-الرؤية الحيوية- كمفجر لشعرية النص ..في ديوان - تأطير الهذيان - لمؤمن سمير بقلم/ د. محمود أحمد عبد الله

مؤمن سمير
momensamir76@yahoo.com

2019 / 5 / 27

"الرؤية الحيوية" كمفجر لشعرية النص ..في ديوان " تأطير الهذيان " لمؤمن سمير بقلم/ د. محمود أحمد عبد الله
يمثل ديوان " تأطير الهذيان " منعطفاً جديداً في تجربة مؤمن سمير الشعرية المتسعة . ففيه مما يجعله مختلفاً عما سبقه من أعمال ، الكثير .. حيث يعيد الشاعر توظيف تقليد "الرثاء" التراثي الشهير، ولكن على نحو ينطلق فيه من المعطيات الجمالية التي تحافظ عليها قصيدته لتصنع تمايزها واختلافها عن قصيدة الجيل الذي ينتمي إليه . إذ أنه بالإمكان أن نلتمس في القصيدة هنا عدداً من الملامح الأساسية المؤطرة لما يسمى " الرؤية الحيوية". وهذه الملامح هي : اللجوء للمرجعية الذاتية ، المرجعية الخارجية الزائفة ، الإيقاع الذاتي ، كسر التراتبية الأنطولوجية وتفكيك المركز .
أولاً : ذاتية الإشارة :-
حيث من المفترض أن تقوم القصيدة الشعرية، إما بالإحالة إلى نص آخر أياً كان أو إلى واقع "فوق نصي" كالوقائع السياسية أو الاجتماعية أو التاريخية . لكن قصيدتنا الحالية تتخذ من ذاتها مرجعاً للدلالة ، فالنص يفسر ذاته بذاته حيث أن ما يمكن أن نجده منشئاً لرمز شعري ، سرعان ما يقوم النص بتعريته فيما يعد نوعاً من صنع الصدمة ومراجعة القراءة وتحفيز عملية التعدد في الاستجابة والتأويل . ففي الديوان، مثلاً ، تأتي صورة الحجر ، لا بوصفه جماداً ، بل في صورة إنسانية ، مما يدعو للشك في شيئيته :
كنت حبة واحدة
وكان الحجر صغيراً
لا يصل إلى الكتف صـ8.
ويتدعم ذلك المعنى الذي يبدو فيه الحجر وكأنه رمز للمرثي عليه ، حين يقول النص :
الحجر
وكان قد قارب النضوج
أخذ يوسع لنفسه
قليلاً قليلاً ...

ثم ....
فدخل بقدميه الطويلتين
واختنقت أنا صـ9
ولا تتكشف هذه الموازاة إلا لاحقاً حين يتوجه الشاعر بالخطاب إلى "كمال" المرثي عليه /الأساس ، قائلاً :
يا صديقي أنت
حجر ثقيل يفسد إتمام الطريق
فاخلعني
من ثقب الوسادة صـ51
كذلك الحال بالنسبة للجارة التي بذكائها الفطري :
ربطت بيننا سريعاً
بعد أن ركّبت القساوة
في ضلوع الألياف صـ8
ثم إنها:
استحلبت
من عمقها
ليمتلأ ريقها بالمشاعر
والحجر يمسك أنفاسه
حتى تملّك من فمها
وانطلق صـ10
وكأن هذه الجارة تلد الحجر: " كمال"، وبذا يمكن أن تكون هي الأم التي :
تقضي صلواتها
في مصالحة القسوة صـ 33
فالقسوة التي هي علامة ظهور الجارة لأول مرة بالقصيدة ، هي علامة الاستدلال على هويتها كأم . وهكذا فإن هوية الذوات لا تتضح إلا من خلال المرجعية الذاتية ، الأعمق والأبعد ، وذلك بالأساس .
ثانياً : المرجعية الكوزموبوليتانية :-
في الكتابة ما بعد الكولوينالية ، غدت رموز الاستعمار محل سخرية ، والسخرية محملة بنوع من النرجسية الذاتية حيث تسقط الحدود بين الشرق والغرب وحيث تُنزع القداسة عن الرموز الثقافية الغربية على نحو ما نجد من وصف شيكسبير بالوغد وبافتقاد العبقرية :
ثم لا تنسوا هذا الوغد "شيكسبير "
يطلق اقتراحات حامضة ، لا يزال ..
لا تصدقوا أنه عبقري ....
" هاملت " جاري أنا .... صـ57
أو السخرية من شخصية "شارل مارتل" :
أنا القائد المفدى "شارل مارتل"
سأصحبكم إلى بلاد العسل
ثم سأعطي أولادي صكاً .. صـ57
"شارل مارتل" هو الحامل لصورة المستعمر الذي يحمل في ذهنيته عن الشرق صورة بلاد العسل الجاهزة للاستلاب .
أو أن يكون "سلفادور دالي " من أهل الجوار :
وهل إذا صنعت قدراً ضئيلاً من الموسيقى
لأسد فتحة في الباب الخلفي ، كي لا تتسرب
الحلقة المنقوشة بالدم أكون فناناً بقدر "سلفادور"
الساكن خلف بيتنا المتهدم؟ دالي يا رجل صـ47
وهكذا تتسع الرؤية ، بالتجاور والكونية ، وتصنع الشعرية حيويتها وتجاوزها .
ثالثاً : الإيقاع الذاتي :-
وهو ما يتولد عن بنية النص ذاته ، وليس خارجاً عليه كما نجد في إيقاع قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية . مثال ذلك حركة الأرجوحة ذات الطرفين ، إذ يرد مشهد شعري كامل يدور حول الأرجوحة ويتحرك المشهد الذي يدور بين طرفين في العادة، في تتابع مدهش.. وهو ما يعني أن القصيدة تتحرك وفق الحركة المتأرجحة على النحو التالي :-
فتى الأرجوحة (وهو كمال على الأرجح) مقابل جماعة الرفاق :

فتى الأرجوحة
يجلس في المنتصف
الهواء يشيلنا
لندخل قاربه
وندرك صـ18
ثم الأرجوحة في مقابل الفتى :
الأرجوحة مكتنزة
......
وهو يمتلك رأساً
فيها ندوب وعساكر ومطر صـ18
وكذا صواميل الأرجوحة مقابل جماعة الرفاق :
الصواميل
التي نعبث فيها كل مساء
بعد أن يستلقي إلى الوراء كصخرة –
تنتظر قرارنا
لتطير وتنتظم مع الطيور
ونحن نأبى
كي نجرب حماستنا صـ 18-19
وهكذا يمضي الإيقاع بالتناوب إلى نهاية المشهد ، مدللاً على طبيعة الإيقاع الذاتي، الخاصة، في القصيدة .
رابعاً : كسر التراتبية الأنطولوجية :-
تُعرف الأنثربولوجيا مفهوم "الرؤية الحيوية "على أنها الرؤية الفكرية للمذهب الحيوي ، وفيها يؤمن البدائي بأن العالم واحد ولا فارق وجودياً يميز الإنسان عن غيره ، وفيما يبدو أن قصيدة النثر ، في هذا المثال الذي نحن بصدده ، تنحاز لتلك الرؤية ، وربما يرد ذلك لمناكفة الرؤية التنويرية القائلة بمركزية الإنسان وعلو كعبة على باقي الموجودات ، ووفق تلك الرؤية يفعل البشر أفعال الحيوان والأشياء ، والأشياء تمارس حياة البشر ، على أن ذلك ليس نوعاً من تقديس الأشياء (الفيتشية) ، وإنما بناء مساواة غير متحققة على أرض الواقع، لذلك ليس ثمة ما يدعو للدهشة في أن تأكل الذات لحم المرثي عليه ، الذي قد يكون في إحدى التجليات ، الذات نفسها :
لحم الكتف
غالباً (مشفّى) من الدهن
أقضم
وأُغمض عيني
وأبكي صـ 15
وهو ما نجده حيال البلاطات التي يمر عليها الطفلان مؤمن وكمال وأقرانهما ، حيث تشاركهما اللعب واصطناعه :
البلاطات
حقود
ونفوسها ليست صافية
تخبئ كل واحدة عن الأخرى
مقداراً من الخطوات
على أمل
أن تجلب الأنظار
وتتسبب كل يوم
في تمثيلية
الوقوع
المحببة للجميع صـ24
وكذلك دُمى المحلات التجارية ، لها نفس مشاعر الخوف التي نكنها للأمطار ، والفستان يزهو لأنه حك فتيلاً لساقي المرأة ، وتصير الذات الشاعرة قطة سوداء يبرق صوتها وعينها ، بل ويصل التجاوب بين الإنسان والأشياء حد أن عكاز المرثي عليه :
تنظر له
فيقفز جذلاناً
ويحمل عن ظلالك
حقائب الهدايا صـ12
فالعكاز الواقع خارج صورة الميت يحيي ذكراه ، بتصور أن ظلاله تحمل الحقائب الممتلئة بالهدايا التي يحتاج لمن يحملها عنه .. وهو الذي يتقدم ليفعل هذا ، بكل بساطة وطبيعية .
خامساً : تفكيك المركز :-
إن قصيدة النثر هنا ليست قصيدة الديالوج القائم على الحوار بين طرفين ، الحوار الموضوعي بين رؤى العالم ، لكنها تصطنع لوناً من المونولوج ، يصطبغ بطابع حواري مزيف بين الذات والآخر من أجل أن تتفكك المركزية . فالحوارية الزائفة هي نتاج علاقة ذات بآخر ، ليس بآخر بالضبط ، بل هو شبيه بالذات ، لأن القصيدة هنا لا تُعنى بالثنائيات الضدية ، ولذلك من الصعوبة بمكان رسم صورة للآخر المختلف ، بل هناك الذات، المركزية ، التي لها سماتها، وكونها محور العالم التخييلي للنص ومحله المختار .
إن الديوان يتخذ من "كمال" محوراً للرثاء . لكن "كمال" ليس بالفرد الذي له هوية محددة بل يبدو وكأنه حقيقة وجودية تتخذ كل الصور الممكنة ، البشرية والطبيعية . فهو في صيغته البشرية يمثل كل الأحباب والأعداء من الصديق والأستاذ والوالد إلى الحبيبة والجد والمرعب .. الخ ، وفي صورته الطبيعية حجر عثرة في الطريق إلى الحياة ، وتتبعثر هوياته المتعددة فوق مساحة الديوان ويتم استدعائها في أي وقت وفي كل حال وهكذا يتأتى مركز النص مفككاً أو ما قد يبدو تجسيداً لنقص ذلك الـ"كمال" : المفهوم ، الذي يلح النص عبر حيويته ودراميته وفرادته الفنية ، على كونه محض مفهوم وهمي خدعنا طويلاً..

* جريدة " أخبار الأدب " ، العدد905 الصادر يوم الأحد 21نوفمبر 2010 ص 32



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن