غبار الاحتلال العربي (2)

محمد مبروك أبو زيد
mabozaid52@gmail.com

2019 / 5 / 19

عرفنا في المقال السابق مدى الاختلاف الجذري بين طبيعة العقلية العربية الأدبية البرية، والعقلية المصرية المدنية العلمية ، وعرفنا أثر ‏ذلك الاختلاط الذي حدث عند دخول العرب مصر في عهد ابن العاص، وما نتج عن ذلك من اقتلاع الثقافة المصرية العلمية وتنحيتها جانباً لحلول ‏الثقافة العربية الأدبية، ما أدى بمرور الوقت إلى تصحُّر العقلية المصرية وطمس الهوية الوطنية ‏... ولك أن تتخيل كيف لطفل أن يطمس حضارة بأكملها.. ففيما بعد أمر الحاكم بأمر الله بمنع استخدام اللغة المصرية فى الحياة اليومية، وكانت ‏الضربة القاضية التي تلقتها اللغة المصرية في عهده بمثابة نهاية للغة الفراعنة، فقد أصدر أوامر مشددة بإبطال استخدام اللغة المصرية في التعامل الشعبي ‏نهائياً فأصدر الأوامر بإبطال التكلم أو التلفظ باللغة المصرية فى الشوارع والأسواق وغيرها من الأماكن العامة ومعاقبة كل من يتكلم بها بقطع لسانه، ثم ‏ضيق على الأولاد والبنات والسيدات فى بيوتهم، فأمر بأن يقطع لسان كل سيدة تتكلم مع أولادها باللغة المصرية،‎ ‎ولم تمض مائتي عامٍ من هذا العهد ‏حتى اختفت اللغة المصرية من القرى والنجوع وظلت كلمات غير مفهومة يصلى بها القداس الذي تُرجم إلى العربية حتى يستطيع الأقباط الصلاة. وإن ‏ظلت المصرية العامية هي لغة الكلام بين أهل الصعيد حتى عصر المؤرخ تقي الدين المقريزي عهد المماليك، ولكنه منذ القرن السادس عشر تحولت اللغة ‏المصرية إلى لغة ميتة ولم تعد محفوظة إلا في القداس.‏‎. ‎
وهي ذات السياسة التي اتبعها الإنجليز حينما دخلوا مصر في القرن العشرين، حيث حاول الإنجليز السيطرة على الشعب من خلال فرض اللغة ‏الإنجليزية في مصر، ليس بشكلٍ مباشر وساذج كما فعل العرب وإنما بالتحكم في خطة التعليم والمناهج الدراسية للطلاب، وتعميم اللغة الإنجليزية في ‏دواوين الحكم وشؤون الدولة الإدارية، لكن الزعيم المصري سعد زغلول كان نبيهاً جداً لنوايا الاستعمار، بصفته كان مثقفاً ووزيراً للمعارف (وزارتي التربية ‏والتعليم والتعليم العالي حالياً)، فحارب مشروع "الجلنزة" وأصر أن يحتفظ الشعب المصري بلغته لأن الاحتلال لا بد أن يرحل.. أما في عهد الحاكم بأمر ‏الله، فكان الشعب المصري في حالة من القمع السياسي والعسكري، ولم يكن هناك من يقف لهذا الطفل ويرده عن سلوكه، فتمكن من هدم حضارة ‏الفراعنة ثقافياً، لأن مجرد تحول الكتابة الهيروغليفية إلى لغز بعد تناسي المصريين معنى ودلالة الحروف المكتوبة في عهد الرومان لا يعني طمس للهوية ‏الثقافية والقومية المصرية، إنما تغيير اللغة والثقافة الاجتماعية والتاريخ الاجتماعي في عهد الفاطميين هو ما أدى فعلياً لطمس الهوية المصرية الفرعونية ‏والحلول محلها بلغة وقومية العرب وثقافتهم، ولهذا بدأ الأزهر بتدريس اللغة العربية وآدابها وشعرها الجاهلي وتاريخها الدموي، واستبعد تماماً تاريخ مجتمعنا ‏المصري العلمي الفرعوني... وكان على الأزهر أن يتبنى فقط "الدين الإسلامي" وليس القومية العربية... فمن هنا اختفت عن المجتمع المصري قوميته ‏وثقافته، ولم يبق من لغة المصريين سوى بعض الكلمات التي تستخدم على ألسنة الناس من أمثلة؛
قول الأم لطفلها عندما تقد له الطعام كلمة (مَمّ) وهي في الأصل الفرعوني (موم) ومعناها " كُل أو أكل" .. وكلمة (امبو) هي في الأصل ‏الفرعوني (امبمو) بمعني" اشرب " . وكلمة (واوا) معناها في الهيروغليفية ألم أو وجع. و كلمة " كخ " معناها الفرعوني قذارة. وكلمة "تاتا " الفرعونية ‏تظهر في قول الأم لطفلها" خطي العتبة.. تاتا " معناها الهيروغليفي امشي . وكلمة (بخ) كلمة فرعونية (بيخ) ومعناها بعبع، عفريت. وسمعنا عندما ‏يطرق أحد الباب كلمة ( مين ؟) وهي من أصل فرعوني ويقابلها في العربية (مَنْ ؟ ) وتعنى الاستفهام عن شخص مجهول‎ ‎‏. وعلمتنا أمهاتنا أن ننادي ‏علي القطة باسمها الفرعوني "بس‎" .‎‏ وتطورت الحياة وتبدلت وتغيرت ولكن بقيت ا لكلمات تؤكد علي خلود النطق الفرعوني الذي توارثناه من أجدادنا ‏ليظل حاضراً علي أرض الأهرامات. لهذا نقول كلنا علي الكبابجي "حاتي" واسم اللحمة الفرعوني هو حات، والعظم اسمه بات بالفرعونية، والبعض لا ‏يزال يقول أنه (كان جعان ونزل علي الأكل ) "حتتك بتتك" أي أنه لم يفرق بين اللحم والعظم، وقولنا (يا مطرة رُخّي رُخّي)... وهي الكلمة (رخ) ‏بالفرعونية ومعناها ينزل‎.‎‏ وعندما نصف شخص إذا كان خفيف العقل نقول أن (عقله تراللي..) ونقول (بَشبِش الطوبة اللى تحت دماغه) وهو الطوب ‏بعد صب الماء عليه ليكون ليناً. ومن أسماء المكاييل التي لا تزال سائدة الأردب وأصله أرطبة ولكن العرب عندما دخلوا مصر نطقوه إردب‎.‎‏ ونقول عن ‏الطماع أنه يكوش، أي يستولي علي كل شيء.. وحين يصرخ الرجل مستنجدا يقول "جاي " بمعني إلحقوني، ونقول (كاني وماني) أي السمن والعسل، ‏أما دكان الزلباني فهو صانع الفطير‎ ‎‏.. ‏
وفي طعامنا نقول الفول المدمس، ومدمس فرعونية الأصل وهي (متمس) أي المدفون أو المنقوع. أما (البصارة) أصلها الفرعوني ومعناه الفول ‏المطبوخ. وكذا قولنا (العيش باش خلاص) كلمة "باش" كلمة بالطبع ليست عربية ولكن فرعونية ومعناها لان أو طري‎.‎‏ وفي قولنا ( ده ياما) كلمة "ياما " ‏هي كلمة (آما) بالفرعونية ومعناها كثير. وكلمة الجو (صهد) كلمة فرعونية ومعناها لهيب‎.‎‏ وحينما ننادي على شخص ( يا فلان..) فيرد (ها) عايز ‏إيه؟ كلمة (ها ) أصلا فرعونية (اها) ومعناها نعم‎.‎‏ وهناك بلاد اسمها فرعوني مثل دمنهور (دمي) أي مدينة, ( هور) أي الإله حور فتكون مدينة الإله ‏حور. أما بسيون كلمة فرعونية خالصة معناها الحمام‎.‎‏ ولا تزال الكثير من البلاد المصرية تبدأ أسماءها بكلمة فرعونية مثل كلمة و"ميت" مثل ميت غمر ‏أو ميت برة وميت أبو الكوم، وقرية‎ ‎ميت رهينة، وكلمة "ميت" تعني بالفرعونية (طريق) .وكذا كلمة منيا مثل منيا القمح ومنيا البصل، ومحافظة المنيا، ‏وكلمة منيا تعني (محطة) باللغة الفرعونية...( نقلاً عن صفحة جريدة " حديث المدينة المصرية ") ومما ذُكر يتضح لنا أن اللغة المصرية العامية ما زالت ‏تحمل الكثير من لغتنا الأم المصرية الفرعونية، بينما الفصحى في مصر اتخذت اللغة العربية كأصل، فكما يقول الدكتور طه حسين أن الفصحى المصرية ‏أقوى من الفصحى السورية بينما العامية السورية أقوى من العامية المصرية؛ ربما ذلك لأن المصريين شعب له حضارة أصيلة عميقة ضاربة في الجذور بعمق ‏قواعد الهرم ولذلك لم يتخلوا عنها بسهولة فهي مغروسة في النسيج الذهني للشعب.‏
وأصبحت بذلك اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، لغة الحاكم ولغة الحكومة والدواوين والموظفين والشعب، ومع ذلك ظل كثيرون من ‏المصريين يذهبون إلى المدارس المصرية التي ظلت قائمة لعلة.. ليدرسوا الطب والرياضة والفلك والعلوم باللغة المصرية، وهذه العلوم هي موروث فرعوني ‏متراكم عبر العصور وتخلوا منه اللغة العربية وثقافتها. فاللغة العربية قادمة من الصحراء وليست لها خلفية علمية أو أي رصيد علمي.. وبمرور الوقت ‏ذهبت هذه الخلفية العلمية المصرية مع ذوبان لغتهم الفرعونية، وحلت محلها اللغة العربية بثقافاتها، وهي لغة أدب وحكايات خيالية، وخلفيتها الثقافية ‏قادمة من عقلية صحراوية برية تختلف عن المجتمع المصري، لأن المجتمع المصري مجتمع مدني بطبيعة تكوينه ونسيجه الذهني، ولا يختلف اثنان على أنَّ ‏لغة كل شعب هي وسيلة التواصل بين أبنائه، وبوابته لفهم تراثه وواقعه الثقافي والمعرفي، وأنها تكتسب قيمتها أمام الشعوب الأخرى بقدر تَقَدُّم ‏أصحابها وإضافتهم إلى رصيد العلم والتقدم ما يحمس أبناء الثقافات الأخرى ليتعلموها كي ينهلوا من رصيدها المعرفي‎ .‎أما العرب فقد فُرضت علينا ‏لغتهم فرضاً وهي خالية من أي رصيد معرفي، أي لم يقبل المصريون عليها لتعلمها كي ينهلوا من علومها ومعارفها بل فرضت عليهم وتنازلوا عن لغتهم ‏قهراً، ولا يمكن لشعبٍ أن يتنازل عن لغته ولسانه قهراً إلا إذا كان في أقصى درجات الانهيار للإرادة، وهذا ما يثبت أن المصريين تشربوا الثقافة العربية ‏بحكم الواقع وبحكم الظرف القهري المفروض عليهم وليس اختياراً طوعياً إرادياً. ولذلك وجدنا اللغة العربية حلت بثقافتها الصحراوية البرية، وبدأ أطفال ‏المصريين جيل بعد جيل يتشربون العقلية الصحراوية البرية ويتشبعون بثقافتها وطريقة تفكيرها، وسأكتفي هنا بمثال واحد أو اثنين على الأكثر مع ‏تحليله من ناحية الفكر الإنساني الحضاري؛
المثال هو مَثَل شعبي درسناه في مراحل التعليم المتوسطة، برغم خطورة هذه المرحلة نتيجة مرور الطلاب بمرحلة تكوين عقلي ونفسي هي مرحلة ‏المراهقة التي تنطبع فيها الأفكار والمشاعر المرهفة في العقل وتظل خلفية لأفكارنا ومشاعرنا مدى الحياة. هذا المَثَل يقول: " رجع بخُفي حُنيْن " وهو ‏مثل‎ ‎عربي يضرب عند‎ ‎اليأس‎ ‎من إدراك الحاجة والرجوع‎ ‎بخيبة الأمل‎.‎‏ وفيما يلي قصة مضرب المثل:‏
القصة هي أن رجلا كان يُدعى حُنين يعمل مصلحًا وصانعًا للأحذية في مدينة‎ ‎الحيرة‎ ‎بالعراق، وكان مشهورًا بصناعته وإتقانه وخبرته بها، وفي يوم ‏من الأيام مر أمام دكانه أعرابي يركب على‎ ‎بعير، فأناخ بعيره جوار‎ ‎الدكان‎ ‎ودخل إلى حُنينٍ يسأله وينظر للأحذية التي يصنعها ويدقق فيها، وقد أعجبه ‏أحد هذه الأحذية فسأل عن السعر وبدأ بالجدال والمساومة حول السعر كأنه يريد أن يشتريه، وبعد طول جدال أخذ الكثير من وقت حُنين اتفق معه ‏على سعر وإذا بالأعرابي يترك الدكان ولم يأخذ الحذاء ولم يشتره ولم يُعِر حُنين أي اهتمام، فسبب هذا التصرف لحُنين الغضب لأن هذا الأعرابي أخذ منه ‏الكثير من الوقت وعطّله عن عمله وعن زبائنه الذي رأوه منشغلًا به عنهم فانصرفوا عنه، فخسر زبائن اليوم ولم يبع حُنين شيء؛ لذلك أراد أن ينتقم من ‏تصرف الأعرابي وأن يفرّغ غضبه بطريقة انتقاميّة، فراح يلحق به وسلك طريقًا جانبيًا أسرع من الطريق الذي سلكه الأعرابي فأصبح أمامه بمسافةٍ، وأخذ ‏الخُفين ووضع أحدهما على الطريق، وعلى بعد مسافة كافية منه وضع الحذاء الثاني واختبأ في مكانٍ يراقب منه الأعرابي عندما يصل لهذه المنطقة. وعندما ‏وصل الأعرابي ووجد‎ ‎الحذاء، قال ما أشبهه بخفي حُنين، لكن هذا حذاء واحد فلو كان الثاني معه لأخذته، فتركه وسار في طريقه، وبعد مسافةٍ وجد ‏الحذاء الثاني، وقال كأنه هذا وذاك خفي حُنين، فأخذ الثانية ورجع للأولى كي يلتقطها، وترك دابته مكان الحذاء الثاني ، وهنا كان حُنين يتربّص به فلما ‏ترك دابته ورجع للحذاء الأول، أخذ حنين دابته وهرب بها، وعندما عاد الأعرابي لمكان الدابة لم يجدها وعاد إلى أهله فارغ اليدين وقد كان عائدًا من ‏السفر محملًا بالأغراض والهدايا، فاستغرب أهل الحي عودته راجلا, ولما علموا بما حل به, قال أحدهم‎: ‎عاد بخفي حنين‎, ‎فذهب قوله مثلا‎.‎
ذهبت العلوم والمساطر والأقلام من المدارس والعقلية المصرية وحل محلها حكايات العرب وطريقتهم في الكيد والانتقام والنصب على بعضهم، فهذه ‏طبيعة الحياة في الصحراء وشظف العيش والجفاف والغلظة وفقر المعرفة الإنسانية والرحمة، فبدلاً من أن يتعلم الأطفال كيف بنا جدهم الهرم الأكبر، وما ‏هي نظرية البناء الهندسية التي اتبعها، أو كيف صنع أجدادهم أوراق البردي، صاروا يتعلمون كيف نصب الأعرابي على أعرابي مثله ! ليتعلم الطفل كيفية ‏الإبداع إذا أراد أن يجرب النصب، أو يتعلم آخر كيف يكوّن مضادات حيوية ضد هذا النوع من النصب والاحتيال.. وهذه جميعها أفكار وثقافات ‏وليدة عقلية صحراوية بدوية لا تغني معنا ولا تشفع ولا تنفعل لأن العقلية المصرية نسيجها عملي تطبيقي، والإنسان المصري بطبعه ميّال إلى حسن ‏النية والصدق والوفاء، بعيداً عن الاحتيال العربي هذا، فلا الطفل الذي أراد أن يبدع استفاد في شيء، ولا الذي أراد أن يتحصن بمضاد حيوي استفاد ‏أو أفاد بلده في شيء لأن العقلية المصرية وقودها ليس من هذا النوع من الثقافة.. ومن هنا تفتت العقلية المصرية وجفت منابعها وذابت طاقتها سُدى ‏كما السيارة التي تعمل ببنزين 98 وتم تموينها بشحم. والخطورة أن نأتي بأغلظ أنواع الشحوم في مرحلة عمرية هي الأكثر رهافة في الحس والشعور ‏والفكر !.. هكذا درسنا مادة الأدب العربي في المراحل الإعدادية والثانوية ! وهي قمة الصراع والتناقض المعرفي الذي ينشأ عليه عقل الطفل حينما ‏يدرس نموذج الحضارة الفرعونية العظيمة وفي ذات الفصل الدراسي يدرس نموذج حياة عرب قريش في الصحراء والحكم والأمثال الشعبية والشعر والتاريخ ‏الجاهلي، ثم ينتمي إلى القومية العربية هذه عملياً !‏
بينما نجد الأدب المصري القديم في عينات من رسائل البردي تحمل الكثير والكثير من القيم والأخلاق السامية، فقبل أربعة آلاف عام تقريبا من ‏الآن وتحديداً فى عصر الدولة الوسطى وقعت حادثة ارتفعت فيها صيحات تطالب بإقامة (العدل) دلت على عبقرية وفصاحة فلاح مصري قديم اسمه ‏‏"خون آنوب" كان يقيم فى منطقة "وادي الملح" على أطراف وادي النطرون غرب إقليم الفيوم، وجسدت هذه الصيحة المبدأ الذي أرساه أجدادنا عن ‏العدالة، والذي وجدناه على جدران الأهرامات موجزاً في كلمات (العدل والحق أساس الملك).. وتبدأ القصة حيث كان جدنا الفلاح المصري "خون ‏آنوب" يجمع بعضاً من منتجات وسلع قريته فى نهاية موسم الحصاد إلى جانب أجولة الملح وجلود الحيوانات المجففة ويتوجه بها إلى مدينة "أهناسيا" ‏عاصمة الدولة المصرية فى ذلك الوقت – وهي حالياً مركز من مراكز محافظة بني سويف – لمقايضتها بالغلال والحبوب، وفى إحدى هذه الرحلات تعرض ‏لمكيدة من أحد كبار الموظفين واسمه "تحوتى نخت" الذي حاول الاستيلاء على قافلته وحميره وبضائعه فسد عليه الطريق بصناديق من أقمشة الكتان، ‏فاضطر الفلاح "خون آنوب" إلى السير بمحاذاة حقل القمح المملوك لـ "تحوتى" وهذا ما يسر له الفرصة للاستيلاء على قافلة الفلاح الفصيح بمجرد أن ‏قضم أحد حميره بعضاً من سنابل القمح‎.‎
‏ ذهب الفلاح "خون آنوب" إلى الوزير الأول ورئيس بلاط الملك فى المنطقة "رنسى مرو" الذي حاول التثبت من الأمر فجاءت شهادات المعاونين فى صالح ‏زميلهم الموظف "تحوتى نخت‎" ‎، فبدأ الفلاح "خون آنوب" فى كتابة رسائل عتاب وشكوى ورجاء فى رفع الظلم، ولما كان الفلاح المظلوم بليغاً ومبدعا فى ‏رسائله فقد حملها الوزير إلى الملك الذي قرر عدم الفصل فى الأمر حتى يستمر الفلاح فى الكتابة مع توفير الطعام لأسرته ورعايتها حتى يعود إلى قريته، ‏واستمر الفلاح فى الكتابة حتى وصل إلى تسع رسائل فقال فى شكواه‎ :-
‎"‎‏ أنظر إنك لرئيس وبيدك الميزان‎
فلا تدع الميزان يختل‎
إنك لسان وهو ذلك اللسان الصغير للميزان‎
قلبك هو تلك الصنجة‎
وشفتاك هما قلب الميزان‎
فإذا سترت وجهك عن الظالم‎
فمن ذا الذي يمكنه أن يرد العار‎
أنت تصنع العدل‎
وتصنع كل طيّب وتبيد كل خبيث‎
أنت تجئ كالشبع وبمجيئك ينتهي الجوع‎
أنت تجئ كالثياب وبمجيئك ينتهي العرى‎
أنت كالسماء الهادئة بعد عاصفة هوجاء‎
تعطى الدفء لمن أصابه البرد‎
أنت كالماء تروى الظمآن ‏‎"
‏- ولما استبد به اليأس من عدم الفصل فى شكواه، أرسل رسالته التاسعة والأخيرة يقول فيها‎ ‎‏:‏
‎"‎من يبحر مع الكذب لا يصل إلى اليابسة‎
وهذه السفينة لن تستطيع أن ترسو فى ميناء‎
لا تكن خفيفاً ولا ثقيلاً‎
لا تكن سريعاً ولا بطيئاً‎
لا تخف وجهك عما تراه‎
لا تعم عينيك عما تراه‎
لا تكن متراخيا وأعلن كلمتك‎
ها أنا أشكو إليك ولكنك لا تسمع‎
سأذهب واحمل شكواي إلى " أنوبيس" رب الآخرة‎"
ولما كان أنوبيس إله الموتى فى مصر القديمة فقد شعر الملك والوزير "رنسى مرو" بإشارة الفلاح الفصيح الى أنه انتهى أمله وتوجه بالدعاء على الجميع من ‏الظلم، وهنا قرر الملك الفصل فى شكواه ورد حقه إليه‎ ‎‏ كاملاً.."‏
أما المثل الثاني من عينات الأمثال الشعبية العربية فهو يقول: "جزاؤه جزاء سنمار " ‏
وهو من الأمثلة العربية الشهيرة، والتي ما زالت تستعمل حتى اليوم، فقد ذكر في كتب السير عن إمارة الحيرة، أن النعمان‎ ‎ملك‎ ‎الحيرة‎ ‎أراد‎ ‎‏ أن يبني ‏قصراً ليس كمثله قصر، يفتخر به على‎ ‎العرب، ويفاخر به أمام‎ ‎الفرس، ووقع اختيار‎ ‎النعمان‎ ‎على سنمار لتصميم وبناء هذا القصر، وزعموا أن سنمار ‏هذا كان رجلاً رومياً مبدعاً في البناء. استدعى‎ ‎النعمان‎ ‎هذا البناء أو‎ ‎المهندس‎ ‎وكلفه ببناء قصر ليس له مثيل، يليق بالملك النعمان. ونحن نظن أن ‏سنمار طارت به أحلامه وآماله في عطية ملك العرب بعد أن يبني له القصر الأعجوبة، وكان ذلك حتى قبل أن يظهر النفط. يقولون: استغرق سنمار ‏في بناء هذا القصر عشرين سنة، وانتهى سنمار من بناء القصر وأطلقوا عليه اسم‎ ‎الخورنق، وكانت الناس تمر به وتعجب من حسنه وبهائه. انتهى سنمار ‏من بناء القصر على أتم ما يكون وجاء‎ ‎النعمان‎ ‎ليعاين البناء. استعرض‎ ‎النعمان‎ ‎القصر وطاف بأرجائه، ثم بعد محادثة قصيرة مع سنمار، أمر رجاله ‏بإلقاء سنمار من أعلى القصر فسقط سنمار على الأرض، فقال وهو يلفظ أنفاسها الأخيرة : ((جزاني لا جزاه الله خيراً... إن النعمان شراً جزاني.. ‏رصصت بنيانه عشرين حجة أتممته عنه رماني... )). ولكن ما هذا الحوار الذي انتهى بقتل سنمار ؟ يزعم كتاب السير أن سنمار قال‎ ‎للنعمان‎ (‎أما والله ‏لو شئت حين بنيته جعلته يدور مع‎ ‎الشمس‎ ‎حيث دارت. فسأله النعمان: إنك لتحسن أن تبني أجمل من هذا ؟ ثم أمر برميه من أعلى القصر حتى لا ‏يبني لأحد غيره مثل هذا القصر الجميل) وأياً كان السبب فهذا هو جزاء المعروف عند هذا الملك، ومن يومها ضربت مثلاً يقولون جزاء سنمار‎.‎
هذا المثل صار أشهر من النار على العلم، ليس فقط في أوساط المثقفين، بل حتى على ألسنة عوام الناس، وهذه كارثة كبرى، أن تشيع مثل هذه ‏الثقافة وهذه الأفكار الشيطانية لأنها حتماً ستلد في عقول الناس شياطين صغيرة، ليس شرطاً أن تكون بحجم قصر النعمان لكنها تتمثل في المعاملات ‏البسيطة بين الناس، غير أنها تقلل من شأن الرادع العام وهو الضمير الإنساني... والغريب أننا لو نظرنا في عين الحضارة العربية خلال كافة عصورها ‏‏(الخلافة الراشدة والعصر الأموي في دمشق والعباسي في بغداد والأموي في الأندلس سنجد أن سياساتها في الغالب قامت على هذه الفلسفة، كان ‏الحكام يقتلون أعز أقربائهم وأصدقائهم خوفاً على سلطانهم ووجاهتهم، فهذا طابع أصيل في الذهنية العربية، فالأمر لا يتوقف على مجرد مَثَل شعبي من ‏وحي الخيال، بل إن الثقافة والتاريخ والتراث العربي يكاد يجمع على تأصُّل هذه الظاهرة في العقلية العربية).. ‏
ونتيجة التغيرات النفسية والسيكولوجية في المجتمع القديم وجدنا الفقه يتأثر بهذه العوامل فظهرت لنا فتاوي تبيح وتقنن قتل المخالفين في الدين ‏والمذهب، وتبيح وتقنن زواج الطفلات الصغيرة بإذن آبائهم أو أعمامهم أو أجدادهم، تأسياً بسنة النبي الذي زعموا أنه تزوج طفلة قاصر في التاسعة من ‏عمرها، بينما أن الفطرة تقتضي التعقل، فالله تعالى يقول " وانكحوا الأيامى منكم " وليس القاصرات، وحكيمنا الفرعوني "عنخ شاشنقي " يقول لولده ‏وهو يحثه على الزواج فيقول: اتخذ لك زوجة حين تبلغ العشرين، حتى يتأتى لك الخلف، وأنت في معية الشباب‎.‎‏. ووجدنا كذلك عند فقهاء العرب ‏انهياراً وضع المرأة في المجتمع من جديد وظهور فتاوى غريبة تقوم على التفرقة الفجة بين الجنسين باعتبار المرأة دون الرجل في الحقوق الإنسانية، حتى ‏وجدنا من يفتي من الفقهاء بأن عقد الزواج هو عبارة عن عقد تمليك ومحله هو بضع المرأة أي " فرجها "، ومصلحة الرجل في هذا العقد هي التمكين ‏من بضع المرأة، وطالما توقفت المصلحة تعطل العقد، ومن ثم لا تجب عليه النفقة على زوجته إذا مرضت، ولا يلتزم بعلاجها، وإذا توفيت فلا يتكفل ‏بمصاريف جنازتها ولا كفنها.. وبهذا الكلام اقتنع الفقهاء وأقروه شريعة.! ‏
بينما نجد وضع المرأة في التاريخ المصري أكثر إشراقاً- باعتبارها المؤشر الأكثر حساسية لرفاهية الشعوب- نجد المرأة تقف جنباً إلى جنب مع ‏الرجل وتسانده باعتبارها رفيقة الدرب لا مجرد جارية في بيت سيدها كما كان العرب، كانت المرأة في المجتمع المصري تقوم بدور الأم والمعلم، تأمل جيداً ‏صورة المرأة إلى جوار الرجل الفرعوني وموضع يديها وما تحمل من معنى يجسد حقيقة هذا المجتمع السليم فكرياً ونفسياً مقارنة بالعرب.. لاحظ موضع ‏اليد اليمنى لها معنى، وموضع اليد اليسرى لها مغزى لا يمكن أن يفهمه العرب.. فوراء كل عظيمٍ امرأة عظيمة تشد من أزره. كان رداء السيدات محتشماً ‏قبل أن يعرفوا الإيمان.. لم يكونوا يطوفون عرايا حول البيت كما كانت نساء العرب.. وبوجهٍ عام كانت المسافة بين الجنسين (الذكر والأنثى) قريبة جداً ‏في المجتمع المصري، بينما نجد المسافة بين الرجل والمرأة شاسعة في المجتمع العربي، لأن الكاريزما العربية سيادية سادية بالأساس وليست متواضعة ولا ‏متسامحة، وتميل لاستعباد الغير دائماً والتسلط عليه، ليس فقط العبيد والخدم، ولكن المرأة أيضاً تحظى بجانب كبير من العبودية في مجتمعاتهم.‏
فنجد من مأثورات القومية العربية ما يقدس عبودية الأنثى ويرفع من شأن الرجل درجات فوقها بما يخل بالميزان الاجتماعي بوجهٍ عام، فعندما ‏نسينا حضارة أجدانا المصريين الفراعنة وبدأنا نتبنى ثقافة العرب وشربنا منها وجدنا ثقافتهم ترسي لنا مبادئها دون أن ندري، مثال: قالت أم لابنتها ‏ليلة زفافها وهي تودعها .." أي بنيّــة .. إنك قد فارقت بيتك .. الذي منه خرجت .. ووكرك الذي فيه نشأت .. إلى وكر لم تألفيه .. وقرين لم تعرفيه .. ‏فكوني له أمة .. يكن لك عبدا .. واحفظي له عشر خصال .. يكن لك ذخراً .. أما الأولى والثانية .. فالصحبة بالقناعة والمعاشرة بحسن السمع والطاعة ‏‏.. أما الثالثة والرابعة .. فالتعهد لموقع عينيه .. والتفقد لموضع أنفه .. فلا تقع عيناه منك على قبيح ولا يشمن منك إلا أطيب ريح والكحل أحسن ‏الحسن الموصوف والماء والصابون أطيب الطيب المعروف. وأما الخامسة والسادسة .. فالتفقد لوقت طعامه .. والهدوء عند منامه .. فإن حرارة الجوع ‏ملهبة .. وتنغيص النوم مكربة .. وأما السابعة والثامنة .. فالعناية ببيته وماله .. والرعاية لنفسه وعياله .. أما التاسعة والعاشرة .. فلا تعصين له أمراً ‏ولا تفشين له سراً .. فإنك أن عصيت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره .. ثم بعد ذلك .. إياك والفرح حين اكتئابه والاكتئاب حين ‏فرحه.. فإن الأولى من التقصير والثانية من التكدير.. وأشد ما تكونين له إعظاماً.. أشد ما يكون لك إكراماً.. ولن تصلي إلى ذلك حتى تؤثري رضاه ‏على رضاكي.. وهواه على هواكي .. فيما أحببت أو كرهت."‏
وهذا بالطبع عند قراءته من الوهلة الأولى لا نجد فيه غباراً، لكنن بعد القراءة الكاملة نلمح نظرة العنصرية الذكورية في محورين؛ الأول في ‏النصيحة التاسعة والعاشرة التي تجعل من الرجل سيداً مقدساً على المرأة وأنهما ليسا شريكين في الحياة على الوجه الطبيعي والاجتماعي والإنساني ‏الصحيح. وأما المحور الثاني فيكمن في أن تراث الحضارة العربية لم ينقل لنا نصائح الرجل لابنه المقبل على الزواج كما نقلت نصائح موجهة حصرياً للفتاة ‏قبل دخلوها بيت العبودية، برغم أن الرجل أقوى وأشد في البنية والشخصية من الفتاة وهو الأولى بالنصيحة مخافة الانحراف (لأن النصيحة جاءت في حد ‏ذاتها عبارة عن إنذار وتحذير من غضب الرجل، وتجاهلت تماماً حقوق المرأة، أي تناولت الحياة الأسرية من قطب واحد فقط ولهذا قدسها العرب ‏واحتفلوا بها وحفظوها إلى عصرنا).. وذكرت المدونات التراثية للعرب قولهم:" يُكره نكاح الحنانة والمنانة والأنانة والحداقة والبراقة والشداقة والممراضة. ‏فالحنانة التي لها ولد تحن إليه, والمنانة التي تمنّ على الزوج بما تفعله، والأنانة كثيرة الأنين, والحداقة التي تسرق كل شيء بحدقتها وتكلف الزوج, والبراقة ‏التي تشتغل غالب أوقاتها ببريق وجهها وتحسينه. وقيل: هي التي يصيبها الغضب عند الطعام فلا تأكل إلا وحدها, والشداقة كثيرة الكلام , والممراضة ‏التي تتمارض غالب أوقاتها من غير مرض".. وفي المقابل لم يردنا في التراث العربي أي نصيحة للرجل أو وصفُ نقدي على اعتبار أن الرجل العربي هو ‏أمير طول الوقت ومنزه عن النقائص !‏
وفي المقابل نجد نصيحة المصريين القدماء جاءت موجهة بالدرجة الأولى للرجل تجاه المرأة؛ فمن نصائح الحكيم "بتاح حتب" "إذا كنت عاقلاً ‏أسس لنفسك بيتاً، وأحب زوجتك حباً جماً .. وأحضر لها الطعام .. وزودها باللباس.. وقدم لها العطور .. إياك ومنازعتها .. باللين تملك قلبها .. ‏واعمل دائماً على رفاهيتها لتستمر سعادتك‎ ..".‎ويقول الحكيم" "عنخ شاشنقي" عن الحب وعدم التباغض بين الزوجين يقول: إذا تراضت المرأة مع ‏زوجها، فذاك فضل من الرب، وحبذا لو تخلص قلب المرأة وقلب زوجها من البغض. ويقول أيضًا: على المرء أن يُحب زوجته، وأن يعمل لها كل خير، ‏وألا يدخر وسعًا في ذلك، فهي حقل طيب يحمل الثمار"..‏‎.‎‏ فقد حمّل المصريون مسؤولية صلاح البيت والأسرة على الرجل باعتباره الأقوى وهو الأقدر ‏على حملها، بينما العرب حمّلوا المسؤولية على المرأة برغم أن الله يقول (الرجال قوامون على النساء) ولأن القوي الكريم هو من يتعاطف مع الضعيف ‏ويحتضن مشاعره لا أن يتأمّر عليه. (لاحظ اتفاق فكر الحضارة المصرية القديمة مع تعاليم النبي أكثر من تراث القومية العربية، فالنبي هو العربي الوحيد ‏الذي أوصى الرجال بالنساء بينما القومية العربية دائماً تحذر من النساء وتتسلط عليهم) فنجد الكثير جداً من الأحاديث والآيات توصي الرجال ‏بالنساء وتصفهم بأنهن شقائق الرجال...إلخ. فالفكر الإسلامي متفق ومتسق مع الفكر الاجتماعي للمصرين الفراعنة بحيث تحددت وجهة الخطاب ‏دائماً للأقوى وهو الرجال، بينما خطاب القومية العربية جاء موجهاً للمرأة وبلهجة تحذيرية، وإن توجه الخطاب للرجل فيكون بلهجة التحذير من مكر ‏المرأة ونقائصها وعيوبها...إلخ. ولم يرد نص شعري أو نثري ينصح الرجل بالتعاطف تجاه المرأة أو احتضان مشاعرها...‏
والخطورة ليست في "سادية العقلية العربية" وإنما ما انطبع من هذه العقلية في التراث الديني هو الأكثر خطورة، لأننا نحن المصريين حتى لم نتلق ‏الثقافة العربية بطابعها ثقافة شعب من شعوب الجوار وإنما تلقيناها باعتبارها ثقافة دينية أو قرينة بالدين وتحمل ذات القداسة، ولهذا تعاطفنا كثيراً مع ‏هذه الثقافة وصببنا كل تعاطفنا المعرفي معها ما حجب عقولنا عن انتقاء الصالح منها من الطالح، خصوصاً أننا حصّناها بسياجٍ من القدسية الدينية، ‏فكما قلنا أن خطرة القومية العربية ليست في كونها عقلية أدبية طمست العقلية المصرية العلمية وإنما خطورتها في أنها طمست ملامح الدين ومبادئه ‏السمحة وطغت عليه.. فقد جعل العرب فلسفتهم في التعامل مع المرأة هي مبادئ الدين، وقد تمثل ذلك في محاولة سيطرة الرجل عليها وتطويعها ‏وإخضاعها عنوة بالحق الإلهي المقدس، ولذلك نجد الكثير من المرويات والمأثورات العربية في هذا الشأن مثال؛ ‏‎ 35) ‎باب حق الزوج عَلَى المرأة)... ‏حديث عمرو بن الأحوص‎. 1/281- ‎عن أبي هريرةَ‎ ‎قَالَ:‏‎ ‎إِذَا دعَا الرَّجُلُ امْرأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فلَمْ تَأْتِهِ فَبَات غَضْبانَ عَلَيْهَا؛ لَعَنتهَا الملائكَةُ حَتَّى ‏تُصْبحَ‎) ‎متفقٌ عَلَيهِ‎(.‎‏.. وفي روايةٍ لهما‎: ‎إِذَا بَاتَتِ المَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجهَا لَعنتْهَا المَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ‎.‎‏.. وفي روايةٍ: قَالَ‎: ‎والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِن رَجُلٍ ‏يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذي في السَّماءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْها‎.‎‏.. ‏‎ 2/282-‎وعن أَبي هريرة‎ ‎أَيضًا أَنَّه: لا يَحلُّ لامْرَأَةٍ أَنْ ‏تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنْ في بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذنِهِ‎ ‎‏(متفقٌ عَلَيهِ)، وهذا لفظ البخاري‎.‎‏..إلخ.. وبالطبع مثلت آثار هذه القومية والعقلية العربية ‏عائقاً أمام انتشار الدين لأنها تخلوا من التسامح وتخلوا من معالم الرقي الحضاري والإنساني، فقد صبغت الدين بملامح البادية العربية، وفرضت على كل ‏مسلم أن يكون بدوياً عربياً وأن يفكر بالعقلية العربية ويتقمص الشخصية والكاريزما العربية كي يكون مسلماً ! لكننا في الوقت ذاته إذا عدنا لتراث ‏الحضارة المصرية سنجده أكثر اتفاقاً مع قيم الإسلام ومبادئه مقارنة بالقومية العربية، فلا مقارنة بين مرويات العرب وبرديات الفراعنة.‏
ونقرأ أجمل مرثية حب مصرية مقابل قصائد الشعر الغزلي العربي، والمرثية المصرية هي رسالة من زوج محب لزوجته المتوفاة‎ ‎في بردية رائعة في متحف ‏ليدن في هولاندا‎..‎‏ بردية رقيقة جداً كتبها ضابط بالجيش المصري لزوجته التي توفيت منذ أكثر من‎ ‎ثلاث‎ ‎سنوات ولم يستطع أن ينساها‎ ‎‏.. عاش الزوج ‏علي ذكرى زوجته يتألم ويبكي، وكان يذهب إلي قبرها ويقف عند شاهد قبرها ويكلمها‎ ‎، وفي إحدى المرات رأى طيفاً يبدو كخيال زوجته وهو يرفع ‏يديه يريد أن يضربه علي وجه، فانزعج وكأنه فهم أن زوجته المتوفاة غاضبة عليه، وهي أم أولاده، فذهب إلي كاهن معبد آمون، وحكي له ما شاهده، ‏فقال له الكاهن‎ " ‎اكتب رسالة إلى روح زوجتك بُث فيها أوجاعك إلى الأرباب"‏‎.‎فكتب الزوج رسالة‎ ‎وذهب إلي قبرها وأمام الشاهد وقرأ الرسالة‎ ‎بصوت ‏عالي وهو يبكي.. فماذا قال هذا الزوج المحب الوفي‎ ‎‏...‏
قال‎ "‎لماذا تؤذينني حتى صرت في الحالة التعسة التي أنا فيها‎.‎
ماذا فعلت، وكيف ترفعين يدك عليَّ وأنا لم أسئ إليك قط !‏
لأُقاضينك أمام أرباب الغرب (البر الغربي رمز الموت والبعث بعد الممات) لتحكم بيني وبينك‎.‎
ماذا فعلت مما يستوجب استياءك مني !‏
لقد تزوجتكِ وأنا شابُ حديث السن فعشت بجانبك‎.‎
ثم شغلت مناصب في جهات أخرى،
فلم أهملك ولم أدخل على قلبك شيئاً من الألم‎.‎
انظري ! لقد صرت بعد ذلك ضابطاً‎ ‎في جيش الملك بين ضباط العربات الحربية‎.‎
فكنت أقدم بها إليك، وأحمل إليك فيها هدايا طيبة‎.‎
ولم أُخف عنك شيئاً طيلة حياتك‎.‎
ولم يستطع أحد أن يقول في وقت من الأوقات‎ ‎أني أسيء معاملتك‎.‎
كلا، ولم يستطع أحد أن يقول أني بعد الفراق دخلت بيتاً آخر‎.‎
وحينما أُلزمتُ بالبقاء في المكان الذي أنا فيه الآن، ‏
وكان مستحيلاً عليَّ أن أعود إليك،‎
بعثتُ إليك بزيتي وخبزي وملابسي‎.
ولم يحدث قط أن أرسلت مثل ذلك إلى غيرك‎ !
ثم لما مرضت، ألم أرسل إليك طبيباً صنع لك الأدوية،‎
وكان طوع أمرك في كل ما تطلبين‎ !
ولما وَجَبَ أن أُرافق الملك إلى الجنوب، كان عندك قلبي‎.
وقد بقيت ثمانية أشهر دائم الفكر، قليل الأكل، قليل الشرب‎.
وبعد موتك سرت إلى "منـف"‏‎ ‎‏ ورجوت الملك أن يأذن لي في العودة إليك‎.
ثم بكيت طويلاً أنا ورجالي أمام بيتي‎.
وقدمتُ كثيراً من الملابس والأقمشة لفائف لجثمانك‎.
انظري ! لقد مضت عليَّ الآن ثلاث سنوات‎
وأنا وحيد لم أدخل بيتاً آخر (أي لم يتزوج امرأة أخرى)‏‎.
أما أخواتي اللواتي في بيتي، فإني لم أدخل عند واحدة منهن‎".‎
‏***************‏
هل هناك حب بعد ذلك الحب‎ ..‎‏ هل هناك وفاء مثل وفاء المصري ؟ بل هل هناك مشاعر وإنسانية مثل‎ ‎ما كان عند المصري القديم، هذه المرثية ‏تثبت أن المصري القديم عاش‎ ‎بمشاعر الإنسان الذي يملؤه الحب الذي زرعه فيه الله عندما خلقه‎ ‎ونفخ فيه من روحه،‎ ‎ويثبت أيضاً أنه لم يكن هناك أبداً ‏تعدد الأزواج‎ ‎في أرض مصر.. وزوجة واحدة تكفي البيت والأسرة، فما أجمل تاريخنا‎ ‎وما أعظم حضارتنا، ولا مثيل لمثل هذه المشاعر الحميمة‎ ‎والحب الكبير ‏الذي يملأ قلب المصريين.. والغريب أن كافة شعوب العالم تهفو على بردية واحدة، وكل من حصل على بردية أنشأ لها متحفاً ببلاده وأنفق عليها الملايين ‏وقام بتحنيطها وترميمها وتجهيزها وعرضها للجمهور كي يقرأ ويتعلم من مأثورات الحضارة المصرية العظيمة، التي صار تاريخها علمٌ تنتفع به الشعوب ‏وتطلبه من كل مكان وتخصص له أقساماً في جامعاتها... فجميع متاحف العالم تحتضن برديات الفراعنة ولا يوجد متحف بالعالم يقبل مرويات العرب.. ‏بينما نحن تركنا أجدادنا وتراثنا الثقافي (الأكثر اتساقاً مع الإسلام) وتبنينا مرويات العرب وتراثهم واعتبرناه من الدين أو قرينٌ بالدين، برغم أنه لا يوجد ‏شعب في العالم يصبو إلى هذا التراث العربي، ولا نجد متحف في العالم يعرض قصيدة غزل عربي إلى جوار بردية حب مصرية ! ذلك لأن شعوب العالم ‏المتحضرة فهمت ووعت حجم تراثنا وثقافة أجدادنا، بينما نحن نحيناه جانباً وأوسعنا آفاقنا لتراث العرب الصحراوي.‏‎ ‎‏ (الصورة لحائط عرض البرديات ‏المصرية في‎ ‎متحف تورينو إيطاليا‎.‎‏ والتي تحتوي علي كم كبير من الأسرار والألغاز وتحكي عظمة الحضارة المصرية القديمة‎ .‎‏)‏
فبعدما نسينا تاريخنا وحضارتنا المصرية الأصيلة وتبنينا القومية العربية أصبح تعدد الأزواج هو الأصل باعتباره سُنّة، برغم أن تعدد الزوجات جاء في ‏القرآن لعلة الحفاظ على الأيتام وكفالتهم، بشرطية قرينة العدل بين الزوجات وهو ما حذر الله منه وأكد أننا لن نستطيع، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا ‏رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ ‏رَقِيبًا‎ (1) ‎وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا‎ (2) ‎وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي ‏الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا (3)/النساء.. ‏أي أن الله تعالى أكد على وحدة البناء الأسري من وحدة الخلق ومفردية ذكر الزوج (الزوجة) ثم استطرد في معالجة وضعٍ استثنائي في شؤون المجتمع وهو ‏حال اليتامى وكفالتهم ورعايتهم، ودخول بيتهم لتولي شؤونهم دون حرج، ولأن أم الأيتام غالباً ما ترفض الزواج لأجل تربية أبنائها، فأباح الله الزواج بأم ‏الأيتام في سبيل العدل مع الأيتام شريطة العدل مع أمهم وزوجته الأصلية وأولاده... ثم يأتي العرب ليقنعونا بأنهم خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف ‏وتنهى عن المنكر !‏
لكن العرب بطبيعتهم الذكورية وميولهم الجنسية جعلوا الأصل هو تعدد الزوجات ودون مراعاة لمشاعر هذه الزوجات، وللأسف أقنعونا بذلك، ‏لأنهم في الأصل ليس لديهم حب حقيقي، وإنما فقط قصائد غزل عُذري نظري تلوكه ألسنتهم ولم يتجاوز حلوقهم، فهم شعب بري بالفطرة ومشاعرهم ‏قاسية خارجة عن المجتمعات المدنية، فالحب الحقيقي لا دليل عليه إلا بعد الزواج، أما الحب العذري فهو محض تشبيبٍ وإعجاب دون فعل يدلل عليه ‏ويثبته، وجاء هذا الغزل النظري كما كانوا يتغزلون بجمال الطبيعة الصحراوية حولهم.‏
وما قد يسوق لنا الدليل على طبيعة العرب الجافة القاسية وميولهم الجنسية الشاذة، هو انتشار ظاهرة الدعارة في مجتمعهم قبل البعثة بشكلٍ غريب ‏لدرجة أنها صارت عندهم عادة غير مستهجنة اجتماعياً كما كان وأد البنات، بل صارت عُرفاً سائداً لديهم دون أي استنكار حتى من الحكماء إذا كان ‏لديهم حكماء، أو حتى لديهم حكمة اجتماعية إنسانية بسيطة تدلهم على أن ما اعتادوه هو فساد أسري وتفتيت اجتماعي وليس مجرد رذيلة أخلاقية.. ‏وكانت ظاهرة تعدد الزوجات منتشرة جداً وسائدة مثل ظاهرة العبودية، وقد اتخذ القرآن في شأنهما نظام الحلول التدريجية في محاولة للوصول إلى المجتمع ‏المخاطَب به أولاً، لكن العرب حاولوا تشريع عاداتهم القديمة في ذي إسلامي، وبما أنهم لديهم القدرة العجيبة في التلاعب باللغة فاستغلوا هذه القدرة في ‏تفسير القرآن بعد رحيل النبي، وأقنعوا الشعوب الأعجمية بأن الله يقول هكذا ويقصد كذا (باعتبارهم هم أصل اللغة وهم الأقدر على فهم الخطاب ‏القرآني من غيرهم الأعاجم، ونسوا أن القرآن ليس مادة لغوية أدبية وإنما هو مادة علمية في سياقٍ بلاغي، أي أن اللغة وحدها ليست هي الضابط ‏الوحيد لمعاني القرآن وإنما الحقائق العلمية هي أيضاً مفسرة لمعاني القرآن وضابطة للتفسير الموضوعي).‏
ولا ينكر أحدنا أن وحدة الزوجة هو قوام الأسرة الناجحة، وخير موارد العدل القياس على النفس، وخير موردٍ لعدل الرجل القياس على بناته إذا ‏شاء... ولأن أصل خلية المجتمع المصري هي الأسرة لهذا حافظوا على وحدتها بوحدة الزوجة، بينما أصل المجتمع العربي هي القبيلة، ولهذا حافظوا على ‏عصبية القبيلة بغض النظر عن الأسرة والمشاعر الإنسانية، ولم نجد أو لم يصلنا منهم قصيدة لأحدهم أو رسالة في رثاء زوجته، إلا النبي عليه السلام هو ‏الذي بكى زوجته السيدة خديجة كلما تذكرها رغم مرور سنوات على وفاتها، فحينما أردت ابنته زينب أن تهديه بشيء عزيز عليه، قدمت له هدية أمها ‏التي كانت قدمتها لها بمناسبة زواجها، حيث خلعت السيدة خديجة قلادتها لتجعلها في عنق زينب‎ ‎هدية‎ ‎العروس، فلما توفيت السيدة خديجة، قامت ‏ابنتها زينب بتقديم الهدية في صرة إلى النبي، فلما فتحاه وعرف أنها قلادة زوجته المتوفاة خديجة بكى، ولما شاهده الصحابة وسألوه عن سر بكائه ‏مستنكرين أن يكون ذلك هو السبب، فقال لهم عن السيدة خديجة " إن الله رزقني حبها " غير أنه "النبي محمد" هو الوحيد الذي من أصلٍ عربي ولم يؤمن ‏بفكرة العصبية القبلية، بل حاربها في قومه واعتبرها ضمن صفات النفاق أو صفات الجاهلية، فقال لأصحابه " دعوها فإنها منتنة" برغم ذلك لم يمتثلوا ‏لقوله، وبمجرد رحيله عادوا لعاداتهم وأصولهم ومنشئهم الاجتماعي السابق.. وهو الشخص الوحيد من أصلٍ عربي الذي تبنى الدفاع عن حقوق المرأة بين ‏هذا المجتمع العربي الذكوري السادي، فكان يوجه كلامه للجميع، الصحابة قبل غيرهم، لأن مثل هذا المجتمع لم يعتد إحقاق المرأة حقها ولا احترام ‏إنسانيتها، برغم أن وضع المرأة في المجتمع هو أمر اجتماعي وليس ديني، أي ليس من الشعائر الدينية وإنما من الحقوق والواجبات الاجتماعية التي ‏يحفظها المجتمع المتحضر (أياً كان دينه) ويسحقها المجتمع البربري (أياً كان دينه)، فقال لهم: أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا.. وخياركم خياركم لنسائهم ‏‏". فقد ربط الإيمان بالأخلاق لا بكثافة الشعائر، وربط الأخلاق بحسن معاملة المرأة كنموذج من بين الأقارب (الآباء والأمهات والأعمام والخالات ‏والأبناء والأصدقاء) اختار النموذج الأضعف لأنه أدرك مدى استضعاف المجتمع العربي للمرأة وإهداره حقوقها (سواء في المنع من الميراث أو وأد البنات ‏مخافة العار برغم شيوع الدعارة والزنا لصالح الرجال أو كان في ممارساتهم السبي؛ خطف النساء واغتصابهن عنوة أو كان في ممارسة الظهار وتعليق الزوجة ‏دون معاشرة ودون طلاق).‏
وقدماء المصريين هم أول من احتفلوا بعيد الأم كعيد مقدس ابتداء من الدولة القديمة حتى أواخر عهد البطالسة؛ حيث ورد ذكر عيد الأم في أكثر ‏من بردية من برديات كتب الموتى وخاصة كتاب أني دنيستي، كما وجدت ضمن مقابر الدولة الحديثة كثير من البرديات تضمنت نماذج من النصوص ‏التقليدية للدعاء للأم في عيدها. ونجد من نصائح الحكيم "آنى" إلى ابنه‎ "‎يجب ألا تنسى فضل أمك عليك ما حييت، فقد حملتك قرب قلبها .. وكانت ‏تأخذك إلى المدرسة وتنتظرك ومعها الطعام والشراب، فإذا كبرت واتخذت لك زوجة .. فلا تنس أمك‎ ..".‎‏ كما يوصى الحكيم والكاتب آنى بالأم وحسن ‏معاملتها ويذكر بما لها من أفضال على الابن أثناء حمله فيقول : رد إلى أمك ضعف الخبز الذي أعطته لك واحملها كما حملتك لقد كنت بالنسبة لها ‏عبئا مرهقا وثقيلا وهى لم تسأم أو تضجر عندما أزف موعد مولدك وحملتك رقبتها ومكث ثدياها فى فمك سنوات‎".‎
وفي المجمل نجد أن تراث الحضارة العربية متوافق تماماً مع مبادئ الإسلام، حيث أن ذات المعنى الذي أوردته كتابات الفراعنة شهدناها في قول الله ‏تعالى :( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..)14/ لقمان.. وورد عن رسول الله قوله حينما سئل " يا رسول الله من ‏أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ،قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أبوك‎ ‎‏).. ومن ‏العجيب أن البعض يرفض احتفال بعيد الأم ويزعم أنه ضد الإسلام ! وطالما تبنى المصريون ثقافة العرب فطريقهم إلى ما آلت إليه حضارة العرب لأن ‏حضارة العرب نبعت من قوميتهم ونسيجهم الذهني ومن تكوينهم النفسي وليس من مبادئ الإسلام، فالإسلام منهج عبادة وليس كتالوج حضارة، بل ‏إن القومية العربية خالفت مبادئ الإسلام في كل مراحلها.. لكن بالفعل بدأ المصريون يستيقظون من ثباتهم الطويل ويعون معنى الحضارة المصرية وتراثها ‏منذ مطلع القرن العشرين. ‏
حتى أننا وجدنا الأخوين أمين «مصطفى وعلي أمين» مؤسسي دار أخبار اليوم، لاحظا أنه قد انقطع احتفال المصريين بعيد الأم خلال حقبة ‏خضوع مصر لدولة العرب لكنه عاد مرة أخرى، فبدأت القومية المصرية تفيق وتعيد الالتحام مرة أخرى مع مسارها الفرعوني القديم الذي انقطع خلال ‏حقبة الحضارة العربية، فقد وردت إلى علي أمين ذاته رسالة من أم تشكو له جفاء أولادها وسوء معاملتهم لها، وتتألم من نكرانهم للجميل، وتصادف أن ‏زارت إحدى الأمهات مصطفى أمين في مكتبه وحكت له قصتها التي تتلخص في أنها ترملت وأولادها صغار، فلم تتزوج، وأوقفت حياتها على أولادها، ‏تقوم بدور الأب والأم، وظلت ترعى أولادها، حتى تخرجوا في الجامعة وتزوجوا واستقل كل منهم بحياته، فوافق الأخوين أمين على فكرة تخصيص يوم ‏واحد، وشارك القراء في اختيار يوم 21 مارس ليكون عيداً للأم، وتغنى أحمد شوقي لها فقال:" الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب ‏الأعراق. ".. وتحدد يوم 21 مارس من كل عام ليكون احتفالاً بعيد الأم لأن هذا التاريخ هو بداية فصل الربيع الذي كان يحتفل فيه أجدادنا الفراعنة ‏فيه بعيد الأم باعتباره موسم الخصوبة وبدء الإزهار وكذا احتفل فيه الفراعنة بعيد الربيع "شم النسيم" فقد ربط المصريين القدماء بين الأم والربيع كرمز ‏للخصوبة، ولهذا احتفلوا بالأم في مطلع موسم الربيع. وبدأ الاحتفال منذ عام 1956‏‎..‎‏ وبرغم ذلك ما زال محبو القومية العربية وتراثها يرفضون ‏الاحتفال بعيد الأم باعتباره مخالفاً للإسلام ! وفي الحقيقة هو مخالف لآداب القومية العربية ذاتها.‏
حتى في عصرنا ما زالت المسافة شاسعة بين الرجل والمرأة في السعودية باختلافٍ فج مع كل شعوب العالم، فعندما ظهرت السيارات في القرن ‏العشرين وبدأت تشريعات المرور تتوالى في جميع دول العالم، لم نجد أي شعب منذ البداية يفرق بين قيادة الرجل وقيادة المرأة للسيارة، فتراخيص المرور ‏تصدر بمجرد تقديم الطلب واستيفاء الإجراءات أياً كان جنس المتقدم ذكراً أو أنثى.. عدا شبه جزيرة العرب، بدأت من البداية بالتفرقة بين ما إذا كان ‏مقدم الطلب ذكراً فيصرح له بالقيادة، وإذا كان مقدم طلب أنثى فيُرفض طلبه لأنه حرام شرعاً، واستمر اعتقال وسجن وتعذيب النساء التي تتورط في ‏محاولات قيادة السيارة، واستمر الحال على ذلك قرناً كاملاً وعلماءهم وكهنة الدين يسوقون حجج ومبررات واهية فقط لاستبعاد المرأة من قيادة ‏السيارات، والغريب العجيب أن تأتي جميعها لأسباب دينية على مدار مائة عام كاملة، ثم يصدر قرار سياسي فجأة مطلع عام 2018 بالتصريح للمرأة ‏بقيادة السيارة لإرضاء رغبة الرئيس الأمريكي ترامب، فتصدر الفتاوى فجأة بأن قرار الملك هو ما يجب تنفيذه شرعاً ! وكأن المرأة لم تعد تأتيها الدورة ‏الشهرية كما كان يقول رجال الدين على مدار مائة عام... ومع ذلك نجد أن رجال الأزهر في آرائهم الفقهية يشرعنون ثقافة المجتمع العربي القديم ‏ويعتبرونها تشريعات دينية، بينما في الواقع هي عادات العرب وهي تختلف جذرياً عن المجتمع المصري، لكن بعدما استعرب المصريون واخضعوا لسلطان ‏العرب ذهبت شخصياتهم وذهبت إرادتهم وصاروا متمسكين بعادات وتقاليد المجتمع العربي.‏
أما في تاريخ حضارتنا المصرية منذ البداية نجد الأطفال يجلسون في فصول الدراسة جنباً إلى جانب – الإناث والذكور وبيدهم الأوراق والأقلام ‏على الجداريات الأثرية– دون تفرقة عنصرية كما تلك التي شاعت في صحراء شبه الجزيرة ثم شرعوها ونسبوها للدين فحصلت عاداتهم وأعرافهم المتخلفة ‏على قدسية الدين.. في الواقع كانت قيم وأعراف وتقاليد المجتمع المصري القديم أفضل من الفقه الإسلامي الذي جاء به العرب.. لأن الفقه في الحقيقة ‏جسّد تقاليد العرب ونفسيتهم العدوانية النرجسية والسادية أكثر مما جسّد مبادئ الإسلام؛ ذلك لأنه قام في أغلبه على المرويات وليس القرآن، قام على ‏بقايا الحضارة العربية الفاشلة.. لم يكن العرب فقط قبل الإسلام يقتلون بناتهم فيما عرف بظاهرة " وأد البنات" لكنهم قتلوها أيضاً بالفقه الإسلامي، ‏قتلوا قيمتها الإنسانية واختزلوا دورها في الحياة، وقدسوا تقاليدهم في أقوال ومأثورات نسبوها لرسول الله.. هكذا وصلنا أرقى الأديان بطعم البدوية ‏والوحشية العربية، وهكذا أصبحت أعراف وتقاليد المجتمع العربي ديناً للشعوب، وأصبح تاريخهم الدموي رُكناً أبدياً في الإسلام، وعلى يدهم أصبحت ‏جرائم الحرب عبادة يتقربون بها إلى الله ! ‏
هكذا حلت الثقافة العربية بخلفيتها البرية محل العلوم الطبية والفلكية والعلمية التي كانت تدرس في المدارس القبطية القديمة، وبدلاً من أن يتعلم ‏الأطفال أن جدهم الأكبر بنا الهرم وكافأ المهندسين والعمال والمشرفين بعد إتمام البناء، صاروا يستقون تصرفاتهم من تصرفات النعمان، ونست الأجيال ‏على التوالي أن ملوك الأهرامات كانوا قبل إصدار قرار البدء في البناء، كانوا يعدون أماكن مخصصة (ضمن ذات الرسم الهندسي الخاص بالهرم) بحيث ‏تكون أهرام صغيرة كمقابر للمهندسين والمشرفين والعمال، ولذلك نجد حول كل هرم مجموعة أهرام صغيرة متدرجة في الحجم وموزعة حول الهرم، هذه ‏الأهرامات ليست لأبناء الملوك أصحاب الأهرامات الكبيرة، بل هي مخصصة للمهندسين والمشرفين على بناء الهرم، وكل هرم فيها بحجم ودرجة الموظف ‏وحسب كفاءته ودوره في عملية البناء، أما العمال الذين تساوت درجاتهم الوظيفية، فتم تصميم مقابر مشتركة لهم بسفح الهرم بغرف متعددة تشبه ‏فصول المدرسة تمثل درجتهم الوظيفية بذات منطقة الدفن الملكية (ضمن ذات الرسم الهندسي الكبير للهرم).. فلم تكن حضارة أجدادنا الفراعنة تعرف ‏ظاهرة الرق والعبودية كما حال العرب لأن المصريين بطبيعتهم متواضعين، أما العرب فلديهم غريزة سادية وسيادية واستعلاء على الأعمال، ولا يحفظون ‏الجميل، عكس ملوك الحضارة الفرعونية الذين أكرموا العمال والمهندسين الذين اشتركوا في بناء الهرم، ولم يتكبروا عليهم وأمروا بإعداد مقابر لهم ضمن ‏الساحة المخصصة للملك. ولأن العرب بطبيعتهم الكبرياء والاستعلاء على العمل، ويفضلون التجارة ورعي الغنم ولا يمكن أن تمتد يدهم على عملٍ ‏يؤدونه بأنفسهم، فلذلك لم يكن لديهم مهندسين عمليين وماهرين في البناء ولذلك استعانوا بمهندس أجنبي، أما المصريين فهم شعب حضارة يدمن ‏العمل والبناء والإنتاج، ولذلك لم يحتاجوا لمهندسين أجانب لبناء الهرم بل إنما شيدوا الهرم بطريقة محلية وعمالة محلية وخامات محلية ونظرية بناء هندسية ‏فلكية لم يستطع العلم الحديث فهمها حتى الآن... (انتهى المقال الثاني بتصرف من كتابنا : غُبار الاحتلال العربي)‏




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن