غبار الاحتلال العربي (4)

محمد مبروك أبو زيد
mabozaid52@gmail.com

2019 / 5 / 20

تعرفنا في المقالات السابقة على بعض ملامح العقلية العربية، وعرفنا أن العقلية العربية هي عقلية أدبية نظرية بحتة، وبما أن الفكر الأدبي هو فكر ساكن وغير ديناميكي وغير متحرك أي لا يقدم نتاجاً معرفياً جديداً ‏وإنما مجرد " إعادة اجترار لذات المادة المعرفية" فهو حتى وإن كان يمثل فكرة وحركة عقلية لكنه في النهاية ثباتٌ عقلي. ولذلك نجد علماء النفس يفرقون بين ظاهرتين ‏نفسيتين تتعلقان بالذاكرة، وهما الذاكرة العرضية والذاكرة الدلالية. وقرأنافي الويكيبيديا عن الذاكرة العرضية‎ Episodic memory ‎‏ وعرفنا أنها ذاكرة أحداث ‏السيرة الذاتية (الأوقات والأماكن، والعواطف المرتبطة بها، أي ذاكرة قصص وحكايات). ذاكرة (المَشاهد والصور، وليس الموضوعات والأفكار)، وهي مجموعة من ‏التجارب الشخصية السابقة التي وقعت في وقت معين ومكان معين وفي ظرف معين. فهذه الذاكرة هي ما يسمح للفرد أن يعود مجازيًا بالوقت المناسب ‏لتذكر الأحداث التي وقعت في ذلك الوقت والمكان المحدد بتفاصيلها كاملة وكأنه يعيد معايشة الحدث مرة أخرى. وقد تميز بها العرب على غيرهم من الشعوب، لكنهم في المقابل افتقروا إلى الذاكرة الدلالية والمبنية على العقلية العلمية ، وعرفنا أن هذا النوع من الذاكرة يختلف عن الذاكرة ‏الدلالية‎ Semantic memory ‎ التي هي عبارة عن شبكة من المعرفة والمعلومات (الحقائق والأفكار والمعاني والمفاهيم الفلسفية التي تتفاعل مع بعضها لتوليد أفكار جديدة، أي أنها معرفة إنتاجية) وهي الخبرة التي تم اكتسابها واكتشافها على ‏مدار الحياة وإعادة استخدامها لا مجرد اجترارها، .‏‎.‎‏ وفي هذه السطور سنحاول أن ثبت أن الذاكرة العرضية هي ذاكرة أدبية، بينما الذاكرة الدلالية هي ذاكرة علمية فكرية.‏

وبوجهٍ عام الأشخاص الذين يتمتعون بقوة الذاكرة نجدها عند تحليلها ذاكرة عرضية تقوم على القدرة على استرجاع الصور والمشاهد والأحداث ‏بتفاصيلها الدقيقة (بغض النظر عن الفكرة أو أهمية هذه المشاهد والتفاصيل المملة) فالشخص قوي الذاكرة يسترجع الحدث بتفاصيله المفيدة وغير ‏المفيدة أيضاً، يسترجع تفاصل المشهد كاملة. وأما الأشخاص الذين يعانون من ضعف قدرتهم على التذكر، فعند تحليل ذاكرتهم نجدها تقوم على ‏الموضوعات والأفكار فقط دون تفاصيل المشهد والصورة بمحتوياتها الدقيقة، ونجد هؤلاء الأشخاص كثيرين التفكير والتحليل والفضول في البحث وراء ‏الأفكار، لأن ضعف الذاكرة قرين ظاهرة الفضول، بل إنهم لا يتذكرون المشاهد والأحداث إلا بالموضوعات، فقد يتقابل شخص "أ" مع آخر"ب" ولا ‏يكاد "أ" يتذكره أبداً رغم أنهما تقابلا فعلياً قبل ذلك، ثم يحاول "ب" تذكير الأول بمقابلة أو بموضوع معين تحدثا فيه أو فكرة معينة ناقشاها سوياً، ‏وهنا يبدأ الأول في استرجاع الموقف كاملاً بناءً على تذكيره بالموضوع وليس مجرد شكل وصورة الشخص والمشهد، بل بعد نبش فكرة اللقاء في عقله. ‏وهذا هو الفرق بين الذاكرة العرضية التي تقوم على الصور والمشاهد والذاكرة الدلالية التي تقوم على الأفكار فقط والموضوعات والغاية أو المغزى من كل ‏موضوع.

وبما أن العرب يتفوقون جداً في قوة الذاكرة، فهم لديهم قدرة خارقة على تذكر الأحداث والمواقف وتفاصيل المشهد الدقيقة، لدرجة أنهم اخترعوا مثلاً ‏شعبياً يقول " البعرة تدل على البعير"، ومعناه أنهم كانوا يتأملون في روث البهائم وملامحه وشكله ولونه ورائحته وحجم حبيباته الدقيقة بدقة بالغة، وإذا ‏مشى شخص في الصحراء ورأى بعرة فيقوم بفحصها ليعرف نوع البعير منها، ومن هنا خرج المثل " البعرة تدل على البعير" فهم لا يتأملون في المكونات ‏الكيميائية والطبيعة الفيزيائية لهذا البعر، وإنما في الملامح المشاهدية الخارجية فقط بغض النظر عن التكوين العلمي المادي لهذا الشيء.. ونجداً أيضاً ‏لديهم عادة غريبة وهي تقفي الأثر، أي كان بينهم أشخاص يعرفون تتبع آثار الخطى في الصحراء والرمال، فهو يحفظ صورة الأثر بتفاصيلها كاملة، ‏فيمشي في الصحراء لتتبع آثار الخطى أمامه ويقول مر من هنا أبو جهل مثلاً أو أبو لهب، لأنهم يعرفون الشخص من آثار القدم التي تتركها عند السير ‏في الصحراء، ويعرفون ما إذا كان الأثر لقدم رجل أو امرأة، وإذا كانت امرأة فيحددون ما إذا كانت حامل أم لا، وإذا كانت حامل يعرفون شهرها، لأنه ‏مع تقدم فترة الحمل ينبعج العمود الفقري للأمام نتيجة تزايد حمل الرحم عليه فيؤدي ذلك إلى رجوع الصدر والكنف للخلف وفي المقابل يعوم مشط ‏القدم ويرتكز الحمل على الكعب فينغرس في الرمال أكثر فيعاد تشكيل الأثر بشكل جديد مختلف عما إذا لم تكن حامل أو كان الأثر لقدم رجل... ‏
فالعرب لديهم قدرة عجيبة وخارقة في قوة الذاكرة وحفظ واسترجاع تفاصيل المشهد بدقة .. هذا بالإضافة إلى قدرتهم الخارقة في حفظ الشعر العربي، ‏فتجد الرجل فيهم جاهلاً لا يعرف القراءة ولا الكتابة لكنه يحفظ مئات وربما آلاف من القصائد الشعرية، حتى أن الفتيان الذين يرعون الغنم يحفظون ‏الشعر بكثرة وبسهولة، والعبيد الذين يحدون الإبل يتغنون بالشعر أثناء حدوهم للإبل، بالإضافة إلى أنهم يحفظون تفاصيل الصحراء رغم أنها خالية من ‏معالم الحضارة والخضرة أو أي موانع وإشغالات طبيعية أو مدنية، ورغم ذلك تلتقط ذاكرتهم الفولاذية معالم المشهد الصحراوي ومن ذلك يعرفون دروب ‏الصحراء جيداً، ومن هنا قيل أن " أهل مكة أدرى بشعابها ".. فهم بالفعل شعب يتمتع بقوة ذاكرة خارقة، ونحن المصريين أو الشاميين نقر ذلك ‏ونعترف بضعفنا أمامهم من حيث قوة الذاكرة والقدرة على تأليف وحفظ الشعر بوجهٍ عام. فالذاكرة العربية بوجه عام هي ذاكرة فولاذية وذلك راجع ‏إلى طبيعة ونوعية الفكر الأدبي، فإذا اعترفنا أن العرب أقوى من المصريين في الذاكرة، فإننا سنجد الوحيد الذي قارعهم في الشعر الموزون المقفى، وهو ‏أمير الشعراء أحمد شوقي، فيخبرنا الخادم الخاص به أنه كان يتمتع بذاكرة فولاذية حتى لحظة وفاته، وكان يسأل خادمه عن أمور عادية ويذكر له أدق ‏التفاصيل التي يهملها العقل المصري عادة. ‏

لكن.. في المقابل عند تحليل هذه الذاكرة الفولاذية سنجدها ذاكرة عرضية أي تقوم فقط على التقاط الصور والمشاهد الحية بتفاصيلها الدقيقة ‏المملة، بغض النظر عن الموضوع والفكرة وتحليل السببية، حتى وإن تمكن العرب في استخدام هذه الذاكرة التفاصيلية في حياتهم والانتفاع بها في تقفي ‏الأثر وحفظ دروب الصحراء وحفظ الشعر وحفظ الأنساب والمواقف والأمثال وحفظ التاريخ والتراث الشعبي شفوياً دون الحاجة إلى تدوين.. ففي ‏النهاية هي ذاكرة عرضية مشهدية أدبية وليست فكرية وليست علمية أبداً، لأنها نتاج عقلية أدبية وليس عقلية علمية تقوم على الأفكار والموضوعات ‏وتحليل السببية، فإذا كان العرب تفوقوا علينا في قوة الذاكرة، فذلك دليل على نوعية النشاط العقلي الذي هو أدبي في المقام الأول، بينما الذاكرة ‏المصرية ضعيفة مقارنة بالعرب لأنها نتاج عقلية علمية تقوم على الأفكار وتحليل الموضوعات والمغزى بغض النظر عن التفاصيل المشهدية التي تمتع بها ‏العرب في تقفي الأثر وبعر البعير.. ‏

وليس العرب وحدهم هم من فكروا في بعر البعير، بل إن أجدادنا المصريين أيضاً تأملوا وفحصوا بعر البعير، لكن هناك فارق بين العقلية العلمية ‏والعقلية الأدبية، المصريون لم يهتموا كثيراً بحدود المعالم الشكلية والوصف والملامح التي تميز كياناً عن آخر، وإنما غاصوا في أعماق الكيان نفسه ليعرفوا ‏سبب اختلاف ملامحه، فمثلا في الفقرة الثانية والعشرين من بردية "كاهون" تتكلم عن طرق منع الحمل. وكانت الطريقة عبارة عن مزيج من روث ‏التماسيح الصغيرة (تحتوي على هرمونات أنثوية) تخلط مع 45مل من العسل‎ ‎ومع اللبن الرايب وتؤخذ قبل الجماع بليلة..(1) وهذا ما يفسر سر تفوق ‏الفراعنة في العلم وسر تفوق العرب في الشعر، فالفراعنة لم يكونوا عباقرة وإنما كان نسجهم الذهني علمي بحت، بينما العرب نسيجهم الذهني بالفطرة ‏أدبي بحت، ولذلك نجد فارقاً في نظرة كلا الشعبين لبعر البعير.‏

والعرب فكروا في شكل الأثر الذي يتركه قدم الرجل وتتركه قدم المرأة الحامل على الرمال أثناء سيرها في الصحراء، واستخدموا هذه الذاكرة ‏العرضية في معرفة أشهر الحمل.. بينما المصريين لم يهتموا بهذه التفاصيل المشهدية العابرة، بقدر اهتمامهم بالأفكار والأسباب والعلة والكيفية، فهم ‏فكروا في تحليلة علمية توصلوا من خلالها لمعرفة مدة الحمل ونوعية الجنين قبل الولادة وما إذا كان الجنين ذكر أو أنثى من خلال تحليل عينة من بول ‏المرأة الحامل بعد الشهر الثالث تقريباً لمعرفة نوع الجنين والحمل الكاذب، وذلك بوضع بذور الشعير والقمح مع عينة من بول المرأة، فإذا نبتت بذور ‏القمح والشعير معاً فيكون ذلك دليل على أن الجنين أنثى، وإذا نبتت بذور الشعير فقط فيكون ذلك دليل على أن الجنين ذكر لأن الوسط حمضي في ‏الرحم أي زيادة في نسبة الأملاح عن القلويات، فالشعير يستطيع التغلب على الأملاح وينمو في التربة المالحة، عكس القمح الذي ينمو في التربة العذبة ‏فقط. وكذلك ابتكروا تحليلة للتعرف على هرمونات الحمل التي تفرزها خلايا المشيمة في حالة نجاح الحمل خلال الأسابيع الأولى، وإذا لم توجد يكون ‏الحمل كاذباً.. أي أن العقلية المصرية جمعت الملاحظات واستخدمتها بطريقة تقنية في تحقيق نتائج لا يمكن معرفتها بمجرد الملاحظة.. أما العقلية العربية ‏فقد جمعت الملاحظات واستدلت بها فقط على ملاحظات أخرى لأن العقلية العربية نظرية.. بينما المصريون استخدموا ملاحظاتهم واخترعوا كرسي معين ‏تجلس عليه المرأة أثناء عملية الولادة ليساعد في الطلق وخروج الجنين بسهولة، توصلوا إلى أن وضعية جلوس المرأة أثناء الولادة صحية أكثر من وضعية ‏الاستلقاء على الظهر، وقاموا باختراع أجهزة طبية لعمليات الولادة وخصصوا غرفا للولادة بمعبد الأقصر‎.‎‏ وغير ذلك من الأفكار العملية.. ونؤكد مراراً في ‏هذا السياق أن الأمر لا يتعلق بذكاء المصريين أو العرب ولا بحجم التطور والتقدم وإنما بنوعية وطريقة التفكير فقط. ونحن نرى خطورة الغزو العربي ليس ‏في الخسائر البشرية ولا في الخسائر الاقتصادية، وإنما في الغزو المعرفي لأن أثره مستمرٌ فينا، وطالما استمر التطبيع وتقمص العقلية العربية فلن نقدم أي ‏إبداعٍ جديد لا في العلم ولا في الشعر، لأن الشعر بالنسبة لنا ليس صنعة أصلية وإنما مستوردة ومن شأنها وأد المنتج المحلي.‏

ولتوضيح الفراق بين آلية عمل العقلية الأدبية والعقلية العلمية، نعرض هنا مثالين متماثلين كأصلٍ عام (كما المصريين والعرب من حيث كون ‏كلاهما إنسان)، ومتناقضين في ذات الوقت (كما المصريين والعرب من حيث كون العقلية المصرية علمية والعقلية العربية أدبية).. هذان المثالان هما ‏معدات ثقيلة تستخدم في رفع الأثقال وكلاهما يتمتع بذات القدرة والفاعلية، وذات الوزن تقريباً وذات السعر في الأسواق تقريباً، ويكادا يكونا ‏متماثلين مقترنين في كل شيء، وبرغم ذلك تبقى نظرية العمل متناقضة تماماً وكلياً.. فالأول " اللودر" يعتمد على طريقة الصدر والمسح الأفقي لسطح ‏الأرض، وتنحصر قدرته في قشط ومسح القشرة السطحية، وترتكز قوته في الرفع لأعلى دون التنقيب في العمق، وإذا صادف صخرة غائرة لا يفكر في ‏التنقيب حولها وإنما في مسحها والقفز فوقها. بينما الثاني "الحفار" ترتكز قدرته على الضغط لأسفل والغوص في الأرض والتنقيب في العمق (وليس ‏المسح الأفقي) لسطح الأرض وليس مؤهلاً للرفع الأمامي.. وما يقوم به الحفار لا يمكن أن ينجزه اللودر بأي حال، لأن نظرية العمل في كلاهما متناقضة ‏ومتعاكسة..واتجاهات العزم مختلفة، حتى وإن تساوت القدرة في النهاية، فاللودر تأتي ثمرة جهده وقوته فقط في مرحلة التعالي، بينما الحفار تأتي ثمرة ‏جهده وقوته فقط في مرحلة التواضع.. والأول يعمي على التنقيب وتجهيز الشغل بينما الثاني لا يعمل إلا على الشغل الجاهز، والحفار يعمل في الموقع ‏أولاً ثم يدخل على شغله اللودر لاستهلاكه، وهناك فارق شاسع بين طاقة الوضع وطاقة الحركة التي يعمل بها كلاهما، حتى وإن كان كلاهما يستهلك ‏ذات الوقود.. وفي الواقع فإن عقل الإنسان بوجهٍ عام يمكنه العمل بالطريقتين لكن كل إنسان مبدع في واحدة فقط، ولذلك نجد بعض الطلاب يختارون ‏الشعبة العلمية وبعضهم يختار الشعبة الأدبية لعدم تمكنه من التفكير بالطريقة الأخرى. والإنسان يبدع ويبتكر من الآلات والمعدات ما يماثله ويماثل ‏عقله ويحاكي طريقة عمله. ‏

وهو ذات الوضع في الاختلاف والتناقض عند مقارنة العقلية العربية والعقلية المصرية، حتى وإن كان كلاهما يتخذ الإسلام ديناً، فنظرية العمل ‏الذهني مختلفة تماماً، فالعقلية المصرية إنتاجية، بينما العقلية العربية استهلاكية، العقلية العربية تنتج الشعر بالتعالي، والعقلية المصرية تنتج العلم بالتواضع.. ‏والعقلية العربية تقوم على الإبداع الشعري و"المسح المعرفي" ولملمة أدق التفاصيل عن المشهد أو الموقف أو الذكرى وملامح الشعور والمعنى، ثم رسم صور ‏ذهنية مجازية مشابه لبعضها ومشابهة للواقع.. بينما العقلية المصرية تعتمد تقنية الفضول و"التنقيب المعرفي" وذلك بقلب وإقلاب المعلومات ليعتصر ‏منها الأفكار التقنية.. لأن العقل البشري بوجهٍ عام في طريقة علمه الفكري متموج يأخذ رحلة صعود ثم رحلة هبوط متكررة مثل موج البحر، والإبداع ‏الأدبي الشعري يثمر فقط خلال رحلة التصاعد الموجي للعقل، ولهذا أبدع العرب في الأدب والشعر وتميزوا بالغرور والتعالي وهجروا العلم والبحث عرفوا ‏ظاهرة العبودية والنخاسة.. وأما الفكر العلمي فيثمر فقط خلال رحلة التهابط الموجي للعقل، ولهذا فشلوا في الشعر ونبذوا الغرور والتعالي وتواضعوا ‏للعلم والبحث والعمل اليدوي ولم يعرفوا ظاهرة العبودية.. كما لو كان هناك كائن ينشط عمله في وقت الضحى ويسكن عند المساء، وآخر يسكن في ‏الضحى وينشط عمله في وقت المساء، أو كما لو نظرنا للشمس فهي تصدر الضوء قبل الظهر وكذلك بعد الظهر، لكن وقت الظهر هو الفيصل وخط ‏الزوال بين رحلة صعود الشمس إلى كبد السماء ورحلة هبوطها بعد الظهر.. ولهذا اختلف النتاج المعرفي للعقل العربي وطريقة عمله عن النتاج المعرفي ‏للعقل المصري وطريقة عمله .. ولذلك لكل منهما نظرية عمل مختلفة، وإذا تقمص كل منهما دور الآخر ونظرية عمله تنهار قوته ويفقد كل مزاياه.. ‏

فالمصريون لم يتمتعوا بذاكرة فولاذية مثل ذاكرة العرب، ولم يتمتعوا بعبقرية شعرية مثل العرب لأن عقليتهم عليمة عملية تطبيقية "تنقيب ‏معرفي" وليست أدبية "مسح معرفي"، وطبيعة العقلية العلمية تقوم على التفكير والديناميكية والحركة والفضول والبحث وراء السببية والكيفية والتقنية ‏والاستنتاج ثم استخدام هذه المعرفة وليس مجرد الاستدلال، وليس إعادة اجترار المشاهد والصور بذات تفاصيلها كما ذاكرة العرب، لأن مجرد قدرة العقل ‏على استرجاع الصورة السابقة بكامل تفاصيلها فهذا معناه عدم قدرته على إضافة أي نتاج معرفي جديد، وبقدر ما تتناقص الصورة المسترجعة تكون ‏إضافات عقلية جديدة من الحاضر والمستقبل، لأن الذاكرة العقلية هي معادلة رياضية مضبوطة ومتعادلة، ولذلك فإن قوة الذاكرة ميزة وعيب في ذات ‏الوقت لأنها لا تكون إلا مع انعدام التقدم وانعدام النتاج الفكري الجديد، أما ضعف الذاكرة فهو عيب لكنه بالفعل ناتج عن كثافة فكرية وكثافة نوعية ‏في النتاج المعرفي الفكري. وهذه الذاكرة العربية العرضية تقوم على إعادة اجترار الصور والمشاهد والمعاني والأشعار لمجرد إعادة تذوقها وليس استخدامها ‏في فعل أو توظيفها في تقنية ما، وطالما كانت الغاية هي تذوق الصورة الشعرية والمشهد والذكرى والموقف فإن العقل يسترجع الصورة الشعرية بتفاصيلها ‏كاملة وهي اللازمة لعملية التذوق والحبكة الفنية وليس فقط ما فيه الفكرة، بل هو يسترجع الصورة بما فيها من مكونات مادية وما حولها من توابل لأن ‏الغاية هي إعادة التذوق .. أما المصري يسترجع فقط الأجزاء المادية من الصورة التي تتعلق بفكرة يمكن تحويلها إلى فعل، وباقي التفاصيل غير المهمة أو ‏غير القابلة للتحويل إلى فعل يهملها العقل بطبيعته، فهو يقوم على تفتيت المشهد وانتقاء الأجزاء التي يمكنه توظيفها في بناء فكرة جديدة وليس إعادة ‏نسخ المشهد كاملاً.. ولذلك فذاكرة المصريين من نوع الذاكرة الدلالية التي تعتمد فقط على الموضوعات والأفكار، أما العرب فذاكرتهم عرضية تعتمد ‏على الصورة والمشهد وتذوق المعنى (2)‏.

إذن آلية عمل العقل الأدبي تختلف عن آلية عمل العقل العلمي، وذاكرة العقل الأدبي تختلف عن ذاكرة العقل العلمي، ونوعية المعلومة التي ‏يبحث عنها العقل العلمي تختلف عن نوعية المعلومة التي يبحث عنها العقل الأدبي، والغاية التي تسترجع الذاكرة الدلالية العلمية من أجلها تختلف عن ‏غاية الذاكرة العرضية الأدبية، وطريقة عمل الذاكرة العرضية تختلف عن طريقة عمل الذاكرة الدلالية، والغاية من الفكر الأدبي هي إعادة اجترار وإعادة ‏تذوق المعنى بتفاصيله الفنية، بينما الغاية من الفكر العلمي هي إعادة توظيف واستخدام آلية ما في فعل مادي، والعقل الأدبي عقل ساكن " جري في ‏المحل" أو إعادة اجترار، بينما العقل العلمي ديناميكي متحرك متنقل، والفكر الأدبي يعتمد على رصد الملامح الفنية للصورة والمشهد، بينما الفكر ‏العلمي يعتمد على تفكيك الكيفية والسببية... وفي النهاية فإن مجرد افتخارهم بقوة الذاكرة واعترافنا نحن بتفوقهم علينا في الذاكرة، فهذا دليل نهائي ‏وبات على أن العقلية العربية أدبية والعقلية المصرية علمية، ومجرد تفوقهم وعبقريتهم في قرض الشعر وعجزنا عن مقارعتهم فيه، فهذا دليل نهائي وبات ‏على أن العقلية العربية أدبية وأن العقلية المصرية علمية. وهذا معنا أن غذاء العقل العربي غير ملائم للعقل المصري وأن غذاء العقل المصري غير مهضوم ‏للعقل العربي.‏

والواقع أن العقلية العربية لم تندمج ولم تنصهر في العقلية المصرية، بل إنها لم تتأثر من الأساس لأنها ظلت هي الغالبة المسطرة خلال حقبة الغزو ‏وما بعدها ، ولا بد أن نعترف مهما سبب الاعتراف حرجاً وحياءً نفسياً لنا، فلا عيب أن نعترف بأن أعراب الصحراء سطوا على حضارة الفراعنة لأن ‏الهكسوس أيضاً سطوا عليها فترة- إنما العقلية المصرية هي التي انصهرت وتجمدت سماتها وملامحها (العلمية العملية التطبيقية) وذابت في النسيج الثقافي ‏العربي الأدبي وهو ثوب مهلهل بالنسبة لنا وغير منضبط وغير محكم وغير ملائم، ومن هنا ساد الخمول في العقل المصري وأصبح عاقراً عاجزاً عن ‏الإبداع.. بينما لو عدنا لرشدنا والأصل الذي خلقنا الله عليه لعادت قدرتنا على الإبداع، فمن إبداعات الله وإعجازه في خلقه أن خلق شعوب الشرق ‏متكاملة بين صنفين يمثلان قطبي العقل ونوعي التفكير، فلا عقل بإمكانه العيش دون أدب ولا عقل بإمكانه العيش دون العلم، فلا بد أن يخدم كل ‏منهما الآخر بالقدر الضروري، ومن حكمة الله في الشرق أن خلق عقلاً أدبياً محضاً يجاوره عقل علمي محض.. فإذا بحثنا في كافة شعوب العالم لن نجد ‏عقل تفوق في الإبداع الشعري مثلما تفوق العقل العربي، ولن نجد عقلاً تفوق في الإبداع العلمي مثلما تفوق العقل المصري الفرعوني، فهما قطبان ‏للعقل متجاوران متقابلان بينهما البحر وخليج العقبة، وخلال الحقبة التي تخصص فيها كل عقل في ميدانه (الأدبي للعرب والعلمي للمصريين) أبدعوا ‏كلٌ في ميدانه أدباً وعلماً صارا من عجائب الدنيا لا نجد له مثيل في كافة حضارات العالم، لأن الحضارات الأخرى ليست قطبية بهذا الشكل، فالإغريق ‏مثلاً نجد لديهم العلم بقدر الأدب، وكذلك الصينيين والهنود، وكذا الحضارة الأوروبية الحديثة. أما شعبي الشرق المتجاورين (العرب والمصريين فهما قطبين ‏متقابلين) فهما متخصصين كلٌ في ميدان، ولذلك وجدنا العقل العربي أدبي محض ولديه قصور واضح في الجانب العلمي، وما مكنه من هذا الإبداع ‏الشعري إلا القصور البيّن في فكر العلمي التطبيقي، والعقل المصري علمي محض ولديه قصور في الجانب الأدبي، وهذا القصور البين في الجانب الأدبي هو ‏ما دفع العقل المصري لإفراغ كل طاقته في العلوم التطبيقية. ومن إعجاز الله في خلقه أن مكن كل قطبٍ عقلي من الإبداع في ميدانه برغم قصوره في ‏الميدان الآخر، فأبدع المصريون في العلم وتجاهلوا الأدب، وأبدع العرب في الأدب وتجاهلوا العلم. ‏

وقد احتل المصريون أرض العرب خلال حقبة ازدهارهم، واحتل العرب أرض المصريين خلال حقبة ازدهارهم. لكن للأسف خلال فترة احتلال ‏مصر لأرض العرب في عهد جدنا تحتمس الثالث كان العرب قبائل بدوية رعوية وأفاضت عليهم الحضارة المصرية من علومها ومعارفها بحجم قدرتهم ‏على الهضم، ولم يهضموا.. ولم تستفد الحضارة المصرية من شعرهم وأدبهم في شيء، لكن خلال حقبة احتلال العرب لمصر تركوا صحرائهم وغادروا قبائل ‏عديدة إلى قلب القاهرة وتنعموا بخيراتها ولم يفيضوا علينا سوى بالغبار الصحراوي الذي غطى العقول.. هكذا غصن الشوك.. إذا وقعت عليه يؤلمك، ‏وإذا وقع هو عليك يؤلمك.. والأمر لا ينحصر على الدولة العربية أو التنظيم والمجتمع إنما أيضاً على مستوى الفرد المواطن العربي حتى عصرنا هذا.. ‏فالمواطنين من جنسيات أخرى الوافدين للعمل بالسعودية يعانون من شراسة المواطن السعودي حقيقة، ولذلك تجدهم يتخذون مناطق معينة وشوارع ‏معينة للسكن بها بعيداً عن المواطنين السعوديين الذين يمتازون بالشراسة وسرعة الفتك بالضحية لأتفه الأسباب، ولأتف الأسباب تقع جرائم القتل ‏ببرود أعصاب، نجد المواطن يخرج مسدسه ويطلق النار وكأنه يهش غنمه !، حتى الشباب والصبيان أثناء اللعب في الشوارع يتسم سلوكهم بالشراسة ‏مقارنة بغيرهم من الجنسيات الأخرى، كما كان وضع الصحابة حول رسول الله، كان أسهل شيء عندهم هو القتل لأبسط الأسباب ، ولما كان يقع ‏خطأ من أحدهم تجد الآخر يقترح على النبي ضرب عنقه كما كانت عادتهم قبل الإسلام.. فما المجتمع إلا شجرة تتكون من أغصان شوك صغيرة وكبيرة ‏ومتوسطة ومتفرعة لكنها جميعاً نبتت من ذات البذرة وتشكلت من ذات النسيج.‏

أما العقل العلمي فكان مزدهراً أيام حضارة الفراعنة والإغريق والرومان، كانت حضارات علمية عملية فكرية وتطبيقية، وكان نصف العقل ‏الأيسر هو الأنشط، أما نحن منذ أن تقمصت شعوبنا العقلية العربية وقد صعدوا هم إلى سماء الحضارة الشعرية وهبطنا نحن تحت الخيام، وأصبحت ‏عقولنا العلمية عاقر بسبب شحنها بمادة غذائية أدبية غير ملائمة، لدرجة أننا في عام 2019 نفتتح اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة للكتاب فقط بمئات ‏الآلاف من القصص والراويات الأدبية ودواوين الشعر (العدوى الثقافية العربية)، دون أي اهتمام بالكتب التي تتناول موضوعات علمية وقضايا فكرية.. ‏أغلق المعرض وقد سجلت مبيعات الرواية أرقاماً قياسية كالعادة، بينما بقيت الكتب الفكرية والعلمية مرصوصة على الأرفف.. فلماذا يهرب القارئ من ‏الفكر إلى الخيال؟ ‏

ذلك لأن العقول منذ الطفولة تربت وتمرست على التذوق الفني للنصوص الأدبية وليس التفكير والتحليل العلمي، فثقافة الطفل التربوية تقوم ‏على القصص الحكائي لا على نسج الأفكار والمعلومات، على الحكايات وليس الموضوعات التي تشكل العمود الفقري الذي تحدث عنه الفيلسوف ‏الفرنسي جان بول سارتر حينما أصر على أن يكون الأدب له موضوع يدور حوله ويكون هو عموده الفقري (موضوعي علمي فكري) لا أن يطلق ‏الإنسان لنفسه العنان يسبح في عالم الخيال دون غاية أو وجهة محددة، فببساطة الأدب لا بد أن نتعامل معه باعتباره كائن حي وليس عصير سائل، ‏والكائن الحي لا بد أن يكون له قوام يتكون من جسم وعمود فقري يحمله ويشكل هيكله ودعامته، وإذا تلاشى العمود الفقري صار الكائن رخوياً مثل ‏القواقع دون هيكل. إنما للأسف نجد الثقافة العربية بكاملها ثقافة أدبية بحتة دون أي عمود فقري علمي ولا حتى فقرة عصعصية.. فالعمود الفقري في ‏شبه جزيرة العرب لا يعدو كونه عمود زجاجي هش مثل عمود الأفعى، برغم أن جسدها يلمع وجميل إلا أنه بلا عمود فقري. بينما حضارة أجدادنا ‏الفراعنة كان عمودها الفقري يشكل 90% من جسمها ولحمها وبدنها، وكانت المعرفة السائلة مجرد وسائل تشحيم وتزييت للحفاظ على معدل ‏اللزوجة. ‏

لذلك ينبغي أن نحصر المعرفة السائلة بالكامل في حدود ثلث ما يتلقاه الطفل من مادة ثقافية، شاملة (المعرفة السائلة غير الإنتاجية؛ الأدب ‏والفنون والفلسفة والأديان والتاريخ) على أن يكون ضمن هذا الثلث أقل من10% ثقافة تاريخية بوجه عام حتى لا تنمى ملكة النوستالجيا، لأننا من ‏كثافة المعرفة التي تلقيناها بلون الماضي (الدين التاريخي أو التاريخ الديني) صرنا نعشق الماضي أكثر من حاضرنا ومستقبلنا برغم أن الله خلقنا لنعيش في ‏هذا العصر وليس غيره، ومشيئة الله أن يختبرنا في هذا العصر وليس غيره، فامتعاضنا من حاضرنا وشوقنا للماضي هو نوع من التمرد على إرادة الله.. ‏على أن يكون الثلثين مادة علمية إذا كنا نريد تسريع خطوات العقل وبناء حضارة أو استنبات حضارة فرعونية في صيغتها الجديدة، أو أن يتم الموازنة ‏بين العلم والأدب بذات معدل نشاط البطين الأيسر مقارنة بالبطين الأيمن للقلب. ‏

غير أننا حتى ولو نظرنا إلى الجانب الأدبي في حضارة العرب، باعتبار جنسهم معجون بالفكر الأدبي، فهو أيضاً محصور في الجانب النظري البحت، ‏أي التلاعب بالكلام فقط، فالفكر الأدبي لا ينحصر في الشعر والنثر والنظم اللغوي، ولكن هناك جانب فني آخر هو الرسم مثلاً، فالرسم موهبة فنية ‏أدبية وليست مجالاُ علمياً يعتمد على الفضول والفكر، إنما هو حاسة تذوق أدبي فني، ونتيجة لجفاف العقلية العربية بالفطرة، وبرغم أنهم كتبوا معلقات ‏من الشعر الموزون المقفى، والتي تعتبر من وجهة نظرنا إحدى عجائب الدنيا السبع، وهي تمثل حضارة أدبية بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنهم مع ذلك لم ‏يدركوا قيمة التذوق الفني والحس الجمالي للوحة والصورة، فقط انصرف كل تركيزهم على التلاعب بالكلام النظري مقارنة بما قدمه الفراعنة من غابات ‏لونية من الصور واللوحات التي صورت كل تفاصيل حياتهم وطقوسهم بالكامل، فحضارتهم مدونة بلغتين؛ الكتابة والتصوير، حيث كانت تسيل أزاميلهم ‏وفرشاتهم بالمشاعر، ولم يكتفوا بالكتابة والأرقام والحروف المرمزة، وهذا ما يدفعنا حتماً لحصر جينات الجنس العربي في بوتقة "الإبداع النظري".. أما باقي ‏جوانب المعرفة فليس لديهم استعداد نفسي لها ولم تظهر حتى أي بوادر ولو بدائية، وكلما عثرنا على اسم عالم عربي نبحث في أصله وجنسه نصل في ‏النهاية إلى أن أصله غير عربي.‏

وبوجهٍ عام، فإن لكل شعبٍ مزاياه وعيوبه، وكل شعبٍ هو توليفة اجتماعية من نسيج اجتماعي بملامح ذهنية ونفسية مشتركة، ولكل شعب حرفة ‏أو مجال برعوا فيه فتفوقوا على غيرهم من الشعوب، حتى وإن قصروا في مجالات الحياة الأخرى، فنجد المصريين قد تفوقوا في جوانب الحضارة العلمية ‏والعمارة والهندسة والطب والفلك، وبناء نظام الدولة المدنية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وقانونياً، لكننا نجد لديهم قصور في جانب الفلسفة والأدب ‏بوجهٍ عام، يليه قصور في الجانب العسكري، برغم أنهم بنوا جيشاً قوياً بسط نفوذ الدولة المصرية على أجزاء شاسعة من قارة آسيا وأفريقيا، ومع ذلك ‏وقعت تحت الاحتلال الهكسوسي فترة حتى طردهم أحمس، لكن لم يكن النشاط العسكري هو عنوان الدولة المصرية. ‏

بينما العرب نجدهم متفوقين بالأصالة في الأدب دون باقي مجالات الحياة، لأن عقليتهم في تكوينها الفسيولوجي أدبية، وتمكنوا من بناء دولة ‏بالمفهوم الهيكلي السياسي الحربي فقط في دمشق وبغداد والأندلس لأنهم برعوا في الإغارة والفروسية والسيادة والسيطرة، وكانت الحربية والاغتيالات ‏السياسية عنواناً للدولة، وهي من ملامح العقلية العربية بفطرتها، فلم يتقدموا في العسكرية تقنياً.. حتى أنهم وقت أن توسعوا استعمارياً خلال عصر ‏الفتوحات كانت تقنياتهم العسكرية بدائية جداً وكانوا أمهر في رمي السهام والرماح وقذف الحجارة.. لدرجة أنهم كانوا يتقدمون ويتوسعون ويقتبسون ‏الأدوات والتقنيات العسكرية من غيرهم، ما يعني أن الشعوب التي يطمعون فيها أكثر منهم رقياً وتحضراً وعلماً، لكن العرب كانوا أكثر توحشاً ‏وتعطشاً.. ولا بد أن نعترف بأن العرب لم يتعرضوا للاحتلال من قبل غيرهم لأنهم بطبيعتهم ليس لديهم مطمع وهم شعب صحراوي متمرد ويصعب ‏السيطرة عليه مقارنة بالفلاحين المصريين المخلصين المسالمين غالباً.. حتى خلال حقبة الاستعمار الأوروبي في القرن العشرين خان عرب شبه الجزيرة جميع ‏الشعوب العربية والمسلمة (التي احتلوها أيام الصحابة لينشروا الإسلام فيها) بالتواطؤ مع بريطانيا، وتعاونوا بإخلاص في تسليم القدس لليهود . وبرغم ‏ذلك ما زال الفقه الأزهري مرتبط بتاريخهم باعتباره النموذج الإسلامي ! ‏

والخلاصة هنا أن المبادرة المصرية تبدأ بحركة عقلية علمية مدنية وليست عسكرية، بينما المبادرة العربية تبدأ بحركة عسكرية عنيفة وليست علمية ‏وليست مدنية بأي حال كما سنرى في الإضاءة الرابعة طريقة تأسيس العرب لدولتهم على يد أبي بكر وعمر مقارنة بطريقة المصريين الفراعنة في بناء ‏دولتهم ومقارنة بطريقة الإغريق في بناء دولتهم. والغريب المتقابل أن هذه المبادرة العسكرية العنيفة لدى العرب تختفي تماماً في فلسفة الدفاع.. برغم كل ‏أحداث القتل السياسي الوحشية التي مارسها العرب خلال حكم دولتهم الأموي والعباسي، ومع كل الفتوحات والغزوات التي قادتها دولة العرب في ‏الهجوم على الشعوب الآمنة ونهب أموالها وثرواتها، وكل ذلك يسميه رجال الدين بطولات وجهاد في سبيل الله، ويصطلحون عليه لقب" جهاد ‏الطلب".. لشرعنة الهجوم والعدوان، والذي يقابله " جهاد الدفع" أي الدفاع الشرعي، إلا أننا نجد البطولات العربية فقط في جانب جهاد الطلب مثلما ‏وجدنا خالد الوليد وعيّاض غنم الفهري، وعمرو العاص، ولا نجد أي بطولات أو تطبيق عملي فعلي في باب جهاد الدفاع، برغم أنه هو الشرعي وليس ‏الأول. ‏
فحينما هجم المغول على دولة العرب هدموها بركلة قدم.. ولم نجد أعرابياً تصدى لهم سوى الشعوب المدنية التي ذبحها المغول ودهسوها تحت ‏أقدامهم، بل إننا يمكننا القول بأن المغول قد تسلموا مفاتيح الدولة العربية بالخيانة العربية، ونجد أن حجم الاغتيالات السياسية الداخلية والحروب الأهلية ‏والقبلية بين الحكام العرب يفوق آلاف المرات عدد المغول الذين قتلهم العرب دفاعاً عن دولتهم. غير أننا نلاحظ أن الهجوم المغولي اجتاح معظم ‏أطراف الدولة العربية، ولم يظهر قائد عربي يصدهم ويدافع عن دولته ومكتسباته في المنطقة، فقط هم تفوقوا في الهجوم والسطو والاحتلال، أما عند ‏الدفاع عن هذه الشعوب فقد تقهقروا واختفوا ولم يظهر في الساحة سوى المصريين بقيادة الظاهر بيبرس ورفيقه الأمير قطز، وخاضا أكثر من معركة ‏دفاعية شريفة، وانتصر فيها وكانت آخرها عين جالوت في الشام، وكان معهم علماء أجلاء من أمثال ابن خلدون والشيخ العز ابن عبد السلام، حيث ‏استطاع الجيش المصري (جنود مصريين ومماليك بتمويل مصري خالص) كان الجيش الوحيد الذي استطاع التصدي للمغول وهزيمتهم ومطاردة فلولهم ‏حتى أطراف إيران، وأعاد الظاهر بيبرس (الخلافة العباسية) مرة أخرى وساندها من القاهرة، وبقيت قائمة ولو شكلياً لمدة خمس سنوات.. ‏

والسبب في ذلك أن العرب من طبيعتهم "الترحال" أما المصريين فمن طبيعتهم "الاستيطان" وهاتان الخصيصتان من شأنهما خلق وتكوين فكرة ‏التمسك بالوطن والتضحية والدفاع عنه وفدائه بالروح والدم، وفكرة التخلي عن الوطن والرحيل وتركه أو خيانته دون اعتبار ذلك خيانة، ودون أي أثر ‏نفسي. وقد ظهر الفارق واضحاً جلياً بين المصريين والعرب. فلم يبذل العرب جهداً يعادل 1% للدفاع عن الدولة من الجهد الذي بذلوه في احتلال ‏وفرض السيطرة على شعوب الأوطان التي احتلوها.. هذا بغض النظر عن الوضع المزري للعرب أثناء انسحابهم من عواصم الأندلس، حيث سلموا ‏مفاتيح قصورهم للأسبان ورحلوا وهم يبكون كما النساء على الأملاك والقصور وليس "وطن".. ويمكننا القول أيضاً أن الأسبان قد تسلموا مفاتيح ‏الأندلس بيد الخيانة العربية كما الوضع سواءً بسواء في تسليم بغداد للمغول؛ لأن نسيج العقلية العربية كان واحداً في الحالتين.‏

وهذا عكس وضع المصريين في التفاني للدفاع المستميت عن وطنهم وانعدام فكرة الرحيل أو التخلي عنه، فلا يمكن أن نجد خليفة أو حاكم ‏عربي توفي في ظروف دفاع شريف عن أرضه كما وجدنا سقنن رع يتفاني في الدفاع عن وطنه وطرد الهكسوس. يقو د. أيمن النحراوي؛ هو عميد شهداء ‏الوطنية الذي قاد حرب التحرير لطرد الهكسوس الغزاة من مصر. الملك سقننن رع تاعا الثاني هو أول ملك حارب الهكسوس وبدأ حرب التحرير ضدهم ‏، وتوجد وثيقة هي ورقة سالييه جاءت في شكل قصة تخبرنا كيف حاول ملك الهكسوس أبوفيس استفزاز الملك سقنن رع والاستخفاف به حيث أرسل ‏رسالة إلى سقنن رع يخبره أن أفراس النهر في بحيرة واست تزعجه وتقض مضجعه بالرغم من أنه بينه وبين واست 500 ميل، ويأمره بأن يجد أي وسيلة ‏للقضاء عليها، فكانت هذه الرسالة بمثابة إعلان للحرب‎.‎

استشهد الملك سقنن رع وهو يحارب الهكسوس، وتوجد آثار ميتته الجسورة على جمجمته المليئة بالجروح والكسور نتيجة الضرب بالحراب ‏والبلطات ، ووجدت أسنانه في وضع ضاغط بشدة على اللسان نتيجة الألم الشديد في اللحظات الأخيرة من حياته‎ .‎‏ تأمل الحفر التي صنعتها سيوف ‏وبلطات الأعداء في جمجمته لتعرف أنه كان في مقدمة صفوف جيشه، اقرأ تشريح مومياءه لتذهل من عدد الجروح والضربات التي تعرض لها قبل ‏استشهاده من أجل مصر، وقد ملأت رأسه الكثير من الجروح الشديدة، فتوجد طعنة خنجر خلف الأذن اليسرى للمك وصلت إلى عنقه، وتحطم صدره ‏وأنفه بضربات بالمقامع، ويوجد أيضاً قطع ناتج عن بلطة حرب مخترقاً العظم أعلى جبهة الملك‎.‎‏.. فالرحمة والخلود لروحه الشجاعة ، عاش بطلاً واستشهد ‏بطلاً، ترك ابنا عظيما هو البطل كامس الذي استشهد هو الآخر من أجل تحرير الوطن، ثم استكمل رجلة الكفاح ابنه الثالث اياح مس ( أحمس) الذي ‏انتصر على الهكسوس وكسر شوكتهم وطهر أرض مصر من دنسهم‎ .‎‏ جرى أحمس بجيوشه عندما كان عمره حوالي 19 سنة دفعته والدته "قمر ‏الزمان"(3) للتدريب في ميدان الفروسية لاستكمال مسيرة والده.. ‏لكن من عجائب الزمان أن يجلس بدوي مثل ابن العاص على عرش جلالة الملك سقنن رع !

ولن نذهب بعيداً؛ فعدد الشهداء والعمليات الفدائية التي قام بها المصريون (مسلمين ومسيحيين) ضد المستعمر البريطاني خلال القرن العشرين ‏خير دليل.. ناهيك عن البطولات الفدائية العجيبة التي شهدها العالم قام بها المصريون خلال حرب الاستنزاف وحرب أكوبر 1973 دفاعاً مستميتاً عن ‏تراب الوطن... نجد الضباط والجنود والطيارين المصريين يقومون بعمليات انتحارية ضد إسرائيل في سيناء.. بطولات أبهرت العالم أجمع بهذه العقيدة ‏القتالية الخرافية.. في الوقت الذي خانت فيه السعودية جميع شعوب الوطن بالتواطؤ مع الإنجليز، فقد خاض جيش مصر عبر تاريخه 955 معركة لم يخسر ‏منها سوى 12 ( معظمها بالخيانة والغدر)‏‎ .‎ويكاد يكون العرب هم العنصر الوحيد بين شعوب الشرق الذي تميز بالتواطؤ خلال حقبة الاستعمار ‏الأوربي، تواطؤ حتى ضد المقدسات الدينية فضلاً عن الشعوب والأوطان، بل لم يظهر منه أي فعل أو تصرف ينم عن نية المقاومة أو فلسفة دفاعية ‏شريفة بأي حال.‏

والفلسفة الدفاعية في كافة الأحول متقابلة مع الفلسفة الهجومية، كما الفارق بين النبل والدرع سواء بسواء، حتى الكائنات الحية في البيئة ‏الطبيعية متخصصة، فمنها ما هو مؤهل فطرياً بدروع دفاعية قوية دون أي قدرة هجومية مثل السلاحف، وفي المقابل هناك كائنات لا تتمتع بأي أدوات ‏دفاعية وبرغم ذلك فهي مجبولة بالفطرة على الهجوم بشراسة مثل الأفاعي، برغم أن هيكلها العظمي كله عبارة عن عمود فقري زجاجي هش، فالله عندما ‏خلق الكائنات لم يمنح كل كائن ذات القدرة على الدفاع وذات القدرة على الهجوم وإنما ميز بعضها على بعض وفقاَ لغاية يعلمها هو، وهكذا خلق ‏الكائنات البشرية، فالكائنات العربية مجبولة على الهجوم بعنف ووحشية، دون أي قابلية للدفاع، وبمجرد أن تتوقف حركتها الهجومية تنهار قوتها تماماً. ‏بينما الكائنات المصرية مجبولة بالفطرة على العمل والبناء والإنتاج وتتمتع بكفاءة دفاعية عالية ولهذا وجدنا أمثلة غاية في البطولة والتضحية والفداء بدءاً ‏من الملك نفسه (سقنن رع) إلى القادة والضباط والجنود في حرب أكتوبر.. بينما هذه المفاهيم (البطولة – التضحية – الفداء) لا نجدها في القاموس ‏العربي، فقط نجد فلسفة هجومية شرسة، وفلسفة هروبية خسيئة.‏

فالنشاط الحربي هو الأبرز لدى العرب ولذلك كانت حرفتهم الإغارة بالفطرة، (حتى أنهم تلاعبوا بالأشهر الحرم – عدا قبيلة مُضر- واخترعوا نظام ‏النسيء لترحيل أشهر الصيام عن القتال والإغارة إلى غير مواعيدها لاقتناص فرص الإغارة والصيد البشري.. هذا قبل الإسلام.. أما بعد وفاة النبي فقد ‏قاموا بإلغاء الأشهر الحرم كلياً وقالوا أن القرآن نسخ بعضه بعضاً في الأيام الأخيرة فتراجع عن تحريم القتال في الأشهر الحرم وترك الأمر مفتوحاً للصيد ‏البشري الجائر طوال العام !) وقد ظهر هذا النشاط الحربي في الهجوم فقط على الغير واختفى في الدفاع، بينما بطولات المصريين وعقيدتهم ظهرت في ‏الدفاع أكثر من الهجوم. وذلك يعود إلى عقيدة المصريين حول فكرة الاستيطان والاستقرار في الأرض والتمسك بها والدفاع عنها، عكس عقيدة العرب ‏في التنقل والترحال وهو ما يجعل فكرة الوطن والاستيطان مجرد هامش في حسابات العربي، وأساس متين في حسابات المصري.. وكذلك سنعرف في ‏الإضاءة القادمة كم كانت ظاهرة "الاستيطان –الترحال" هي الفارق الجوهري الذي مكن المصريين من بناء جميع عواصمهم داخل دولتهم وعلى أراضيهم ‏على مدار خمسة آلاف عام، بينما توزعت عواصم العرب في المستوطنات التي احتلوها على مدار خمسمائة عام، من المدينة المنورة إلى الكوفة ودمشق ‏وبغداد والأندلس.. ثم غادروا كل هذه العواصم بهدوء غريب.. فالعقلية العربية تقوم أساساً على فلسفة اقتناص الفرص لا بناء الفرص، وبطبيعة الكائن ‏المتسلق أنه لا يكترث بالحفاظ على مكتسباته لأنها ليست من عمل يده.‏

وأما من ناحية الأعمال المدنية، فالشعب العربي مختلف جذرياً كذلك، فالمصريين أكثر تواضعاً ولا يستكبرون على صغائر الأعمال والحرف ‏اليدوية والصنائع والأعمال الشاقة، ويحبون الاستيطان في الأرض والارتباط بالمكان، ويشعر بالحنين تجاه وطنه ويدافع عنه، بينما العرب تنفر طبيعتهم ‏من الأعمال اليدوية ويتعالون عليها ويستعبدون غيرهم لأداء أغراضهم اليومية، ويفضلون الترحال والتنقل ولا يرتبطون بالأرض والمكان حتى وإن ‏اضطروا للسكنى في الخيام في العراء، ولهذا امتهنوا التجارة والرعي، ولم تقم في بلادهم الحرف والصناعات اليدوية حتى الضروري منها للحياة إلا في حدود ‏ضيقة جداً، فالعرب يدمنون الطبقية والعنصرية والتعالي والكبرياء، ولهذا راجت لديهم تجارة العبيد وأسواق النخاسة، وما زالوا حتى يومنا هذا. بينما ‏المصريين حتى في أقصى درجات الارتقاء الحضاري لم يكونوا يعرفوا ظاهرة النخاسة وتجارة البشر وخطفهم واستعبادهم، حتى من قالوا بأن الأهرام تم ‏بناءها بالاعتماد على العبيد، فقد سقطت هذه الفرية لأن الباحثين أثبتوا أن الحضارة المصرية لم تعرف نظام الرق قديماً، فقط عرفت درجات مهنية، صبي ‏وعامل ومشرف ومهندس وخبير ورئيس ووزير..إلخ، وكان كل إنسان حر في نفسه، حتى المرأة تقرر لها حق الخلع في مصر من قديم الأزل، حتى وإن ‏عرفت مصر العمل بنظام المدد الزمنية الطويلة، لكن ذلك لا يؤصل لظاهرة عبودية.‏‎ ‎‏ فنحن لا نجد هذه الدرجات الوظيفية والمهنية لدى العرب، فقط نجد ‏‏"السيد والعبد والجارية"، وعندما احتلوا وطننا ونقلوا ثقافتهم إلينا، ظهر في القاهرة عيّنات من نوعية "سي السيد " نتيجة خضوعنا للاحتلال المعرفي ‏العربي، فزادت المسافة بين الرجل والمرأة المصرية كما وضع المجتمع العربي في الأصل.‏

بينما يقول د. حسين دقيل(4): إن المصري القديم الذي لا يعرفه بعضنا – عن سوء فهم بالتأكيد –، قد تحلى بهذا الخلق الرائع؛ الذي تهفو ‏النفوس إلى مصاحبة من يلتزم به ومجاورته، فما وُجد هذا الخلق في شخص إلا ونال حبًا واقترابًا، إنه خلق التواضع الذي لا يتحلى به إلا الأكابر، ومن ‏العجيب أن المصري القديم قد ربط هذا الخلق بالسعادة، فما تحدث عن هذا الخلق حكيم من حكمائهم إلا وربطه بالسعادة؛ وكأن التواضع والتحلي به ‏يجلب السعادة على صاحبه كما يجلبها على من حوله، فها هو الحكيم الشهير «بتاح حتب» – خلال عصر الدولة القديمة – يوصي ابنه بهذا الخلق ‏الكريم ويحدد له تفاصيله الدقيقة؛ فيقول: يجب على الرجل الشريف أن يكون دائمًا متواضعًا وكتومًا، وأن يجتنب ذكر الألفاظ النابية، وألا يتكبر بسبب ‏علمه، وألا يحتقر الوضيع إذا ما رفعه الملك‎!‎

ويقول له محذرًا إياه من الغرور حتى وهو موجود بين الجهلاء والعبيد: لا تغتر بما تعرف، واسمع لما يقوله الناس جهلاءً كانوا أم علماء، وإن ‏الوصول إلى الكمال مستحيل، والكلمة الطيبة نادرة ندرة الجواهر ولكن قد تتحلى بها الإماء، كن فرحًا طالما أنت على الأرض، عش لحظة السرور ‏لا تقتطع منها، ولا تعمل أكثر من مما يلزم لتحصل على لقمة العيش‎!‎‏ .. كما حذره من الكبر إذا أصبح ذا جاه ومنصب، بل وينصحه بأن يظل دائمًا ‏متذكرًا لتلك الحالة التي كان عليها قبل غِناه؛ فيقول: إذا أصبحت عظيمًا بعد أن كنت صغير القدرة، وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت في المدينة ‏محتاجًا، فلا تنسين كيف كانت حالتك من قبل، ولا تثقن بثروتك التي أتت إليك منحة من الرب؛ فإنك لست بأحسن من أقرانك الفقراء‎!‎

والأعجب من ذلك، أننا نجد المصري الوحيد الذي زار النبي محمد في المدينة وروى عنه حديثاً وحيداً ، كما يروي د.محمد العوا عن صحابي ‏قبطي ِاسمه: «رقب المصري»، روى عن النبي حديثًا واحدًا هو: «طوبى لمن تواضع في غير منقصة..(5) ‏‎»‎‏ ربما كان هو أول مصري يعتنق ‏الإسلام ويروي حديثاً عن رسول الله وينطق اللغة العربية، ربما تعلمها من النبي عليه السلام ، وقد روى حديثاً يتساقط من حروفه الصدق.. ‏ليس بحاجة إلى سندٍ من فلان ابن فلان عن فلان ابن علّان في سلسلة عنعنة طولها سبعون خريفا .‏‎ ! ببساطة لأن المصريون منذ فجر الحضارة اعتمدوا البرديات لا المرويات الشفوية.

فوضع المصريين عكس الوضع لدى العرب تماماً، فمهما كان الإنسان فقيراً أو غنياً تظل هذه سمة مغروسة في دمه.. وهذه السمات التي تحدث ‏عنها ابن خلدون لا زالت مستمرة في عصرنا حتى الآن، فنذكر سلطات المطار عثرت مع خادمة إثيوبية على كمية هائلة من إيصالات الكهرباء، وبعد ‏التحقيق معها أقرت بأن كفيلها أقنعها بأنها شيكات يمكنها صرفها في بنوك بلدها إثيوبيا، وهي مجموع راتبها خلال ثلاث سنوات عمل في خدمته.. ‏فغريزة الاستعباد والعنف والتسلط على الغير وما زالت إلى اليوم في الشعب العربي مهما كان فقيراً جاهلاً تجده يتعالى على العمل اليدوي، وإن لم يجد ‏قوت يومه يستسهل قطع الطرق وفرض الإتاوات أو التسوّل.. إذ أنهم حتى لم يتورعوا عن قطع طرق الحجاج من كل اتجاه لنهب مؤنهم وأموالهم وحتى ‏ملابسهم، وقد كانت ظاهرة "قطاع الطرق " منتشرة في شبه الجزيرة كأحد الأنشطة الاقتصادية البارزة، لدرجة أن الخديوي " حاكم مصر" كان يرسل ‏كتيبة من الجيش مع قافلة الحجاج إلى مكة كي تسبق القافلة لدفع الإتاوات مقدماً تجنباً للتعرض للحجاج المصريين لنهب العرب، ولم تكن هذه القافلة ‏تتعرض لأي أذى طالما كانت داخل الحدود المصرية. وكانت عاداتهم في الإغارة منذ القدم على القوافل التجارية والأدبية وقوافل الحج والعبادة هي ‏السبب في تشريع فكرة الأشهر الحرم أي تحريم الإغارة والسلب والنهب خلال أربعة أشهر في السنة تكون فيها كثافة الحركة وورود القوافل من وإلى مكة، ‏وبالطبع القتل عموماً حرام والسلب والنهب والإغارة حرام لكنهم لم يلتزموا بالمبادئ العادية، فضاعف الله عليهم العقاب في هذه الأشهر ، لكنهم تحايلوا ‏على الله ، وقاموا بترحيل الأشهر الحرم عن مواعيدها إلى مواعيد الأجازات التي ليس فيها حركة، وقالوا لو ظللنا أربعة أشهر دون إغارة لنهلكن من ‏الجوع.. هذا كان قبل الإسلام.. أما بعد الإسلام فقد ألغى العرب كل الأشهر الحرم بالمرة وفتحوا الإغارة على مدار العام. !‏

فالمصريون قد عملوا بمهنة أبيهم آدم عليهم السلام بعدما هبط من السّماء ونزل إلى الأرض، ولم يكن له إلا أن يعمل بيديه حتّى يحصل على ‏الرزق، وكان الله قد علَّمه العلوم والأسماء كلّها، أمّا المهنة التي اشتُهر بها آدم -عليه السّلام- فهي زراعة الأرض، حيث كان يحرث الأرض ويزرعها ‏ويتعهّدها، وكانت زوجته حوّاء -عليها السّلام- تُساعده في ذلك لتحصيل الرزق، وكان آدم يصنع المعدّات التي تُعينه في عمله والآلات اللازمة لذلك ‏بالطرق المتاحة في ذلك الوقت، وغالباً ما كان يستخدم الأخشاب والأحجار لتلك الغاية. وإدريس عليه السلام كان يعمل في الخياطة وحياكة الثياب، أما ‏نوح عليه السلام فكان يتقن النجارة، وكان ماهراً في صقل وتثبيت الألواح وغرس الدُسر، وصنع سفينته بنفسه التي عامت فوق الطوفان "سفينة نوح" ‏والتي ذكرتها جميع الديانات السماوية،‎ ‎وكان سيدنا إلياس عليه السلام نساجًا‎.‎‏ وسيدنا إبراهيم عليه السلام كان تاجراً للأقمشة، وكانت مهنة سيدنا ‏إسماعيل عليه السلام هي القنص أي الصيد‎.‎‏ وداود عليه السلام كان حداداً، ولم يترك نبي مهنته ليتكسب على عوائد الدعوة أو يستغلها في الكسب أو ‏يعيش عالة على الناس.‏‎ ‎

أما صحابة الكرام فقد تركوا المهن والحرف وتفرغوا تماماً للإغارة لأنهم لا يحبون العمل والبناء والإنتاج، كما كل رسل وأنبياء الله، جميعهم كان ‏له مهنة يتكسب منها من عمل يده، وبرغم أن نبينا عليه السلام قال لهم : (ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيراً من أن يأكلَ من عملِ يدِه)، فلم نجد التاريخ ‏ذكر لنا مهن الصحابة ولا نوعية الحرف والصناعات التي راجت في مكة أو المدينة ولا طريقة تصنيع الثياب والفخار والورق وصناعة الأقمشة وصناعة ‏الجلود في بلادهم وصناعة البلاط وصناعة الزيوت والعطور وصناعة والكتابة والعلوم والتدوين والحدادة والنجارة... فقط ذكروا لنا عدد السيوف التي ‏تكسرت على يد سيف الله المسلول ! ‏

فيقول ابن خلدون: والسبب في ذلك أنهم أعرق في البداوة وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها.. والعجم من أهل ‏المشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعد عن البداوة وعمرانه. ولهذا نجد أوطان العرب ‏وما ملكوه في السلام قليل الصنائع بالجملة حتى تجلب إليه من قطر آخر، وانظر بلاد العجم من الصين والهند والترك وأمم النصرانية كيف ‏استكثرت فيهم الصنائع "(6) ... وبرغم أن ابن خلدون لمح الظاهرة بوضوح إلا أننا سنختلف معه جزئياً في مسألة كونهم أعرق في البداوة وأبعد عن ‏الحضارة؛ لأن العرب حتى في عصرنا الحالي رغم توافر التكنولوجيا الحديثة في بلادهم وتوافر المال والراحة ووسائل الترفيه، إلا أنهم ما زلوا على طبيعتهم ‏وسماتهم النفسية لم تتغير، الحضارة غزت بلادهم وعقولهم لم تغز الحضارة؛ لأن هذه النوعية من العقول الله خلقها بطابع فكري أدبي وطابع سلوكي شرس، ‏وهذه سمات جينية وراثية، لكن ابن خلدون لم يكن يعرف الصفات الوراثية والحمض النووي وغير ذلك من منجزات الحضارة، فاعتبر السبب في طبائعهم ‏الشرسة هو البيئة، ولم يدرك أنهم هم الذين احتاروا البيئة الملائمة لسماتهم الوراثية والنفسية كي يعيشوا فيها، وحتى إن تغيرت البيئة، بقيت سماتهم على ‏حالها... (انتهى المقال الرابع بتصرف من كتابنا ؛ غبار الاحتلال العربي)‏
‏ ‏
هوامش؛
‎ ‎‏1- أول موسوعة لأمراض النساء والولادة والعقم وتحديد النسل في التاريخ مصريه بردية " كا هون " لأمراض النساء، وهي أقدم برديه طبية في التاريخ‎ ‎تعود إلي ما قبل 1800 سنة ق.م ‏وتتكلم عن كل ما يخص أمراض النساء كالحمل .. والولادة والعقم ... ومعرفة الجنين وأورام الرحم‎ ...‎إلخ. وقد عثر لعيها في منطقة اللاهون بالفيوم عام 1889م وهي موجودة بمتحف برلين ‏الآن... والبردية مقسمة إلي 34 جزء أو فقرة وكل فقرة أو جزء تتكلم عن مرض معين‎ ‎وطريقة وتشخيصه وعلاجه فمثلا في الفقرة 22 تتكلم عن طرق منع الحمل. والفقرة 26‏‎ ‎تتكلم عن ‏اختبار لقدرة المرأة على الإنجاب، وهل ستنجب أم ستكون عاقراً، وذلك بوضع فص أو فصين توم من الحجم الكبير داخل مهبل السيدة، فإذا ظهرت رائحة الثوم من فمها تكون قادرة ‏علي الإنجاب ويعتمد علي صحة أنابيب فالوب إذا كانت سليمة وغير مسدودة‎ ‎‏. أما الفقرة من 32-34 فتتكلم عن الأمراض المصاحبة للحمل‎ ‎مثل الآم الأسنان مع الحمل‎ ..‎‏ أو آلام ‏الظهر‎ ..‎‏ وأمراض الكلي مع الحمل.‏

‏2- هذا لا يعني أن المصريين أكثر ذكاءً من العرب، بل إننا نتحدث ليس في مستوى الذكاء وما يحمله من معنى الأفضلية وإنما في نوعية التفكير وشعبة الثقافة (العلمية والأدبية) التي تصلح ‏غذاءً مفيداً لكل نسيج عقلي من النسيجين المصري والعربي. والذكاء هو وقود الفكر الأدبي بينما الفضول هو وقود الفكر العلمي، والصور هي وحدات الفكر الأدبي بينما المعلومات هي ‏وحدات الفكر العلمي. والعقلية المصرية ترتكز على التنقيب المعرفي، بينما العقلية العربي ترتكز على المسح المعرفي... وفي الواقع كان ابن خلدون صائباً عندما وضع نظريته في علم الاجتماع ‏بوجه عام، وما عاب نظريته عن العقلية العربية سوى أنه لم يكن حيادياً ولم يتحدث عن العرب بمنطق علمي يحترم عقل القارئ ولم يذكر لهم حسنة .. لدرجة أنه يُشعر القارئ بأنه ‏يتحدث عن مجتمع ليسو بشر وإنما غابة من الضباع والذئاب الجائعة، إنما في الحقيقة هم مجتمع لكن طبيعتهم مختلفة عن شعوب الحضارات المدنية، وعقليتهم أدبية نظرية... وليسو جبناء ‏كما وصفهم ابن خلدون، بل العكس تماماً، فجميع الشعوب التي وقعت تحت جيوشهم وصفوهم بالوحشية والقتال الانتحاري لكنه هجومي لا دفاعي، ذلك لأن طبيعتهم في الأصل طبيعة حربية نشاطها الفروسية ‏والإغارة.‏

‏3- والدة الملك أحمس اسمها بالمصرية القديمة " ‏‎"‎إياح حتب" وتعنى بالعربية قمر الزمان، وقد ضحت بزوجها وابنها البكر في سبيل تحرير الوطن، ثم دفعت ابنها الثاني أحمس إلى ‏ميدان التدريب لقيادة الجيوش المصرية، وقد نجح في المهة وتمكن من طرد المحتل الهكسوسي العربي وهو في الثامنة عشر من عمره.

‏4- من مقال للدكتور حسين دقيل، منشور على موقع ساسة بوست، بعنوان " من أخلاق المصريين القدماء ج(5) التواضع " ‏‎23 ‎مايو, 2018 – نقلاً عن مصادره من وصايا وتعاليم الحكيم «كاجمني» موجودة في «بردية ‏بريس» المحفوظة بمتحف اللوفر بباريس وترجع إلى عصر الأسرة الثانية عشرة، وبردية بريس تُعتبر من أشهر البرديات الطبية، وقد عُثر عليها في الأقصر سنة 1862، حيث اشتراها جورج أبريس – الذي قام بنشرها – من ‏أدوين سميث، ويبلغ طولها 20.3 مترًا ًوعرضها 0.3 مترًا، وتحتوى 108 عمود، وكانت تحتوى على 887 وصفة طبية لأنواع متعددة من الأمراض وأعراضها، ومن بينها وصفات لأمراض الجلد والتجميل والزينة وإنماء ‏الشعر‎.‎‏ على رابط: ‏https://www.sasapost.com/opinion/from-the-morals-of-the-ancient-egyptians-p5-humility‏/‏

‏5- مقال للأستاذ أحمد متاريك، بعنوان : صحابة أقباط: هل كان هنالك مصريون بين الصحابة؟ " منشور على موقع إضاءات بتاريخ : 23/2/2019م . نقلاً عن أبو نعيم في «معرفة ‏الصحابة‎».‎‏ رابط ‏https://www.ida2at.com/sahabah-copts-were-there-egyptians-among-sahabah/‎

‏6- في الفصل الرابع من الكتاب الأول ( الفصل الحادي والعشرون: باب في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع ( 404 )‏



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن