سلاسل القيمة المضافة العالمية

محمد عبد الشفيع عيسى
moh_eesaa@hotmail.com

2019 / 4 / 24

قام كل من "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" – "أنكتاد"، و "منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية" – "يونيدو"، باستحداث إطار منهجي يتم من خلاله استعراض وقياس التطور الراهن فى الاقتصاد العالمي، ويقوم على مفهوم "سلاسل القيمة المضافة العالمية" GVCs Global Value-added Chains . وخلاصة هذا المفهوم أن عملية الإنتاج السلعي والخدمي، يتم تدويلها بالكليّة، وفق صيغة تقسيم العمل الدولى غير المتكافىء بين مجموعتين : مجموعة الدول المتقدمة أو الأكثر تطوراً ، معبراً عنها تقريباً بمجموعة الدول الصناعية السبعة G7 ومن معها في المقدمة، ومجموعة الدول النامية ، التى تنقسم من داخلها إلى : مجموعة دول ناهضة (أو ناهضة صناعياً أو "ديناميكية")، ومجموعة أخرى أقرب إلى المفهوم الدارج للأسواق الناشئة ثم شرائح متتالية على مقياس الدخل : بلدان متوسطة الدخل، و أخرى منخفضة الدخل، وكذلك بلدان أقل نمواً ، و بلدان أخيرة فى القاع هى "أقل الأقل نمواً".
هذا الاستقطاب الثنائي، على المستوى "الجيو اقتصادى"، بين مجموعتين عريضتين، الذى لا يستبعد، بل يستدعي، قدراً ملحوظاً من التدرج داخل "المجموعتين القطبيْن"، يتبعه استقطاب شديد التعقيد على المستوى الإنتاجى والتكنولوجى . وفي هذا السياق، استحدثت بعض الأعمال البحثية و التقارير الدولية – خاصة "التجارة والتنمية" للأنكتاد – تقسيماً أفقياً للأنشطة الاقتصادية إلى ثلاث شرائح لعملية الإنتاج إلى : مرحلة ما قبل الإنتاج (السلعى والخدمى) ، ومرحلة الإنتاج، ومرحلة ما بعد الإنتاج .
بالتوافق مع التقدم أو (الثورة) فى المجال الرقمي ، يشير مفهوم "سلاسل القيمة المضافة العالمية" إلى أن عملية الإنتاج تنقسم إلى شرائحها ومراحلها الثلاثة فى إطار تكوين وتوزيع "القيمة الاقتصادية"، حيث تتوزع القيمة المضافة على امتداد سلسلة إنتاجية و جغرافية، حيث تتكون السلسلة الإنتاجية من ثلاث حلقات (ما قبل الإنتاج – الإنتاج – ما بعد الإنتاج) بينما أن امتدادها الجغرافى يشمل الكرة الأرضية بكاملها.
هذه السلسلة موزعة الحلقات بشكل غير متكافىء: فبينما تقوم الدول المصنّعة الأكثر تطوراً فى العالم بالتركيز على مرحلتىْ ما قبل الإنتاج وما بعد الإنتاج من السلسلة؛ يترك للبلاد النامية، باختلاف شرائحها أن تعمل على الحلقة الوسطى: أى الإنتاج. والإنتاج هنا سلعى وخدمي، أىْ تصنيع و "تخديم" Servicification. التصنيع بهذا المعنى يتحول إلى ما يقترب من مفهوم "التشطيب الصناعى" fabrication كعمل إنتاجى يتركز على الجانب العينى البحت، سواءكان كثيف الاستخدام لرأس المال العيني (الآلات والمعدات) أو كثيف الاستخدام للعمل متوسط المهارة ومنخفض المهارة .
وبينما تذهب الخدمات المتقدمة علميا وتكنولوجيا إلى الدول المتقدمة ، فإن الصناعة – التشطيب الصناعى السلعى - تذهب أجزاء متزايدة منها إلى الدول النامية والناهضة صناعياً، بدرجات مختلفة ، لتظل فى إطار ما يسمى باقتصادات المصنع.
ويتم الاستقطاب المزدوج داخل الإنتاج المدوّل، ممثلاً فى سلسلة القيمة المضافة العالمية ، ليس فقط بعدم التكافؤ بين الطرفيْن المتطرفيْن، من أقصى سلسلة إلى أقصاها، ولكن أيضا بعدم التكافؤ داخل كل طرف منهما حيث : ينقسم العالم النامى (الثالث سابقاً) إلى عوالم ثلاثة أو أربعة، وتنقسم المجموعة المتقدمة إلى متقدمة وأكثر تقدماً. وذلك -بتعبير آخر – يعنى التقابل بين التخصص النسبى للدول المتقدمة فى إنتاج "اللاملموسات" – أي البنود ذات الطابع "الناعم" أو المعرفي، و بين تخصص البلاد النامية في إنتاج "الملموسات"أي المصنوعات و المزروعات و المعادن والنفط.

الطابع الاحتكارى للأسواق
تعمل الدول النامية والناهضة فى بيئة يغلب عليها طابع المنافسة. وإن توزيع المراكز التصنيعية للبنود "الملموسة"على امتداد الكرة الأرضية فى قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، يقابله احتكار النهايات الطرفية "الناعمة" لدى أمريكا الشمالية وبعض أوروبا + اليابان ، وإلى حد ما الصين.
يعمل المنتجون ، الموردون، فى العالم النامى بالمعنى الواسع،عن طريق التوكيلات و التعاقدمن الباطن، "وإسناد عمليات التشغيل إلى الغير" (التعهيد) بالاستفادة مما تتيحه "تكنولوجيا الإنتاج المرن"، والتصميم بمساعدة الحاسب، والحوكمة بالإدارة اللامركزية، وتجزئة العلميات الإنتاجية، من أجل الدخول إلى الأسواق العالمية، على أساس المنافسة .
ويلاحظ أن سوق المنتجات المصنّعة (= المفبركة) الخاصة بالبلاد النامية سوق للمشترين إلى حد كبير، ذات سمات تغلب عليها المنافسة، وأحياناً المنافسة شبه الذريّة أى بين أطراف عديدين أو كُثُر، حيث عمليات الإنتاج غير المحمية بالقواعد القانونية للملكية الفكرية. أما سوق التكنولوجيا الرقمية المتقدمة فى الخدمات والسلع الشبيهة بالخدمات والتي تنتجها الدول المتقدمة فهى تخضع للسمات الاحتكارية، حيث الحماية المشدّدة للملكية الفكرية لدى منتجين قلائل . فى بعض الأحيان تسود صيغة الاحتكار المطلق لتمّلك التكنولوجيا التى تتيح حصْد المكاسب والأرباح لمالكى التكنولوجيا، ليس كربح بالمفهوم الاقتصادى ، ولكن كريع أو "شبه ريع" من خلال سلوك التماس الريوع بالإرتكاز على التملك والاختصاص الحصرى للحقوق exclusive. ولكن فى غالب الأحيان تأخذ السوق ذات الطبيعة الاحتكارية للمنتجات عالية التكنولوجيا والرقمية، صورة "المنافسة الاحتكارية"، ولكن الأكثر شيوعاً فى سوق التكنولوجيا الرقمية هو "احتكار القلة" .
ومن أجل إدارة أو حوكمة الاحتكارات، يكون للشركة القائدة فى كل قطاع إمكانية التحكم فى مسار سلسلة القيمة المضافة إزاء المنتجين المتسمين بالكثرة . وهذه الشركات القائدة شركات عملاقة تتحكم كلياً فى السيطرة على "القدرات" فى المجال الإنتاجى المعين، وتشيدّ الأسوار والحوائط الحمائية إلى أقصى حدّ، بما فيه احتكار براءات الاختراع فى فترة الصلاحية، والتشدد فى منح التراخيص بأسرار الصنّعة المعرفية. وحينما تتماسك عدة شركات عملاقة على حيز إقليمى معين، تكون كلية القدرة تقريباً باتجاه منح موقع احتكارى للدولة التى تنتمى إليها هذه الشركات (وخاصة في أمريكا وأوربا)، والتى تنطلق منها لتعبر الجنسيات لا تقف دونها حدود جغرافية أو قيود اقتصادية وتشريعية فى البلدان المضيفة لاستثماراتها المباشرة وغير المباشرة.
إن الصيحة السائدة فى هذه الآونة هى التجارة الحرة التى تُفْرض على البلاد المنتجة لأواسط سلسلة القيمة المضافة، بينما تسلط عليها الاحتكارات عابرة الجنسيات دون اعتداد من جانبها بـــ "وهم حرية التجارة". ذلك هو العنوان الفرعى لتقرير "التجارة والتنمية" الصادر عن "الانكتاد" لعام 2018 والمعنون على النحو التالى :
Trade and Development Report 2018 – Power, Platforms
And the Free Trade Delusion
هذا الطابع الكلى للقدرة ، لدى الشركات العملاقة ، ودولها شديدة القوة يتأكد من خلال توزيع المنصات التكنولوجية –الرقمية فى العالم اليوم.
ويلاحظ أن أكبر منصّات الأسواق وأكثرها قوة ، تقع مقراتها بصفة غالبة فى الولايات المتحدة ، ويوجد قليل فى الصين . وقد نمت منصّات التجارة الإلكترونية بشكل مستمر، و يملك بعضها أعداداً مليونية من المستخدمين مثل على بابا (400 مليون مستخدم فى الصين فقط) – و أمازون (340 مليون مستخدم على امتداد العالم) و eBay (167 مليون مستخدم فى العالم) . وبالمثل فإن منصّات أسواق الخدمات مقامة فى الولايات المتحدة أو آسيا، وتتعامل بصفة رئيسية فى مجال التمويل والإسكان والفندقة و اللوجيستيات والنقل .
وإن سبعة منصّات من إجمالى أكبر 11 منصّة للمدفوعات النقدية تنتمي إلى الولايات المتحدة، والبقية فى الاتحاد الأوروبى . و أكبر أربعة منصّات للأسواق و تمويل الاستثمارات كان من بينها ثلاث منصّات من الولايات المتحدة وواحدة فقط فى الصين. وتتضح هيمنة الولايات المتحدة أيضا فى مجال منصّات التواصل الاجتماعى والمضامين ، حيث السبعة الكبار منها كلها تأتى من هذا البلد . و الاستثناء الوحيد هو الصين التى استطاعت أن توسع نطاق عمل مواقعها الخاصة بالتواصل الاجتماعي من خلال منع الشركات العالمية من الدخول إلى سوقها المحلية. وبالمثل فإن منصّات البحث الإنترنتّى تسيطر عليها المنشآت الأمريكية ، ماعدا Baidu فى الصين ، و Yandex فى الاتحاد الروسي. ويصدق هذا أيضا على أنظمة الموبايل حيث تسيطر عليها ثلاثة بشكل تام ، جميعها من الولايات المتحدة : أندرويد Android وتستحوذ على 81,7% كنصيب سوقى ، ثم ios بنصيب 17,9% ، واخيراً "ويندوز" 0,3% . أما المنصّات الرقمية الصناعية أو إنترنت الأشياء IOT فإنها تسيطر عليها ايضا الشركات من الولايات المتحدة وأوروبا.
وبذلك كله يتعزز واقع الاحتكار في أسواق التكنولوجيا الرقمية العالمية، بناء على الانقسام غير المتكافئ في بنْية سلاسل القيمة المضافة العالمية، وتبقى "التجارة الحرة" في النهاية مجرد وهْم من الأوهام على كل حال.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن