في مفهوم الكفر

عبدالرزاق دحنون
daahnoonabd63@gmail.com

2019 / 7 / 12

في المعجمات الكفر ضد الإيمان وجمع الكافر كفار وكفرة. والكفر جحود النعمة، وهو ضد الشكر. وقوله: إنَّا "بِكُلِّ كافِرُون" أي جاحدون. والكافر الليل المظلم، لأنه ستر بظلمته كل شيء، ومنه سمي الكافر. والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب، والكفار الزراع. والكافور من الطيب. وكافور الإخشيدي حاكم مصر لأثنين وعشرين عاماً، وللمتنبي فيه قصيدة دالية شهيرة يعرفها الناس، هجاه فيها، فكان لاذع الهجاء، ففي ليلة عيد الأضحى سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة أنشأ قصيدته الباكية الساخطة في ثلاثين بيتاً والتي أولها:

عيد بأية حال عدتَ يا عيد
بما مضى أم لأمر فيه تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيداً دونها بيد

هذا من جهة اللغة. أما من جهة دلالات كلمة كفر الدينية في العصر الحديث فأنا سأذهب في النهج الذي انتهجه المفكر العراقي الراحل هادي العلوي في قوله:
في لزومية من فيلسوف المعرة (أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المُكنى بأبي العلاء المعري) ينظر فيها للألوهية كافتراض ناتج عن الجهل بسر الخلق. يقول:

صنعة عزت الأنام بلطف
وعزتها إلى القدير العوازي

عزت الأنام أي أعجزتهم عن معرفتها. ويُشير بالصنعة إلى العالم. ويشمل هذا البيت على أحد أهم الأفكار الأساسية التي تعامل بها الفلاسفة عن منشأ فكرة الخالق. ولعل فيلسوف المعرة أول من صرَّح بها إذ لم أجدها فيما اطلعت عليه من مذاهب الصين واليونان. أما في العصر الحديث فنجدها في الماركسية التي عرَّفت الدين بأنه انعكاس وهمي للعالم, ناشئ من العجز, في الأدوار المبكرة للوعي البشري. وقد أُعيدت صياغة الفكرة من جانب الشاعر العراقي المتفلسف جميل صدقي الزهاوي بالاستناد, كما أُرجح, إلى لزومية فيلسوف المعرة إذ لم يكن له اطلاع على الماركسية.
قال الزهاوي يخاطب الإنسان في بيتين من أطرف وأعمق ما نظم:

لما جهلت من الطبيعة سرها
واقمت نفسك في مقام معلل
صورتَ ربَّاً تبتغي حلاًّ به
للمشكلات فكان أعظم مشكل

يرجع إلى فيلسوف المعرة كشف النقاب عن سر مجهول يخالف ما عليه الناس. فالدين والروح متخالفان.
كيف ذلك؟
أقول لك: الدين علاقة حسية بإله مجسم، صنم مرئي وملموس عند الوثنيين، ورجل جالس على العرش عند السماويين. ومن هنا الجوهر الحسي البدني للشخصية الدينية. إن رجل الدين يحمل عقيدة دنيوية في مجمل تفاصيلها التي تشمل العالم الآخر، لأن الآخرة نعيم مادي حسي يتمتع به الجسد ويكون مكملاً لنعيم الدنيا أو معوضاً عنه. وليس للروح ما تفعله في هذه العلاقة الحسية.

وقد انتبه فيلسوف المعرة إلى المنحى اللذائذي للشخصية الدينية بينما رسم بتجربته الخاصة صورة النقيض. فقد أكد أن التقاء المرء بربه واعترافه به وتقربه منه هو قاعدة التقائه بنفسه وتعرفه على قواه المعنوية وتماهيه مع أقرانه وتفجير عواطفه الايجابية. ومن ثم تكوين الجماعة كمرتكز لقرابة روحية طوعية أخوية ونفي السلطان والشرك أي عبادة الملك أو القوة كمصدر للقهر والاستعباد بمعنى لا سلطان حقيقي لأحد على أحد, لأن بهجة الروح هي الحرية، وقالوا المالك للشيء مملوك له ومن أراد الحرية فليخرج من ملكوت الرغبة. وهذا يعني نزع الشرعية نهائياً عن أية سلطة.
خلاصة:
ليس نقد الدين ما يفيد هنا بل نقد الواقع، لهذا بات المسار باتجاه معاكس لما أشار إليه ماركس، فقد عدنا ننقد السماء بدل نقد الأرض. ليس الدين هو المنتج لظاهرة الجهاد أو للتعصب والتطرف مثلاً، بل الواقع ذاته. الواقع بما يعنيه حول الظروف التي تفرض التهميش والفقر والبطالة، ومن ثمَّ تحويل العباد إلى عبد وسيد وتهيئة الظروف التي تجعل الطبقات المسيطرة تسعى إلى استغلال الدين من أجل تشويه الصراع الطبقي.

هل ساهم الدين في جعل الوعي البشري أكثر ميلاً نحو التطرف ورفض الآخر، ومن ثمَّ نقل هذا الوعي إلى مرحلة متقدمة من الهمجية واستعمال السيف في الحوار مع الآخر المخالف؟ بمعنى هل لعب الدين دوراً سلبياً بحيث رفع مستوى العنف عند البشر أم أنه كان رادعاً أو سداً في وجه همجية الإنسان المكتسبة من حالة التوحش التي عاشها البشر وجاء الدين ليلطف هذا التوحش؟ وهل كان البشر قبل ظهور الدين في حياتهم أقل همجية ورعونة وأسلس انقياداً نحو السلم والسكينة ثم جاء الدين فصيرهم أكثر ميلاً للعراك؟ هل لعب الدين دوراً ايجابياً في حياة البشر أم أن دوره كان سلبياً على طول الخط؟ هل تعذَّب الأنبياء في سعيهم جعل القطيع البشري من حولهم أكثر لطفاً وألين عريكة، سَلِس الخُلُق ، سَهْل الانقياد ، سَمْح؟ وهل كان واقع معيشة البشر والصراع على السلطة والمال والجنس من العوامل التي لعبت دوراً في تحول الدين إلى عقيدة؟ وهل العقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير؟

هذه الأسئلة هي التي تحتاج إلى نقد وتفكيك من أجل وضع سياق يسمح برؤية صيرورة الصراع، وبالتالي يطرح البديل الذي يحقق مطالب الشعوب، النقد الذي يطال الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، النقد الذي يطال العجز الذي يشل يد "قوى التغيير" ويجعلها مغلولة إلى عنقها.

وأكاد اسمع صرخة المفكر الماركسي الفلسطيني الراحل سلامة كيلة:

لا تهربوا إلى نقد السماء فهي موجودة في الأرض، انقدوا كل ما يدفع إلى جعل الشعوب تريد العزاء الروحي، واشتغلوا على تغيير الواقع الذي ينتج ذلك، اشتغلوا على واقع يحمي إنسانية الإنسان، ويسمح له بحياة كريمة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن