-الصراعات الطبقية بالمغرب و حركة 20 فبراير : السياقات، التحديدات و الأفق الثوري (1998 – 2012)- الحلقة السابعة

موقع 30 عشت
30ghocht@gmail.com

2019 / 7 / 27

يقدم موقع 30 غشت، بعد تأخر اضطراري، الحلقة السابعة من دراسة: “الصراعات الطبقية بالمغرب وحركة 20 فبراير: السياقات، التحديدات والأفق الثوري (1998 ــ 2012)”، بقلم الرفيق وليد الزرقطوني، وهي تضم المحاور التالية:

VIII ـــ حركة 20 فبراير: المقدمات التاريخية، الأرضية السياسية، المكونات، التحديد الطبقي والتعبير السياسي.
1 - شباب الحركة الوطنية
- الظهير البربري
2 - فترة 1956 – 1961
3 - فترة 1961-1975
4 - انتفاضة 1965
5- الحركة الماركسية ــ اللينينية المغربية
6 ـ بين جيل الشباب السبعيني و جيل حركة 20 فبراير(مقارنة)
ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
الصراعات الطبقية بالمغرب وحركة 20 فبراير:
السياقات، التحديدات والأفق الثوري
(1998 – 2012)

ــــــــــــ الحلقة السابعة ــــــــــــــــ

VIII ــ حركة 20 فبراير: المقدمات التاريخية، الأرضية السياسية، المكونات، التحديد الطبقي والتعبير السياسي.

شكل الشباب قوة أساسية في حركة 20 فبراير المغربية، و تاريخيا لعب الشباب المغربي أدوارا طلائعية في مراحل مختلفة من تاريخ المغرب المعاصر (100 سنة الأخيرة)، و لوضع الحركة في سياقها التاريخي العام، من أجل دراسة خصائصها و مميزاتها، فلابد، من باب المقارنة، إعطاء صورة مقتضبة عن تلك الأدوار الطليعية للشباب في مراحل مختلفة.

1 - شباب الحركة الوطنية:

سقط المغرب تحت الحماية الاستعمارية الفرنسية في 30 مارس 1912، بعد توقيع وثيقة الحماية الخيانية من طرف السلطان عبد الحفيظ، و تصدى الشعب المغربي، قبائل و مدن و بوادي للدخول الاستعماري للبلاد.
و بعد انتهاء المعارك المسلحة البطولية في السهول و الجبال ( آخر المعارك انتهت سنة 1934في الأطلس الصغير بجنوب المغرب)، انتقلت المواجهة مع الاستعمار إلى المدن، وكان الشباب في مقدمة المعارك، جزء من هذا الشباب سيجد أسلحته الإيديولوجية في الثورة الفرنسية، من خلال تبني مفاهيم الحرية، المساواة و المواطنة، أسلحة كانت ضرورية لمواجهة ما كان يسمى بالمهمة التمدينية للغرب الاستعماري، و في مقدمته فرنسا الاستعمارية، و قد وجد جزء آخر من الشباب ضالته في أفكار السلفية الآتية من الشرق (محمد عبده و جمال الدين الأفغاني) التي كان يمثلها الشيخ محمد بلعربي العلوي و أبو شعيب الدكالي.
انطلاقا من الثانويات و من جامعة القرويين، بدأت الشبيبة المغربية الوطنية في العشرينات من القرن الماضي في تنظيم نفسها في مجموعات (مجموعة الرباط مجموعة سلا، مجموعة فاس) وعندما انطلقت الحرب التحريرية في الريف المغربي (شمال المغرب) وجدت صداها في التعاطف في الثانويات ( ثانوية "مولاي يوسف" بالرباط، ثانوية "مولاي إدريس" بفاس ...) ، و في العشرينات تحرك الشباب مطالبا بتحديث النظام التعليمي، لينتهي المطاف بخلق مدارس بديلة، و هو ما يسمى ب "المدارس الحرة"، تأسست أولاها بفاس، ثم انتشرت في العديد من المدن المغربية، و اهتم الشباب بالمشاكل الاجتماعية و السياسية، منددا بالفقر عن طريق توزيع المناشير و كتابة المذكرات وإصدار الجرائد التي جمعت بين المطالب السياسية و الاجتماعية. و استغل الشباب كل الفرص كما حصل عندما انفجر مشكل الماء بالنسبة لمجموعة من المدن (فاس، صفرو، مكناس ...) الذي كان مناسبة لتنظيم الاجتماعات وكتابة العرائض و انتداب الوفود و تأطير المظاهرات.

- الظهير البربري:

في سنة 1930، أصدرت الحماية الفرنسية ما سمي بالظهير البربري، للتفريق بين العرب و الأمازيغ و لتسهيل حكمها للمغرب كرد فعل على المقاومة الباسلة للشعب المغربي، فعمت المظاهرات المدن، التي كان يحركها الشباب، و كان رد الاستعمار الفرنسي عبر القمع الوحشي، و التعذيب و الاغتيالات (المعتقل السيء الذكر كلميمة)، و تنقيل المناضلين من مدنهم و نفيهم إلى مناطق و مدن أخرى.
لقد تربى هذا الجيل، الذي شكل الأنوية الأولى للحركة الوطنية البورجوازية المغربية ضمن ما كان يسمى بالسلفية المتجددة، إضافة إلى بعض أفكار الثورة الفرنسية و تأثير الجبهة الشعبية بفرنسا في الثلاثينات، و سينهض هذا الجيل للمطالبة بالاستقلال و قيادة الحركة الوطنية.
و من وثائق المطالبة بالاستقلال إلى اتفاقية إيكس – ليبان مع فرنسا، قاد هذا الجيل حركة النضال ضد الاستعمار، دون تصور استراتيجي واضح لمفهوم الاستقلال (أخطاء إيكس – ليبان) وخطأ إضفاء الشرعية على السلطان، مما هيأ ظروف عودته و انفراده بالسلطة، ثم الإعلان، بعد تصفية المقاومة و جيش التحرير، عن سلطة سياسية استبدادية تحت غطاء "إمارة المؤمنين" في عهد الحسن الثاني سنة 1962، ولم يكن ذلك وليد الصدفة، عندما اقترح عبد الكريم الخطيب أحد قادة جيش التحرير (طبيب ذو تكوين عصري) وعلال الفاسي ( رجل دين، خريج جامعة القرويين) إدخال مفهوم إمارة المؤمنين في الدستور وذلك سنة 1961.

2 - فترة 1956 – 1961:

خاض النظام الكمبرادوري في هذه الفترة، حربا دموية ضد الشعب المغربي، من أجل أن تستتب له الأوضاع و ينفرد بالسلطة، مستفيدا من الهالة التي خلقتها الحركة الوطنية البورجوازية حول شخص الملك ( تم الترويج لظهور صورته في القمر من طرف عناصر حزب الاستقلال البورجوازي)، و انتصرت الملكية كنظام استبدادي كمبرادوري في هذه الحرب، حيث تمت عملية تصفية التنظيمات الفدائية السرية، و القضاء على مجموعات جيش التحرير، و اغتيال قادتها (اغتيال الكولونيل المساعدي، أحد أبرز قادة جيش التحرير في شمال المغرب بقرار من اللجنة المركزية لحزب الاستقلال، مما يكشف تواطؤ قيادات حزب الاستقلال في عمليات الاغتيال في هذه المرحلة).
و في سياق غياب أية استراتيجية ثورية، و تصور حقيقي لاستقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي، تم السقوط في فخ الملكية، و التغطية عن التصفية و التقتيل، أخطاء قاتلة أدت إلى لفظ العناصر الوطنية المخلصة من السلطة، و استتباب الأمر للملكية و الإقطاع، أخطاء اعترف بها المهدي بن بركة في نصه الشهير: "الاختيار الثوري" و صنفها في ما أسماها ب (الأخطاء القاتلة الثلاث).
 
3 - فترة 1961-1975:

تميزت هذه الفترة بدخول حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي تأسس في نهاية الخمسينات، بعد صراع ضد الأجنحة الممثلة للبورجوازية الكبيرة في حزب الاستقلال، و جاء تعبيرا عن مصالح و مواقف البورجوازية الصغيرة في المدن و البوادي، و منذ انطلاقه غلب التأرجح و التذبذب على خطه السياسي، فيما يخص الموقف من الملكية، مما جعل التعايش داخل الحزب قائما بين ثلاث تيارات : تيار نقابي خبزي (تيار المحجوب بن الصديق، عبد الله ابراهيم)، تيار إصلاحي يرفض القطع مع الملكية (تيار عبد الرحيم بوعبيد)، و تيار ثالث بلانكي – انقلابي يدعو إلى إسقاط الملكية و جمهورية على الطريقة الناصرية (الفقيه محمد البصري، عبد الرحمان اليوسفي).
و بعد منعطف 1965 و نضالات بداية السبعينات (نضالات الحركة الطلابية، نضالات الطبقة العاملة، الانتفاضات الفلاحية) عرف الحزب انشقاقا توج بصدور قرارات 30 يوليوز 1972، التي كرست انشطار الحزب إلا شطرين (مجموعة الدار البيضاء التي احتفظت باسم "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، و مجموعة الرباط التي اختارت اسما جديدا هو "الاتحاد اشتراكي للقوات الشعبية") و أطلق التيار الجذري حركة 3 مارس المسلحة، التي فشلت و أدت إلى اعتقالات، و محاكمات و إعدامات في صفوف الحزب، و خاصة في صفوف الاتجاه الجذري. و بعد مفاوضات مع القصر، عقد الحزب مؤتمره الاستثنائي سنة 1975، و قام بلفظ الاتجاه الجذري من صفوفه، و أطلق ما سمي بخط "النضال الديموقراطي"، و عرفت السنوات اللاحقة صراعات داخل الحزب أدت إلى لفظ كل التيارات المناضلة داخله، و اندمج الحزب (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) في المسلسل الذي أطلقه الحسن الثاني، الذي أطلق عليه اسم "المغرب الجديد " بمحورين: محور "المسلسل الديموقراطي" و قضية الصحراء، و قد أصبح هذا الحزب اليوم جزءا من المشهد السياسي الرسمي.

4 - انتفاضة 1965:

اندلعت أيام 22-23-24 مارس 1965 أحداث انتفاضة 23 مارس المجيدة، التي فجرتها الحركة التلاميذية المغربية انطلاقا من ثانوية مولاي عبد الله بالدار البيضاء، و التحقت بها ثانويات محمد الخامس ثم ثانوية الخنساء (إناث)، لتعم جل الثانويات و الإعداديات بالمدينة، ثم انتقلت إلى مجموعة من المدن المغربية، من بينها الرباط (ثانوية مولي يوسف، ثانوية الليمون، ثانوية نزهة، عمر الخيام و مدارس محمد الخامس) و فاس (ثانوية مولاي إدريس)، كما التحق العمال و العاطلون و جماهير من الشعب بصفوف المتظاهرين. و كان التعميم الصادر عن وزارة التعليم (وزارة يوسف بلعباس التعارجي)، و الذي يمنع التلاميذ الذين سنهم أكثر من 15 سنة من متابعة تعليمهم بقسم السادس (أولى إعدادي حاليا) المفجر لهذه الانتفاضة.
و بعد سحق الانتفاضة و سقوط آلاف الشهداء، ألقى الحسن الثاني في يوم 29 مارس 1965، خطابا فجر فيه حقده على الشباب المتعلم و رجال التعليم، و قال الحسن الثاني قولته الشهيرة و التي لا زالت تحكم سياسة النظام:
"ليس هناك من خطر أكبر بالنسبة للدولة من مثقفين مزعومين" و مخاطبا الشباب قائلا : "من الأحسن لكم أن تكونوا جميعا أميين".
وابتداء من هذه السنة تجمد التمدرس في المغرب (لم يعد يتعدى 50 %) و هو بذلك يذكر بأحد الخديويين، الذين حكموا مصر، و الذي بعد أن أقفل المدارس و الجامعات صرح قائلا: "شعب جاهل يسهل حكمه من شعب متعلم".
و لم يتوقف الحسن الثاني عند هذا الحد، بل ذهب بعيدا حد إغلاق معهد السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا بالرباط، و قام بطرد الأساتذة التقدميين من الجامعة (مغاربة و أجانب) و استمر هذا النهج في بداية الثمانينات عندما عوض شعبة الفلسفة و الدراسات الاجتماعية بشعبة الدراسات الإسلامية، و هي الشعبة التي ستخرج العديد من أطر و منظري الحركات الظلامية في المغرب، خاصة و أن النظام استدعى مجموعة من دهاقنة الفكر الإخواني من الشرق للتدريس بالجامعات المغربية (رشدي فكار نموذجا).
و في ظروف القمع الدموي الذي تعرضت له الجماهير، و في وقت لم تجف فيه دماء الشهداء بعد، كان إصلاحيو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و حزب الاستقلال، يتسابقون للتفاوض مع النظام من أجل الدخول في حكومة وحدة وطنية.

5- الحركة الماركسية ــ اللينينية المغربية:

بين 1965 و 1970 عاشت طلائع الشباب المغربي فترة مخاض و مراجعة، بعدما عايش الشباب و قواعد الأحزاب، خيانة القيادات الإصلاحية، التي كانت تسعى كعادتها إلى التهافت على المقاعد الحكومية ما أن يعلن النظام استعداده لذلك، خاصة و أن دماء الشهداء لم تجف بعد، و انضاف إلى ذلك تلك المواقف المتخاذلة لهذه الأحزاب اتجاه القضية الفلسطينية، كما أججت هزيمة 5 يونيو 1967 سخط جماهير الشباب الثائرة، هذا الشباب الذي بدأت تصله أصداء الثورة الثقافية الصينية و الثورات الطلابية (حركة ماي 1968 بفرنسا)، و بدأ ينتقل إليه الفكر الماركسي ــ اللينيني الثوري، فشرع يقرأه بنهم استعدادا لبلورة البديل الثوري .
و عندما دقت سنة 1970، و بعد سنتين من النضالات العمالية البطولية، و قيام انتفاضات فلاحية (1968 – 1970)، أعلن عن تأسيس المنظمتين الماركسيتين – اللينينيتين المغربيتين، منظمة "إلى الأمام" و منظمة "23 مارس"، و في غشت 1972، انتصرت اللائحة الثورية، التي قدمها اليسار الماركسي ـــ اللينيني في الجامعة تحت اسم "الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين" في المؤتمر 15 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كما عرفت العديد من النقابات (خاصة النقابات التعليمية) انتشارا للمناضلين الماركسيين ـــ اللينينيين في صفوفها. و في 22 أبريل 1972، وزعت طلائع الشباب التلاميذي بيان تأسيس "النقابة الوطنية للتلاميذ" في سياق معارك بطولية خاضتها الشبيبة التلاميذية على امتداد تلك السنة.
لقد انخرطت الحركة الماركسية ـــ اللينينية المغربية في عملية بناء الحزب الماركسي ـــ اللينيني المغربي، و هي المرحلة الثانية (المرحلة الأولى دشنها الحزب الشيوعي المغربي في الأربعينيات من القرن العشرين و فشلت بسبب خطه التحريفي)، و خلال هذه المسيرة، قدمت هذه الحركة تضحيات جسام، و خاضت نضالات بطولية ضد النظام الكمبرادوري، الذي واجهها بكل أشكال القمع الفاشي، فامتلأت السجون و المعتقلات السرية بخيرة مناضليها و مناضلاتها، فسقط منهم الشهداء (الشهداء الثوريون الثلاثة : عبد اللطيف زروال، سعيدة لمنبهي و جبيهة رحال) ( و شهداء الحركة في الثمانينات).
و رغم القمع و الاجتثاث، فقد قدمت الحركة الماركسية ـــ اللينينية المغربية إرثا ثوريا هائلا من الكتابات النظرية و التجارب التنظيمية و النضالية ( مفهوم الحزب الماركسي ــ اللينيني، مفهوم الثورة الوطنية الديموقراطية الشعبية، سلطة مجالس العمال و الفلاحين الشعبية، الجمهورية الديموقراطية الشعبية، الشكل السياسي لجمهورية مجالس العمال و الفلاحين الشعبية، النضال الثوري و خط الجماهير) خاصة في مرحلة 1970 – 1980 حيث كان الخط الثوري سائدا داخل منظمة "إلى الأمام"، ما زالت تنتظر هضمها و استيعابها و استثمارها من طرف الأجيال الثورية الجديدة.
بعد ما تعرضت له هذه الحركة من ضربات، تهيأت الشروط لبروز التيارات الإصلاحية داخلها، والتي ستعلن تدريجيا عن الالتحاق بصفوف "المسلسل الديموقراطي"، و الاصطفاف حول موقف النظام من الصحراء. و كانت "منظمة العمل الديموقراطي الشعبي" أول من قبل بالملكية و العمل من داخل النظام، و دعم هذا الأخير في قضية الصحراء، بل سيقوم أطرها المؤسسون بتحركات من أجل جر أكبر عدد ممكن من الحركة الماركسية - اللينينية إلى صفوف القابلين بالملكية، و العاملين من داخل صفوف مؤسساتها، و ذلك كإشارة على حسن النية تجاه النظام (انظر الرسالة الموقعة من طرف ثلاثة قادة من "منظمة العمل" الموجهة إلى إدريس البصري وزير الداخلية)، و لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن مجموعة من التنظيمات التي تعتبر نفسها ذات صلة باليسار الجديد قد تبنت نفس المواقف، و في مقدمتها اليوم ، يوجد الحزب الاشتراكي الموحد...

6 ـ بين جيل الشباب السبعيني و جيل حركة 20 فبراير(مقارنة) :

كان جيل السبعينات أول جيل في مئة سنة الأخيرة من تاريخ المغرب الذي طرح بشكل واضح موقفا من الملكية، و دعا إلى القضاء على الملكية، ليس فقط كنظام سياسي، و لكن أيضا اجتثاث جذورها الطبقية و السياسية و الإيديولوجية والثقافية، و دعا إلى ديموقراطية شعبية تجسدها سلطة شعبية تقوم على أساس المجالس الشعبية الثورية للعمال و الفلاحين والجنود الثوريين، و بينما كل الأجيال المتعاقبة على تاريخ المغرب من 1912، لم تطرح بوضوح، بل تجنبت طرح موقف من الملكية، بل أحيانا قامت بشرعنة سلطة الملك رغم أن كل "حروب التهدئة" التي راح ضحيتها آلاف المغاربة في الجبال والسهول ثائرين ضد دخول الاستعمار إلى المغرب قد تمت بظهائر سلطانية، فجيل الثلاثينات قدم مخططه للإصلاحات دون طرح استقلال المغرب، ثم لما تقدم بوثائق (ثلاثة وثائق و ليس واحدة فقط كما يدعي النظام و حزب الاستقلال) المطالبة بالاستقلال تجنب أي ربط للمطالبة بالموقف من الملكية، بل جعل من الملك ملكا يقود الحركة الوطنية، و عند منتصف الخمسينات، لما بدأت المفاوضات مع فرنسا، تم تكريس "شرعية الملك الوطنية" و عودته للحكم بدون شروط، و تم القبول بما يسمى ب "مجلس العرش".
و من 1956 إلى 1961، قامت تنظيمات الحركة الوطنية السياسية بالتغطية على المذابح و المجازر و التصفيات بل شاركت فيها (المدير العام للأمن الوطني هو الغزاوي أحد قيادات حزب الاستقلال)، و حتى اتحاديي الخمسينات و الستينات ساهموا في ذلك باعتراف بن بركة نفسه (انظر كتابه "الاختيار الثوري).
أما حركة المقاومة السرية (سواء المنظمة السرية التي أسسها محمد الزرقطوني أو منظمة الهلال الأسود التي أسسها عبد الكريم بن عبد الله و ذات صلة بالحزب الشيوعي المغربي) فلم تكن معارضة لسلطة الملك، بل جعلت منه رمزا لها، الشيء الذي أسقط عليه هالة ستسهل عليه فيما بعد تصفيتها.
و قد كانت لقيادات المقاومة و جيش التحرير في النصف الأول من الخمسينات خلافات مع قيادات حزب الاستقلال، المنتمية للبورجوازية الكبيرة، والرافضة للعمل المسلح (استقلال بطرق سلمية) بينما عبرت مواقف المقاومة و جيش التحرير عن مصالح البورجوازية الصغيرة الجذرية، التي لم تكن تتوفر على أي تصور لاستقلال المغرب، و في كل الأحوال لم تكن تراه خارج إطار "ملك شعبي".
لم تخرج قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، التي انفصلت عن حزب الاستقلال سنة 1958 عن هذا الخط، فظلت تزاوج بين مغازلة النظام و سياسة الكولسة و التحريك من أجل التفاوض على الحكومة، إلى أن انفجرت انتفاضة الشباب في 23 مارس 1965. إن هذه الانتفاضة التي فجرها تلاميذ الدار البيضاء و التي التحق بها العمال و الطلبة... وامتدت إلى مجموعة من المدن المغربية (فاس، الرباط...) و رغم عفويتها، فقد طرحت شعارات جذرية مناوئة للنظام الملكي و داعية لإسقاطه. كانت انتفاضة 65 هي المقدمة التاريخية لنشأة الحركة الماركسية ـــ اللينينية المغربية بداية السبعينات، في شروط تنامي الصراع الطبقي في المغرب و على الصعيد العالمي، حيث كان العالم يعرف تنامي مد ثوري في القارات الثلاث، و كان الشباب الأوروبي يفجر ثورات غضبه (ماي 1968 بفرنسا) (مايو الزاحف في إيطاليا) إضافة إلى اندلاع الثورة الثقافية الصينية التي كان الشباب أحد مفجريها (تشكل الحرس الأحمر عند اندلاع الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى من التلاميذ و الطلبة و بعض الأساتذة الشباب).
عندما انفجرت نضالات 1970 بالجامعة المغربية، كان جيل جديد منتمي إلى الجماهير الكادحة من أبناء العمال و الفلاحين و الفقراء و الكادحين قد وصل إلى الجامعة، و ذلك ابتداء من سنة 1968، فكانت المواقف الجديدة لليسار الثوري هي التعبير عن هذا التحول الجذري. تاريخيا، كان مشكل التعليم هو أحد مفجر النضالات القوية بين الشعب المغربي و النظام الكمبرادوري، و ظل هذا الصراع مستمرا رغم القمع في الجامعات، إلى أن تمكن النظام بعد سياسة التقويم الهيكلي و قمع الانتفاضات (انتفاضات 1981-1984-1990....) اجتثاث اليسار الثوري و إحكام قبضته على الجامعة، بمساعدة من القوى الظلامية، ثم سن فيما بعد، ما يسمى ب "ميثاق التربية و التكوين" الذي دشن لتعليم طبقي مكشوف و صارخ، فأصبح التعليم يتميز بنخبوية كبيرة تخدم أبناء العائلات الكبيرة و النخب البورجوازية، و الفئات المستفيدة من الريع و النهب و الاستغلال. و في سياق هاته المرحلة الكاملة، التي تعرضت فيها التيارات الثورية للاجتثاث، انتشرت تدريجيا التيارات الإصلاحية و التحريفية، و بسطت أفكارها و تصوراتها خاصة في حقل ما يسمى ب "اليسار المغربي"، بينما اكتسحت الحركات الظلامية قطاعات كبيرة من الشباب (الجامعات، الثانويات، الأحياء...) ناشرة الفكر الظلامي المعادي للاشتراكية و للفكر الديموقراطي الثوري. و عرفت التركيبة الطبقية للمغرب العديد من التحولات، منها انتهاء و جود التيارات الجذرية وسط البورجوازية الصغيرة بفئاتها المختلفة، و انتصارات التيارات الإصلاحية داخلها، مشكلة بذلك الأرضية الخصبة لقوى الإصلاح، و التيارات الإصلاحية بالبلاد (تجربة الاتحاد الاشتراكي و تجربة الحركة الماركسية ــ اللينينية المغربية، انبثاق تنظيمات بعد موجات إطلاق السراح،  مستبطنة للهزيمة و داعية إلى الخطوط السلمية و الانتقال السلمي و الديموقراطية و الليبرالية).
و في سياق الهجوم "النيوليبرالي"، الذي دشنته العولمة الامبريالية، انتشرت من خلال الحركات المناهضة للعولمة (المنتديات الاجتماعية، الملتقيات الدولية المناهضة للعولمة) العديد من الأفكار، التي أعادت النظر في مفهوم الثورة، و تروج للإصلاح الاجتماعي و الاقتصادي، من خلال "محاربة الفساد" و "مناهضة الريع" و حماية الخدمات العمومية، و باختصار، ترويج الوصفات لدولة اجتماعية من داخل منظومة الرأسمالية، و هكذا باتت الرأسمالية قدرا مقبولا، بل نهاية التاريخ، ما دام أنه لا بديل للرأسمالية (يؤكد أصحاب هذه النظريات على معارضتهم "للنيوليبرالية" و ليست الرأسمالية، بل العودة إلى نوع من "النيوكنزية" ( الكينزية الجديدة)).
في سياق هذا الجو العام، تربت فئات من الشباب المغربي على هذه الأفكار، مما يؤكد خطأ ادعاء غياب أي أرضية ثقافية أو إيديولوجية سياسية لنشأة حركة 20 فبراير.
هاته الأفكار، مضاف إليها فلسفة حقوق الإنسان، التي ستعرف انتشارا واسعا مع صعود غورباتشوف و سقوط الاتحاد السوفياتي، و التبشير بعالم واحد جديد، الشيء الذي جعل العديد من يساريي الأمس يغيرون جلدتهم و يعتنقون تلك الأفكار بحماسة المؤمن الجديد.
إن دراسة لمكونات حركة 20 فبراير، ولأصول شبابها الطبقية و لانتماءاتها الاجتماعية و المهنية و القطاعية، تبين ان عناصرها المؤسسة لا تخرج عن القاعدة المذكورة، فلم يكن من باب الصدفة أن تنطلق الحركة من داخل المواقع الاجتماعية (الفايسبوك، اليوتوب ...) و ليس غريبا أن تأتي أرضيتها التأسيسية و شعاراتها معبرة عن هاته الأجواء التي تلاقحت فيما بينها مجموعة من الإيديولوجيات و المواقف، قاسمها المشترك الانتماء إلى البورجوازية الصغيرة و الفئات المتوسطة، وأيديولوجيتها المؤمنة بحياد الدولة و الطريق السلمي للتغيير و التدرج في التغيير و وطنية هلامية مجردة.
بعد تحليل الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد، و تحميل مسؤوليتها للملك، وبعد الإقرار بتوفر الشروط الموضوعية للانتفاضة، التي ترى الوثيقة أن المذكي لفتيل الثورة في نفوس من ينتمي لجنس الإنسان هو الشعور بفقد الكرامة، المواطن اليوم يتعرض لشتى الأوضاع الماسة بإنسانيته، ما دام أن الحاكم لا يعتبره أكثر من مجرد رقم غير قابل للتصنيف إلا في صف المصفقين و الهاتفين أمام عدسات التلفزيون الرسمي، و غير قابل لأن يكون موضوعا لسياسة معينة إلا سياسة التفقير و التجهيل و التضليل، التي تتيح للحاكم ضمان الجلوس على الكرسي.
بعد تحميل الملك مسؤولية الأوضاع بالبلاد، يتم اللجوء إلى التعويم باستعمال مصطلح الحاكم، و في كلا الحالتين ليس هناك من تحديد لطبيعة النظام الطبقية، سواء من حيث القاعدة الداخلية، أو من خلال التوجهات الخارجية، في وقت تسجل فيه الوثيقة انسحاب المغرب من موقعه في الساحة الدولية، مما يؤثر على مصالح الوطن، كما لو ان حضور الحسن الثاني سابقا في الساحة الدولية كان يخدم الوطن، إنها مقابلة غير ذات معنى تعكس خطابا فارغا ينم عن وطنية زائفة.
و في سياق الكلام عن استقلالية الحركة جاء في الوثيقة : "و هي حركة مستقلة عن كل الأحزاب و النقابات و باقي التنظيمات الموجودة في الساحة، تقتنع و تلتزم بالعمل في إطار ما ينتجه القانون و المواثيق الدولية لحقوق الإنسان من إمكانات للفعل الميداني، و هدفها العمل إلى جانب الشعب المغربي، من أجل المطالبة بكرامته، و العمل من أجل صالح الوطن، بمحاربة كل الفاسدين الواقفين ضد الإرادة الشعبية، و هي حركة مستقلة عن كل الأحزاب ....في الساحة، و بالتالي، تضع الحركة نفسها كما لو أنها إطار جماهيري، في وقت تدعي لنفسها العمل بشكل سياسي واسع بتبنيها مطالب سياسية حزبية في عمقها، علما بأن مكوناتها كلها حزبية تحركها من وراء ستار، من خلال الهياكل التي تم خلقها تحت مسميات الدعم. وراء هذه الفقرة، يوجد غطاء و حجاب لانتمائها لمكونات حزبية مختلفة، على أرضية تحالفات سياسية، مما يسمح بعدم محاسبتها على أرضية إيديولوجية و سياسية و طبقية.
تقول الحركة ب "العمل في إطار القانون و المواثيق الدولية لحقوق الإنسان" بمعنى العمل على نفس الأرضية القانونية للدولة و المواثيق الدولية التي يتبناها النظام، بما يعني العمل في إطار الشرعية.
فهل يتعلق الأمر بمجرد تكتيك أم انه تصور استراتيجي؟ قبل الخوض في ذلك، فالحركة تقول عن نفسها حركة سلمية، إذن لنرى ما جاء به ملفها المطلبي، برنامج يؤطره المطلب الأول الذي هو بمثابة طرحها الاستراتيجي: "إلغاء دستور 1996 و تهييء الظروف لانتخاب هيئة تأسيسية من طرف الشعب تناط بها مهام إعداد دستور يعرض للاستفتاء، نقترح على أن يكون على أسس حديثة تأخذ فيه الملكية شكلها الحديث كرمز لوحدة الأمة دون صلاحيات تنفيذية أو تشريعية أو قضائية".
لو احتفظت الحركة بموقفها من الملكية، و اكتفت بطرح هيئة تأسيسية للبث في الدستور، لقلنا أن موقفها كان تكتيكيا، و لربما أنها استوحت نموذج الثورة الفرنسية، بحيث لم يطالب بإسقاط الملك في البداية، ثم تطورت الأحداث لصالح القضاء على الملكية و تقديم الملك إلى المقصلة، و لكن الحركة تقترح مسبقا على الهيئة التمثيلية موقفا مجددا للملكية، مما يجعل منها حركة ملكية من أجل إصلاح الملكية، وبذلك تجيب عن سؤال التكتيك و الاستراتيجية من خلال الموقف من السلطة، الذي لا يناقش الملكية باعتبار ما تسميه الوثيقة "رمزا للوطن (أي الملكية) وبذلك تصدح بموقفها قبل اي استفتاء تطالب به، فمن قرر ذلك؟ ومتى كانت الملكية رمزا لهذا الوطن منذ تأسيس الأسرة الحاكمة؟
أما باقي المطالب فهي لا تخرج عن سياق المطلب الاستراتيجي، مثال إقالة الحكومة و حل البرلمان وتعيين حكومة انتقالية، ثم من خلال الوثيقة، فالحركة تفتخر بكون مؤسسيها أول من دعا بشكل جدي إلى الانتفاضة كحل واقعي للخروج من الوضع الحالي.
يظهر أن محرري الوثيقة يجهلون التاريخ المغربي الحديث (ولا عذر لمن يجهل التاريخ) ما عدا هذا، يظهر كأن أصحابها خرجوا عن أسلوب المذكرات و الكواليس و لغة الرموز و الإيحاء و الإيماء و السرية التي كانت تطبع مواقف الأحزاب السياسية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و حزب الاستقلال في علاقتهما بالقصر) و الحال أن الحركة سارت على نفس خط المذكرات الحزبية مع تغيير في الأسلوب فقط، أو ما يمكن أن يسمى في الأدبيات السياسية بالإصلاحية الجذرية.
و بالنسبة لشعارات الحركة، فقراءة متأنية لها، تظهر محاولة الحركة التقاط شعارات متداولة من طرف حركات مختلفة في الساحة، مع محاولات إدخال بعض الشعارات الإسلامية أو مستقاة من تجربة الحركة الوطنية.

وليد الزرقطوني
25 ــــ 7 ـــ 2019

رابط هذه الحلقة بصيغة ب.د.ف. يوجد في أسفل هذه الحلقة على موقع 30 غشت
موقع 30 غشت
http://www.30aout.info



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن