التنمية العنقودية ..رؤية جميلة بلا ممكنات

كمال هماش
kamal_hammash@hotmail.com

2019 / 5 / 28


*أن اعظم الانجازات في التاريخ ،انطلقت من رؤى وأحلام الافراد اولا، كاستجابة متخيلة لطموحات الجماعات ، حين توفرت لها الارادة وادوات عقلنتها برباط العلم والخبرة ومحددات بيئتها الموضوعية ومن ثم اطلاقها الى افق تحقيقها،ولكن تلك الرؤى التي لم تتوفر لها هذه الاشتراطات استحالت الى أضغاث أحلام وأمنيات بعيدة المنال*..
واستحقت هذه المقدمة حضورها ازاء رؤية رئيس الوزراء الجديد لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة توازيا مع تحقيق الطموحات التنموية ، والذي يوصف بأنه يتمتع بخبرة عميقة في بناء وادارة المؤسسات وتطويرها ،كما يمتلك رؤية حول التنمية في فلسطين حيث أطلق شعار التنمية العنقودية لتطوير الاقتصاد الفلسطيني.
وما بين تلك الرؤى ، وخطاب د. اشتية كرئيس للوزراء ،تكمن محاولة للمزاوجة بين ثقافة نشأته في الحركة الوطنية وألنضال لبناء الدولة، مع ثقافة اقتصادية ما بعد حداثية ترسخت في العقود الثلاثة الاخيرة، يستعين بها في محاولة منه لرتق الفتق في العلاقة بين التحرري والتنموي الذي وصلت اليه الحالة الفلسطينية.
ويستمد شعار التنمية العنقودية بريقه الخاص من مكانته في خطاب رأس الهرم الحكومي والذي يرى فيه الرافعة الأساسية للتنمية الاقتصادية ونعكاساتها الاجتماعية ،كمولد للدخل وفرص العمل ومواجهة الفقر والبطالة،فما هي ممكنات تحقيق الشعار والتحديات التي تواجهه؟؟؟
وما يجعل هذا التساؤل مركزيا ،هو التوصل للاجابة التي تتيح لنا المباشرة بتنفيذ هذا الخيار التنموي على اعتبار توفر الاشتراطات الموضوعية لانتهاجه، وتكريس الامكانيات ومتطلبات العامل الذاتي في خدمة تحويله الى واقع عبر المسارات المتاحة، بالارتقاء بما هو قائم أو استحداث البنى الجديدة التي تجسد العنقود او العناقيد المطلوبة والموزعة بطبيعتها على القطاعات الاقتصادية المختلفة.
أما في ظل غياب العامل الموضوعي الاكثر ضرورة وهو السيادة على الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية والنقدية، ومن فوقها السيادة الجغرافية التي تمثل روح التنمية العنقودية باعتبارها قائمة على الجغرافية الاقتصادية ،فاننا نتحدث هنا عن شعار يستوجب تحقيقه المرور الاجباري بالتحرر الوطني ، الذي يؤدي الى السيطرة على الموارد من جغرافيا وثروات طبيعية وانسياب حركة الافراد والسلع ورأس المال دون عوائق يفرضها الاحتلال.
ولا شك أن تجربة نشوء التجمعات الصناعية في الارض المحتلة ،والتي نشأ بعضها بتطور شبه عفوي وفي غياب سياسات اقتصادية وطنية شاملة،او تلك التي نشأت بناءا على توصيات مؤتمرات وورشات اقتصادية عقب قيام السلطة الوطنية ،ستعتبر الارضية الاساس المفترضة للباء عليها ممن يتبني استراتيجية التنمية العنقودية المطروحة.
وهنا لا بد من فض الاشتباك بين الاجابات على السؤال التنموي في فلسطين ، بين من يعتقد بامكانية انجاز خطط التنمية في ظل الصراع والاحتلال باعتباره جزء من معركة بناء الدولة ،والرهان على تقبل الاحتلال لاستقلالية اقتصادية في فلسطين المحتلة، وحتى بعد استقلالها السياسي وبين من يرى ان لا تنمية مكنة في ظل الاحتلال وموازين الصراع التي تميل لصالحه على كافة الجبهات الضرورية لانجاز تنمية تعزز الاستقلال الوطني ؟؟ .
فاسرائيل التي تبحث عن مصالحها السياسية العابرة للقارات، لا يمكن ان تتنازل عن سوق استثنائي المميزات، أو تقبل بمنتج ينافس منتجها بدون اتفاقيات مسبقة تضمن لاسرائيل حصة الأسد ،كما يوجز المتسائلون اجابتهم.
والامر يتجاوز ذلك الي السياسات الاقتصادية الاسرائيلية التي ترى في الارض الفلسطينية "حزام التنك" للمدينة الاسرائيلية المزدهرة" ،الذي يجب ان يبقى في مجال الخدمة لها انتاجيا وبيئيا وتسويقيا ويرفدها بالعمالة السوداء غير وشبه الماهرة ، كما يتلقى حزام التنك هذا، سيول مخلفات المصانع الملوثة ويمتص بضائعها الفائضة والفاسدة ،بتخديم كل مقدرات كيان الاحتلال لتحقيق هذه الاهداف ، تحت مظلة السياسات والرقابة الامنية ،وبما يتيح ضبط وهندسة المجتمع الفلسطيني وتخطيط الجغرافيا واستخداماتها،وفرض وقائع على الارض تحكم سير أي عملية تنمية وطنية.
ويرتكز ما سبق على حرص كيان الاحتلال على "تابو" عدم السماح بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الاراض الخاضعة للسلطة الوطنية ،وهو الامر الذي تمارسه عدوانية الاحتلال يوميا بالقتل والمصادرة والاستيطان والاعتقال،وتصوير نفسها بانها في حالة حرب دفاعا عن وجودها،بحيث يصبح من الصعوبة بمكان تنفيذ خطة قصيرة او متوسطة او بعيدة المدى نتيجة تغير معطيات الواقع يوميا من اغلاقات وحواجز واجراات فصل وعقوبات بحجج أمنية،والتجربة القريبة خير شاهد.
واذا ما كانت السلطة الوطنية ممنوعة من ممارسة حكمها السياسي والاداري على خريطتها الوطنية للضفة والقطاع كما تحددها الشرعية الدولية لعام 1967، ويحظر المسح الجغرافي واستجراج الموارد ولتعدين والزراعة في معظم هذه الاراض الا بما تجود به دولة الاحتلال،فان القول بالتجمعات الاقتصادية العقودية وفق المتاح سيساهم بحسن نية في تكثيف الحضور السكاني والاقتصادي وفق الجغرافيا التي يهندسها الاحتلال للسيطرة على معظم اراض وموارد الضفة الغربية وقطاع غزة .
ومن جانب اخر يكرس مقولة "الدواخل والاطراف" فتنحصر الحياة الفلسطينية في الدواخل، وهي هنا المدن والقرى المركزية في المحافظات،لتبقى امتداداتها الجغرافية مجالا مفتوحا للسيطرة الاستيطانية والعسكرية ، أو الاستثمارية احيانا باقامة تجمعات صناعية عنقودية اسرائيلية على مساحات شاسعة لا يتقبل الاحتلال نتائجها داخل الخط الاخضر*الخان الاحمر *مثالا.
ومع ادراك هذا الواقع فان الاستجابة الفلسطينية للتحديات القائمة ما ظهر منها وما بطن ،تتطلب استراتيجية انعتاق وتحرر وليس انفكاك واعادة انتشار اقتصادي، وهذا ما يتطلب اطلاق مشروع دراسات معمقة للواقع ومدى المقدرة على تكييف النماذج الناجحة في العالم مع هذا الواقع ،وخاصة تلك النماذج التي نجحت في ظل الصراع الوطني والاحتلال الاجنبي.
أما اذا وجدت الحكومة الحالية نفسها مقتنعة بالمباشرة باطلاق هذا النموذج التنموي ، وبناء المؤسسات الضرورية لقيامه من مراكز بحث علمي ومؤسسات تدريب مهني وتقني لاعداد الموارد البشرية، وانجاز التخطيط لتجمعات العناقيد في ظل الاحتلال، فان ثمنا سياسيا واقتصاديا لا بد منه،أقله البحث عن التكامل مع العناقيد الصناعية المجاورة جغرافيا والمماثلة قطاعيا،مقابل توفير بيئة الاستقرار وعدموضع الصعوبت أمامها كمنافس.
ويتمثل الثمن السياسي في اتجاهات الكيان الاسرائيلي لعزل المناطق الفلسطينية وقطع تواصلها الا من خلال معابر تحت سيادته وتسهيل التحكم فيها برغبته، وهو ما سمي بالكنتنة المفروضة بنيويا عبر طرق التفافية وعنصرية وانفاق وجسور ونقاط تفتيش "تضمن عدم المساس بالأمن "خاضعة كلية له .
وحين تأتي رؤية مدينة او تجمع صناعي أو زراعي كعناقيد اقتصادية في قطاعات محددة ،فان هذه العناقيد بمدخلاتها ومخرجاتها ستحتكم الى سياسات الاحتلال الاقتصادية، والتي ستضعها في موقع التابع والمتصل بخدمة الاقتصاد الاسرائيلي موضوعيا ، اكثر منه جزءا لبناء اقتصاد فلسطيني ، لتكتمل الكنتنة السياسية بالكنتنة الاقتصادية ،وينشأ اقتصاد سياسي ببنية تحتية تحقق ما يصبو له الاسرائيلي.
واذا ما خيب سلوك الاحتلال تحليلاتنا وسوء نيتنا ، فانه في افضل الاحوال سيسمح بالمحاولة للارتقاء بالمناطق الصناعية والزراعية القائمة كتجمعات مكانية الى مستوى تجمعات عنقودية، تخضع مردودات مدخلاتها ومخرجاتها للنظام المتبع حاليا و لا تصب في انعتاق الاقتصاد وسياساته الكلية .
وفي ظروف فقدان السيطرة والسيادة أمام عنجهية وعدوان الاحتلال فان فرض قواعد التجزئة وضرب الوحدة الفلسطينية سيضع التجمعات الصناعية بين خيارات استمرارها عبر علاقة التابع مع التجمعات الاسرائيلية القريبة،وبين خيار الضعف ان لم يكن الاندثار.
ولا يخفى على احد ان بعض التجمعات الصناعية تعرضت للضعف والهزال في الوقت الذي تعملقت فيه منشات منفردة الى حد غير مسبوق،اعتمادا على التكنولوجيا وتسهيلات التصدير ،وعلى حساب فرص العمل المفقودة في التجمع المستضعف والتي تم الاستغناءعنها في المنشأة المنفردة.
ومن المفيد الاشارة الى ارتكاز التنمية العنقودية نظريا على منظومة متكاملة من الممكنات التي ينبغي توفرها في جغرافيا العنقود القطاعي، من ايدي عاملة متخصصة ومراكز بحث وابتكار وتطوير وموارد المدخلات للعملية الانتاجية وميسرات الانتاج والتسويق،وكل ذلك في شبكة متناغمة من الافراد والمؤسسات الشريكة،
ومن الواضح ان جزءا مهما من هذه الممكنات غير متوفر بمتوى الحاجة له في الجانب الفلسطيني ، مما يفتح الباب امام ذرائع التشبيك والشراكات مع اطراف اخرى تحددها ماهية الحاجة وتكلفة الحصول عليها ماديا ومعنويا.
وفي ظل الحديث عن صفقة القرن، والتي تتكثف في الرؤية الاميركية للحل الاقتصادي للصراع العربي الفلسطيني مع اسرائيل وذهاب معظم دول الاقليم لهذا المنحى ،فان القدرة تتوفر للولايات المتحدة واسرائيل لفرض رؤية على الواقع، تستجلب حلفاءا عربا وفلسطينيين لتوظيف الاستثمارات في عناقيد صناعية وزراعية ،ولكن على قاعدة –بينيلوكس اقليمي-بين اسرائيل والسلطة والاردن- وهو نموذج تعاون اقتصادي اقليمي أوروبي، كان د. محمد اشتية قد حرر قراءة اقتصادية لخبراء حولها وتم اصدارها باللغة العربية في التسعينيات من القرن الماضي.
كما ان المحور الاقتصادي الذي يتشكل في المنامة على اسس تحالفية صلبة سياسيا وعسكريا ووفق تحديد واضح لمعسكر الاعداء ، بمثابة تعبير مادي عن بناء السوق الشرق اوسطي الجديد بمظلة اميركية وانياب اسرائيلية، سيفرض قواعده على مجمل المنطقة واساسا على ارساء بنية تحتية*ناعمة* لاستسلام سياسي فلسطيني للامر الواقع .
فالمواجهة مع مخرجات المنامة ستضيف دولا عربية داعمة ماليا للفلسطينيين الى قائمة دول الحصار والعداء للمشروع الفلسطيني التحرري،وهي دول نافذة في المجتمع والطبقة السياسية في اوساط رجال الاعمال ،مما يسهل عليها تفكيك الموقف الفلسطيني من صفقة القرن ذاتها والانتقال بالقضية الفلسطينية الى نفق جديد من زمن دوام الاحتلال عديم الكلفة.
واذا ما تجاهلنا اعدادات المنامة فاننا نكون مثل من ينشغل في تنظيف الأواني داخل المنزل تاركا الحديقة تأكلها النار ، وتحت رحمة الجيران والعابرين لاطفائها و العبث باسوارها وتحديد ممراتها واشجارها كما يحبون أن يرونها.
ومن هنا فان المواجهة مع المشروع الاميركي المدعم عربيا وصهيونيا ،لا تكون بطرح خيارات اقتصادية قد تشكل أسنانا لعجلة الحل الاقتصادي ،وانما بالعودة في الصراع الى جذوره التي تتطلب تحديد معسكر الاعداء ومعسكر الاصدقاء دون مواربة ،ونفض اليد من مشاريع التسوية القائمة بالعودة الى موقعنا كحركة تحرر وطني تمتلك كل الخيارات للنضال ضد الاحتلال،وبغير ذلك فان الباب يبقى مفتوحا للانفجار الداخلي بين قوى واجيال ترى انها تفتقد للكرامة الوطنية المسلوبة وبين طبقة سياسية تحكم بما أنزل عليها الاستعمار والاحتلال.
وهذا يقودنا الى اولوية مطلقة، تسبق أي جهد نضالي وطني او تنموي ، وتتمثل في ردم فجوة الثقة القاتلة ما بين الجمهور الفلسطيني، وبين مراكز المسؤولية السياسية والحكومية وصولا للمجتمع المدني ..هذه الفجوة التي أودت باهم مشروع اجتماعي واقتصادي وطني طوال عقدين وهو قانون مؤسسة الضمان، وكما تتجلى عموما في انفضاض الرأي العام عن السلطة وفصائل المنظمة وبرامجها والاتجاه نحو من يختلف معها بغض النظر عن النتائج والمواقع.
ولأن نجاح أي خطة او برنامج لاي حكومة يقوم على مدى تعاون الشركاء والمجموعات المستهدفة ،فان مسألة بناء الثقة تبقى الخطوة الاهم في ارساء بنية تحتية صلبة يبنى عليها أي برنامج تحرري او تنموي، يقوم على اصلاح وتطوير المؤسسة الحكومية كمقدمة لحل ازمات الاقتصاد الكلي والجزئي وتطوير الخدمات .
وتبدأ الحكاية من الهيكليات المترهلة و الممجوجة لمعظم الوزارات والهيئات والناجمة عن تحويل الخدمة المدنية الى تكية وفرصة تشغيل، الأمر الذي أدى الى ضرب الانتاجية الكمية والنوعية في السياسات والخدمات المقدمة، في ظل تضخم وظيفي مركزي كسول ،بينما يبقى الموظف المنتج في الميدان و الدرجات الدنيا غارقا في احباطه، وجل همه الاستزلام لمسؤول لينال ترقية او تقديرا.
ولا يمكن الاكتفاء بتصحيح المؤسسة الحكومية للنجاح،بل الامر يمتد الى تصويب أوضاع كافة الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين والهياكل المؤسساتية الممثلة لهم ،فالاتحادات العمالية المرسومة بخطوط الفصائل اثبتت عجزا مطلقا في تعبيرها عن مصالح العمال ميدانيا ،كذلك الاتحادات المعبرة عن القطاع الخاص والتي يستحوذ عليها ممثلوا اقل من 5% من أصحاب العمل،أوضح امثة على ذلك
كما ان المباشرة بمحاسبة الفاسدين فورا وتفعيل مبدأ من اين لك هذا ..؟ونبش ملف الاثراء غير المشروع الذي ساهم اكثر من الاحتلال في تفكيك الثقافة والقيم الوطنية وضرب معززات الصمود،مما يستدعي مصالحة اجتماعية بين الشعب ومؤسسات الحكم وترسيخ عقد اجتماعي وطني .
واذا كانت المصالحة السياسية أولوية للملف السياسي فان المصالحة المجتمعية تبقى اكثر اهمية لمعالجة الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سياق التنمية الشاملة،فغياب الثقة من قبل المحكوم تجاه الحاكم، تنعكس في النظر الى خطط وخطوات الثاني من قبل الاول بالتشكك وعدم الجدية واعتبارها أداة عمل لمجموعة حاكمة لترسيخ نفسها وتحقيق مطامعها في السلطة والحفاظ على مصالح جماعاتها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن