خطوة إلى طريق السماء

رسلان جادالله عامر
ruslanamer2015@gmail.com

2019 / 5 / 15

المرأة، كانت على مر العصور، ومازالت، بالنسبة للرجل حلما، إنها ليست مجرد أنثى بيولوجية تشاركه في العلاقة كذكر بيولوجي، ولكنه دوما يجد فيها، أو ينشد فيها، منطلقا ومرتقى لإنسانيته في بعدها الوجداني الجنسي نحو عوالم الحب والسمو والجمال، التي تتمثل بالنسبة له فيها كامرأة، ولكن الواقع شيء مختلف، ففيه لا يجد الرجل المرأة كما هي في صورتها الحلميّة المرسومة لها في خياله، وهكذا يصاب بالخيبة والصدمة.
عن هذا يقول جيرالد دو نيرفال, في "بنات النار:"
«عندما نرى المرأة الحقيقية عن قرب، فإنها تثير سذاجتنا،كان ينبغي أن تبدو ملكة أو إلهة، وخصوصا كان ينبغي ألا نقترب منها».
ويقول صاحب رواية "حالة طلاق":
«إنها امرأتي، لطالما أردتها بشكل مثالي، كانت بالنسبة لي الحلم الذي لا يمكن أن يكون على طريق التحقق. لكن ابتداء من اللحظة نفسها، التي أمسكتها بين ذراعي، لم تعد سوى الكائن الذي استخدمته الطبيعة لكي تخدع آمالي».

إنه لمن الرائع أن ينتظر الرجل من المرأة أن تكون إلهة أو ملكة، وأن يحلم بها بهذه الصورة البهية، ولكن من المؤسف أن خاتمة هذا الحلم هي الصحوة في عالم من الخيبة والخذلان.

لكن الخيبة والخذلان هذين، لا تتحمل وزرهما المرأة لأنها عديمة الألوهية والجلال، ولا يتحمل مسؤوليتهما الرجل لأنه يتوهم وجودهما في المرأة، ولكن الرجل مع ذلك هو من يتحمل هذه المسؤولية، لأنه يبحث عن السماء والعرش الأنثويين بشكل خاطئ، وينتظر من المرأة أن تأتيه جاهزة فيهما.
فالسبيل الصحيح للرجل الذي يبحث عن سماء وعرش الأنوثة في المرأة، هو بأن يذهب هو بنفسه إليهما فيها، إلى حيث يوجدان حقيقةً فيها، وليس إلى حيث يتوقع منهما أن يكونا، فهما موجودان في المرأة، ودائما موجودان فيها، وهذا ليس وهما ولا خيالا، ولكنهما في أعماقها، في جوهر ذاتها، في ذاتها الجوهرية المثلى، وعلى الرجل أن يحرّر وعيه وينوّر بصيرته، ليراها فيهما حيث هما، ويراها فيهما بكليتها، وعندها لن يصاب بأية خيبة ولا بأي خذلان.

إنّ الألوهة والجلال موجودان في كل امرأة، وفي كل رجل، فكل إنسان في باطنه إله، إنه إله بالقوة، ولكنه لا يستطيع التحول الكامل إلى إله بالفعل، لأنّ العالم الفعلي، الذي يعيش فيه الإنسان، ليس عالما مناسبا ليتمكن فيه من الظهور بصورة الإنسان الإله، ولا يلام الإنسان على هذا لأنه لا يمتلك القوة الخارقة الجبارة لفعل ذلك.

مع ذلك، فهذا لا يعني أن شيئا لا يتحقق ولا يظهر من ألوهية الإنسان في هذا العالم، فكل ما هو إنساني حقيقي وجميل ورفيع في الإنسان هو حقيقةً إلهي، وهذا الجميل والرفيع كثيرا ما يبلغ درجة الإبداع العبقري والبطولة والقداسة والمكرمة.
وهذا الكلام لا "يُأمثِل" الإنسان(يجعله مثاليا)، فالإنسان في الحقيقة لا يحتاج إلى أية "أمثـَلـَة"، لأن "المثال" (ideal) موجود فيه، كائن كامن قائم في أعماق ذاته وفي جوهر طبيعته، ولكنه يحتاج الفرصة المناسبة للتفعيل والظهور.

ولذا على من يتذمر من أنّ المرأة لا تأتيه بالصورة الإلهية أو الملكية المنتظرة، أن يسأل نفسه أولا، أين يقع هو نفسه من هذه الصورة، وإلى أي مدى هو في السماء والجلال ليستحق المرأة بهذه الصورة، ويكون كفوا لها!
ومثل هذا الرجل، بدلا من تذمره وتشاكيه من المرأة وخيبته بها، وإدانتها على ذلك، عليه فعل عكس ذلك، وعليه بدايةً أن يشكرها ويمتن لها على ما هي عليه من جمال ونبل واقعيين، مهما كانا غير كبيرين، فهي بذلك تظهر له ما تقدر على تحقيقه منهما تحت وطأة الواقع الفعلي، وبعدها، إن كان ما يظهر من علاء المرأة لا يكفيه، وهذا بكل تأكيد شيء كبير فيه، عليه أن يسعى معها بكل جدية لجعل العلاقة بينهما تعاونا جوهريا على ترقية السمو والجلال في كل من ذاتها وذاته معا، فبهذا التعاون يستطيعان النماء والرقاء، ويكون كل منهما عونا للآخر على تحقيقهما، وشريكا له في هذا التحقيق، ومستحقا لشريكه فيهما وبهما، وجديرا به بما يتفعّل واقعيا من ذاته الجوهرية المثلى، بما يتفعّل أيضا من نظيرتها الخاصة به فيه هو نفسه.

إننا بقدر ما نرتقي في مثالية وجوهرية ذاتنا، نستطيع أن نبصر الذات المثالية الجوهرية القائمة في الآخر، ونتعامل معها على أساس ما هي عليه في حقيقتها، وهي أنها ذاته الحقيقية، وعندها سنتمكن من محبة حقيقة الآخر هذه حبا كبيرا، ولن نصدم بصورته الظاهرية، مهما كانت بعيدة عن ذاته المثالية، ولن تعود هذه الصورة الظاهرية السيئة بالنسبة لنا سوى القناع أو الحجاب الذي يحجب ذاته المثالية، والذي يصنعه له العالم الفاسد الذي يعيش فيه، ويجبره على الانمساخ فيه.

ولذا على كل إنسان حقق قدرا أكبر من الحرية من إسار الفساد في هذا العالم، وتمكن من إظهار ذاته المثلى في صورته الشخصية الواقعية بدرجة أكبر، أن يبذل أقصى جهده لمساعدة الآخرين على الارتقاء بصورهم الشخصية الواقعية، وتفعيل ذواتهم المثالية فيها، وذلك عبر السعي الحقيقي للارتقاء بالعالم كله وتحريره من كل القوى الفاسدة التي تفسده، وتجعله فاسدا يفسد الإنسان، ويقزّمه ويحقّره.

فيا أيها السادة الرجال، الشاكين خيبة حلمكم بالمرأة مليكةً سماوية، إن كنتم نزيهين في إرادتكم لمليكة سماوية حقيقية، فهيئوا لها المعبد والعرش المقدس، وستصبح عندها المليكة السماوية التي بها تحلمون، وستصبحون معها بدوركم فرسانا سماويين في إيوانها الجليل.

ولكن ما دمتم لا تهيئون للمرأة إلا الحرملك أو الماخور، فهي لن تظهر لكم إلا بالصورة التي يصنعها لها ويحشرها فيها العالم التافه الذي لها تصنعون، ولن تكون عندها إلا عورة أو بغيا كما فرضتم عليها أن تكون، وإن تباكيتم حزنا على حلمكم المهدور، فعليكم أن تعرفوا وتعترفوا بأنكم بحقها وبحق أنفسكم الجانون، وإن توهّتم غير هذا، فأنتم أنفسكم تخدعون!

إنّ الإنسان هو محصلة ما يصنعه عالمه به ومنه!
ربّوا إنسانا في قطيع من القردة، وسيصبح عندها قردا أكثر منه إنسانا بكثير..
قولبوا المرأة في حرملك وعندها لن تكون إلا عورة..
افتحوا للمرأة أبواب العالم الإنساني، وستجدونها إنسانا يضاهيكم في كل إنسانيتكم، وينافسكم فيها على أعظم الدرجات.

هذا الكلام ليس خطبة مجانية ولا عظة تبشيرية، كما سيبدو للذهنية المادية العلموية، ولا هو يبالي بأن يعتبر زندقة من قبل المتطرفيين الغيبيين التكفيرين.
وهو لا يبتدع "أوثانا مصطلحية" عندما يتحدث عن "ذات إنسانية جوهرية مثلى"، فشيء من هذا القبيل يمكن أن نجده حتى في علم النفس المعاصر مثلا في مفهوم "الأنا المثلى" عند فرويد.
ولكن الكلام هنا لا يتبنى سيكولوجيا فرويد، ولا فلسفة أفلاطون في عالم المثل أو فكرة أرسطو في الوجود بالقوة والوجود بالفعل.
وحتى مصطلح "الذات الجوهرية المثلى" هنا لا يتم طرحه كمفهوم محدد كـ "الأنا المثلى" الفرويدية، فهذا المصطلح هنا هو مقاربة أو تقريب أكثر منه تحديدا، وغايته تقريب فكرة أكثر من تحديد عنصر مفاهيمي بعينه.
والقصد من هذا التنويه سيصبح واضحا، إذا ما استذكرنا أن فكرة المبدأ الروحي للإنسان وفي الإنسان هي فكرة قديمة وما زالت مستمرة حتى اليوم.
هذه الفكرة أدركتها الفلسفات الدينية منذ القديم، فظهرت مثلا في "البانثيئية" (مذهب الألوهة الكلية) الهندوسية، وفي "وحدة الوجود" الصوفية الإسلامية، وغيرهما، وهي ظهرت في كل الفلسفات المثالية، من أفلاطون حتى هيغل، وحتى اليوم.
وهي فكرة شهيرة وليست نكرة ولا هي بدعة، ولا تقلّ حضورا عن فكرة "المبدأ المادي" في الكون والإنسان، على الأقل، هذا إن لم تزد عليها.

إن مجرد التفكير في "المرأة الحلم" أو "المرأة كحلم" من قبل الرجل، وما يناظر ذلك من تفكير من قبل المرأة، هو دليل على وجود "حلم ما" عند الإنسان، يدفعه للطموح إلى ما هو أرقى وأسمى من القواقع التقليدية التي يعيش فيها في عالم المادة والجسد، وما كان لهذه الحلم أن يكون حلما يسعى لتجاوز الجسد والمادة، لو لم يكن ثمة قوة لامادية ولا جسدية في الإنسان تحركه من الأعماق.
في هذه الروحية، الإنسان روح، ولا انفصال بين الله والإنسان، ولعل فكرة الآلهة ظهرت أول ما ظهرت عندما أحس الإنسان بهذه الحقيقة وأدركها إدراكا باطنيا في بواكير تاريخه الإنساني، فعبّر عنها بالشخصيات والصور الإلهية، وأنشأ حولها العبادات والأديان، ولكنه بضعف إمكانياته الفكرية والعقلية والمعرفية والاجتماعية، لم يستطع أن يجعل هذه الأديان سبلا لارتقائه الروحي، ولذا كثيرا ما تحولت هذه الأديان إلى قوالب وقيود تحد وتعرقل نموه الإنساني، وأسوأ هذا يحدث في النماذج التي تصور فيها الألوهة مشخّصة بشخص قيصر كوني متربّع على عرشه السماوي ليتحكم بالعالم، بإرادته المباشرة من السماء، أو عبر قانونه الربوبي المنزل على الأرض، ما يجعل الإنسان في المحصلة عبدا لدى هذا الرب المزعوم، ومجندا في قانونه العنصري، الذي لا يسمح قطعا بأرباب ولا بقوانين أخرى، ولا حتى بتفاسير أخرى لهذه القانون، إلا التفسير الذي يفرضه كهنة هذا الرب المتسلطون، الذين يمثلون ربوبيته على الأرض، وفي المحصلة تتراجع وتتدنى عقلانية وإنسانية الإنسان في هذه العبودية الغيبية التغييبية المفروضة عليه، وكثيرا ما تتدنى إلى الحضيض.
مع ذلك فالفكر العقلي العلمي المادي، لم يقدم للإنسان البديل الأفضل حتى الآن، بل يمكن حتى القول أنه فعل الأسوا في كثير من الأحيان، فهذا العقل ومعه العلم تحولا نفسيهما إلى خادمين للمصالح الأنانية المتضخمة، التي جرّت العالم إلى ويلات الاستعمار وكوارثه على المستعمرات ودول المستعمرين نفسها التي تورطت في حربين عالميتين كارثيين، عدا عند الحروب المناطقية المدمرة الأخرى.
وقد أنتج هذا العقل العلمي المادي نظامين حضاريين ماديين عملاقين، هما الرأسمالية والاشتراكية، لكن كل منهما قد فشلت فشلا ذريعا في إنتاج حضارة إنسانية، فالرأسمالية، أنتجت حضارة مادية استهلاكية عدوانية، يتحكم فيها سعار المصالح وهوس الاستهلاك، ولا غرو في ذلك فهذه طبيعتها، فهي "الرأسمالية المتوحشة"، كما تسمى في حواضرها نفسها في عالمها الذي تتسيّده بدكتاتورية السوق وسلطان رأس المال.
وقد حاولت الاشتراكية أن تخلق بديلا إنسانية لهذه الرأسمالية المتوحشة على أساس مادي، فكانت النتيجة، عدا عن أنها غرقت في ديكتاتورية كنيسة الحزب ولاهوت الإيديوجيا، أنها أغرقت الإنسان في زنزانة الجسد، الذي أوجدته الصدفة العابرة العاثرة في هذا الكون المادي الذي لا يبالي به ولا بمصيره وبغاياته وطموحاته الإنسانية، ليكون في المحصلة في خوائه الروحي "حفيد قرد" ضالا وتائها في مفازات الوجود وعلى قارعات مجاريه بلا غاية أو سبيل.

إن أكبر وأهم ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من كل الأصنام الزائفة التي يرفل في عبوديتها، من الأرباب الدينية التقليدية، وأرباب الصنميات المعتقدية غير التقليدية، إلى أرباب اللاثقافة، وأرباب المال والاستهلاك، حتى أرباب السلطة، وهلم جرى، وأن يعود إلى إلهه الحقيقي الوحيد، إله حريته الموجود في روحه الإنسانية، وفي ذاته الإنسانية، الإلهية بطبيعتها.
وهذا الإله له دين واحد فقط هو "الإنسانية"، وفروض هذا الدين هي حرية العقل والضمير الإنسانيين، والعدالة الاجتماعية، وإجلال الإنسان والارتقاء بإنسانيته وبعالمه الإنساني بلا انتهاء.
وفي هذه الديانة الإنسانية يستطيع الرجل أن يجد في المرأة العروس السماوية المنشودة، وتستطيع المرأة أن تجد في الرجل فارس الأحلام الحقيقي المأمول، فهما لن يعودا دميتين بيد أصنام التقاليد، ولا سلعتين في سوق الاستهلاك الجنسي، وغير الجنسي، بل يغدوان إنسانين حقيقيين، قادرين على بلوغ ذرا الحب والإحساس بالجمال المتماهيين مع طبيعة روحيهما الأصيلة، وقادرين على تجسيد الحب والجمال والسماء في واقعهما الإنساني، الحقيقي في حقيقة الإنسان.

*
رسلان جادالله عامر
5/2/2019



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن