشؤون الثقافية-الجمهورية التونسية)/العدد290 أفريل2018.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن