الدروع البشرية والتدبير الأمني في المغرب في نهاية القرن 19

لحسن ايت الفقيه
aitelfakih_lahcen@yahoo.com

2019 / 4 / 20

حضر الأمن لدى المخزن المغربي ونشأت ثقافته لديه، الثقافة غير العالمة بطبيعة الحال، وإن كان التدوين لم يغشها كثيرا. وإذا كان من الصعب الحسم في أن الدولة استفادت من ثقافة الدفاع الذاتي التي تطبع سكان شمال أفريقيا منذ العصر التاريخي القديم، فإن الأمن وما يتصل به من قيم ثقافية تندرج ضمن الفكر غير المدون. لا مناص من الإقرار بدون مبالغة أن الشفاهية سيدة الوضع، خصوصا في المواقف المتصلة بالأمن. فالمجال للثقافة غير العالمة بدون منازع، وضمنها التاريخ الشفاهي. إن الباحثين في تاريخ المغرب لا يعتقدون إلا في مضامين الفكر المدون، و«حينما تنعدم الوثيقة ينعدم التاريخ». يكفي لأستاذك أن يرتدي لباس الموضوعية ويبزغ نجمه في التاريخ بين المفكرين المغاربة، إن كان يزيح الشفاهي جانبا. وأمام هذا الوضع الموضوي تغفل الجوانب المهمة من التاريخ وتطمس، ولن يتقدم علم التاريخ بعيدا في المغرب. ومن الجوانب التي غشيها الشفاهي التدبير الأمني لدى السلطة المركزية ولدى القبائل، وهو التدبير الذي جرى وفق رؤى وتصورات، إن لم ترق إلى مستوى الحكامة الأمنية فهي مقاربة جديرة بالاعتبار. نشأت المقاربة الأمنية والقيم المتصلة بالأمن لدى القبائل، ولدى المخزن، أن كان يفيد الدولة بمفهومها التقليدي في الكتابات القديمة وفي الخطاب السياسي المعاصر تميل لتدخل نطاق النسيان. صحيح أن التاريخ الشفاهي قد يزيد صدى ووقعا كلما حصل دعمه بثلة من الوثائق. ويبدو أن الشفاهي حينما يعمر وحده الفراغ قد «يرضي أهواء الراوي، ومصالحه ووسطه، ونفوذه وطموحه، وأهدافه»، كما يقول الأستاذ محمد ناجي بن عمر مترجم كتاب «زمن «المحلات» السلطانية، الجيش المغربي وأحداث قبائل المغرب ما بين 1860 و1912م»، ذلك هو الاعتقاد السائد لدى الباحثين في حقل التاريخ، لذلك يتفقون على دحض الشفاهي. ورغم ذلك، لا مناص من تدوين الشفاهي سواء قبله المؤرخ أو أزاحه جانبا.
ويفيدنا الكتاب المذكور، وهو من تأليف لويس أرنو، صدر، عقب ترجمته، ضمن منشورات أفريقيا الشرق، وفي 221 صفحة من الحجم العادي، تحت عنوان«زمن «المحلات» السلطانية، الجيش المغربي وأحداث قبائل المغرب ما بين 1860 و1912م»، في التتبع بدقة الحس الأمني لدى الدولة المغربية ولدى القبائل، في عصر استفحل فيه التمرد.
أريد للكتاب أن ينتظم في مجموعة من القصص لأحداث عنيفة إن هي إلا ردعا وتأديبا لبعض القبائل المتمردة، لذلك تتصدر عناوين بعض الفصول كلمة «أحداث» كنحو، أحداث كروان، وأحداث بني مطير، وأحداث فاس، وأحداث بوعزة الهبري، وأحداث بني يزناس. وقلما توظف كلمة «ثورة» لأن هذه الأحداث غير مؤسسة على مذهب معين وتصور، ولو نعتت، أحيانا، حركة «بوحمارة» بنعت «ثورة بوحمارة»، وهي لا تعنينا، هنا، لحدوثها في القرن العشرين.
إن غزارة الحدث في ظرف زماني وجيز فتح المجال للشفاهي أن يأتي «في صدارة المصادر المكتوبة في تاريخ المغرب». لذلك حسن «بعث الروايات الشفوية لما لها من أهمية»، فوق أنها «مادة تكميلية في كتابة تاريخ المغرب» المعاصر على وجه الخصوص. ويعد كتاب «زمن «المحلات» السلطانية، الجيش المغربي وأحداث قبائل المغرب ما بين 1860 و1912م»، أحد المراجع التي «توافرت فيها شروط موضوعية أكسبتها وثوقية أكبر»، أوجزها مترجم الكتاب الأستاذ محمد ناجي بن عمر في موضوعية الراوي في حديثه وفي مواكبته الأحداث ومساهمته فيها، مع حرص لويس أرنو على تدوين الروايات بدقة متناهية.
في البدء كان الجيش مصنفا في ثلاثة أصناف «النظاميون، والجنود الرسميون (العسكر)، ثم رجال المخزن»، وهم المسخرون. والجيش غير كاف موارده لإعالة الجنود إذ كانوا «يمتعنون حرفا أخرى من أجل العيش وإعالة عائلاتهم» (صفحة 14).
حينما يتحرك الجيش لينزل في حملة ما على إحدى القبائل المتمردة كان لزاما على القبائل التي يعبر الجيش أرضها تقديم له المؤونة، و«تغذية عدة آلاف من الرجال طوال مدة إقامتهم على ترابهم، مما جعل القبائل البعيدة تفضل الانشقاق وتكوين بلاد السيبة» (صفحة 19).
واجه السلطان الحسن الأول الذي تولى الحكم سنة 1874 بعض الفوضى «تحركات الكروانيين...حيث ينهبون التجار، ويقتلون دون ذنب بعض الجنود المكناسيين الذين كانوا يحرسونهم» (صفحة 26)، فكانت مهاجمتهم. وبعد أحداث كروان، التي هاجرت جبال الأطلس الكبير الشرقي إلى هضبة سايس في النصف الثاني من القرن 17، حصلت أحداث بني مطير الذين يسكنون وقتها الجبال. ولما أجاعهم فصل الشتاء، هبطوا «اتجاه مكناس حيث اجتاحوها تماما» (صفحة 28). ومن الطبيعي أن يستغرب السلطان من الخبر يوم سمعه: «أليس هناك في المحلة وحدة عسكرية من بني مطير مع قائدهم ولد الشبلي؟». لقد تمردت قبيلة بني مطير رغم أنها موالية للمخزن المغربي في القرن التاسع عشر. وتمكنت فرقة القائد الحاج منو من القضاء عليهم وجمع منهم 40 سجينا، و«حمل إلى السلطان عشرين رأسا وسط زغاريد وتهاليل الانتصار» (صفحة 29). فمن كان وراء تمرد بني مطير؟ لقد اتهموا الشريف مولاي المهدي المراني فجرى قتله بعد يومين من المنازعات لذلك أتى رجالهم ونساؤوهم «تستغيث وأطفالهم يحملون ألواحهم القرآنية على صدورهم مرتدين ثيابهم البيض»، فأعطاهم السلطان الحسن الأول الآمان، وولى عليهم القائد رحو ولد ماما المطيري (صفحة 30). لكن بني مطير«يخضعون دائما كل مرة كان فيها المخزن موجودا على أرضيهم، ويتمردون بمجرد مغادرته لهم» (صفحة 51).
وفي مدينة فاس حيث كان الموظف المدني بنيس منقطعا باسم السلطان لاستخلاص مستحقات أبواب المدينة وأسواقها حدث توتر ما أن عنف أهل فاس السيد المدني «وأهانوه في الشارع وكاد يقتل في إحدى الأمسيات لولا احتماؤه بأحد الحمامات» (صفحة 30). ولحسن الحظ انتهى التوتر بعد أن قرئت خطبة السلطان بمسجد القرويين تدعو الفاسيين للعودة إلى رشدهم وأن يدعوا الموظف المدني بنيس في أمان، «خاصة أنه لم يقم إلا بواجبه وتنفيذ الأوامر»(صفحة 31). وتوالت تمردات سكان مدينة فاس في العقبى، مما حتم على السلطان لأن يقيم فيها «أربعة أشهر تقريبا خضعت فيها المدينة خضوعا تاما» (صفحة 35).
لقد دأب المخزن المغربي على إحداث أحزمة بشرية تحيط بالعاصمة، فبعد تحصين واجهة كروان بغربي مكناس وردع بني مطير جنوبها وإرساء القواعد بمدينة فاس كل ذلك سنة 1874م حان الوقت للامتداد قليلا سؤلا في تحصين حاضرة فاس. هنالك أتى دور القضاء على تمرد بوعزة الهبري. فمن هو هذا الشخص؟
يدعي بوعزة الهبري «أنه ساحر وكثر الحديث عنه في نواحي تازة»، وشاع الكثير عن تمردهم «وكان السلطان لا ينتظر إلا الفرصة المواتية للخروج لهذا التمرد»، فانطلق الجيش بحثا عن بوعزة في شهر شتنبر من العام 1874 (صفحة 36)، انتهت المعركة بعد «تقييده والطواف به فوق جمل على المعسكر، اقتيد أسيرا إلى فاس، وكانت هذه نهايته» (صفحة 37).
جرى بعد تحصين حاضرتي فاس ومكناس التفكير في حاضرة مراكش لتعزيز الإصلاحات العسكرية هناك. وغادرت المحلة فاس «مرورا بالرباط وصولا إلى مراكش دون مشاكل تذكر ودون عمليات حربية» (صفحة 38). ولا غرو، فكلما أراد السلطان السفر من فاس إلى مراكش مرورا بالرباط «فإنه يكون واجبا على قواد القبائل الخاضعة المشعرين من قبل بعث وحداث عسكرية محسوبة من الحركة لتأمين طريق المخزن وتقويته» (صفحة 17). ويستفاد من إشارة لويس أرنو، أن الأحزمة البشرية الدفاعية تمتد على طول طريق السلطان من فاس إلى مراكش، ومن فاس إلى سجلماسة. وبعبارة أخرى فالطريق السلطانية جزء من بلاد المخزن، وهي النطاق الذي تسود فيه سلطة الدولة في عصر ما قبل الحماية الفرنسية على المغرب.
وصل السلطان مراكش دون مشاكل تذكر وباشر «إصلاحاته العسكرية حيث عزز مدفعيته ب22 مدفعا جبليا من مختلف الأحجام و14 رشاشة، وملأ الفراغ في صفوف جنوده» (صفحة 38). وتأتي مدينة وجدة في الطور الثالث. وبعد اندلاع أحداث الفوضى بمحيطها، غادرت «فرقة حربية فاس بقيادة مولاي عرفة، أخ السلطان لمساندة باشا وجدة عبد الرحمان بن الشليح الذي وصلت صراعاته مع قائد بني يزناسن البشير بن مسعود إلى جر القبيلة إلى التمرد والعصيان» (صفحة 39)، لكن الانهزام حليف الحملة، لأنها تتكون من 8000 فردا محاربا ضد 60000 من أفراد قبيلة بني يزناسن، فما على فرقة السلطان إلا الفرار والنجاة بأرواحهم.
جرى الاستعداد ثانية لمواجهة البشير بن مسعود لكن هذا الأخير ودّ ألا يواجه السلطان الذي قاد الحركة بنفسه. ذلك أنه على «طول الطريق التي كان يمر منها السلطان كانت تمتد وحدات البشير على قد ما تسمح به الرؤية، حيث كانوا مصطفين على طول الطريق على شكل حاجزين غير منهيين من الرجال والخيالة مسلحين ومرتدين لباس العيد...وكانت المحلة تمشي في الوسط كأنها تتحرك فوق زريبة مفروشة»، حتى وصلوا «الخيام التي هيأها القواد»، وجلس الكل «لشرب الشاي وبعد ذلك جيء بالأطعمة الكثيرة والمتنوعة»، فما كان على السلطان بعد الترحيب به إلا أن يصدر عفوه على القائد البشير بن مسعود، لكن حصل العكس إذ اعتقل وراء الخيمة السلطانية حيث «وجد ثلاثة حدادة مهمتهم وضع القيود في رجليه» (صفحة 43)، وكذلك حصل، وجرى تعيين قائد جديدا عليهم لم يذكر لويس أرنو اسمه، وكانت نهاية المتمرد البشير بن مسعود سنة 1876.
ولم يقتصر دور الأحزمة البشرية على حماية الحواضر الرئيسية وقتها فيمكن أن تمتد في الدير (قدم الجبل) لمنع الجبليين من النزول والاقتراب من الحواضر، وقد كان القائد موحى وحمو الزياني «دائما في مطاردة ايت سخمان المتمردين والمعتصمين بالجبال، وكان السلطان قد ناقش مع موحى إمكانية بعث حركة من أجل مباغثتهم وإخضاعهم» (صفحة 57)، واستجاب لمقترحه، لكن أفراد الحركة ذبحوا جميعا. فبعد وصول حركة المخزن مجال ايت سخمان «جاءت بعثة من أشراف القبيلة (بثيران التركيبة) قائلين بأنهم مستعدين للخضوع والطاعة، وأنهم لا يرفضون لا مؤونة المخزن ولا ضرائبه، وأنهم مستعدون لأن يستضيف كل واحد منهم 10 إلى 20 جنديا» (صفحة 57). كانت الاستجابة للضيافة التي أقيمت بالفعل لفائدة الحملة السلطانية، «وبعد ذلك جاء الناس لمرافقة ضيوفهم إلى المنازل، ولم يبق في المعسكر سوى حرس رمزي» (صفحة 58)، هنالك حصلت المذبحة «تقطع أعناق الضيوف المجردين من الأسلحة التي تركوها عن حسن نية، خارج المنازل». وعلى الرغم من كون «موحى أحمو قد جهز 3000 فارس، وتحرك... في اتجاه تلك، لكن بمجرد وصوله إلى عين المكان، أدرك أنه لم يعد هناك أي شيء يمكن القيام به، فلم يبق هناك أي أحد على قيد الحياة، ثم إن قبائل أيتس خمان قد تفرقت كما تتفرق الغربان عند نهشها جثة ما» (صفحة 58). ومعنى ذلك أن القائد موحى أحموا لزياني لم يتوفق في إنشاء درع جبلي متين، وقتها، يحمي السلطة المركزية. وهل الصراع بين الأحزمة البشرية، يعد من جانب آخر، وجها من أوجه المقاربة الأمنية؟ وكيف يجري ضمان الأمن خارج نطاق المخزن، أعني حارج البساط الذي تسيطر عليه الدولة بالمفهوم التقليدي؟
يحصل الأمن في البساط المعوة بلاد السيبة بطريقتين مخلفتين: إقامة العوازل البشرية بين العشائر والقبائل، وتبادل الرهائن.
تنشأ إقامة العوازل البشرية بين قبيلتين داخل نفس المجال. فالقبيلة مدعوة لتحصين حدودها بحزام من الأقليات العرقية، كأن تسمح للأسر القادمة لتقطن بين ظهرانيها في أرضها بالاستيطان في الهامش، هامش الوحدة السوسيومجالية تحديدا فإذا أخذنا واد أسلاتن أحد روافد واد زيز نلفى عازلا بشريا يتكون من قريتين بين نطاق أيت إبراهيم بأعلى الواد وأيت يعزة بأسفل الواد، يتكون العازل من قريتي أيت تادارت وتامزازارت. تؤوي أيت تدارت أقليات قادمة من واد غريس، وأما تامزازارت التي تعني بالأمازيغية العنصرية تؤوي أقلية عرقية فالقريتين تشكل حزاما بشريا عازلا لكل توتر محتمل، أو منتظر بين عشيرة أيت يعزة وعشيرة أيت إبراهيم بواد أسلاتن بجبال الأطلس الكبير الشرقي. وفي حوض ملوية تلفى عازلا بشريا، قرية سيدي بوموسى تفصل بين أيت عياش وأيت يحيى وأيت مكيلد [بكاف معطشة]. ينحدر سكان سيدي بوموسى، في الغالب، من أبي موسى عيسى بن موسى الدغوغي. وبجنوبي شرق نطاق أيت يزدك [بكاف معطشة] حزام من الأقليات العرقية مخصص لكل ذوي اللباس غير العرقي كشرفاء مدغرة والمتصوفة أتباع الزاوية الدرقاوية. وإنه من الصعب تتبع مسار إنشاء هذا الحزام التي تعبره الطريق التجارية سجلماسة فاس التي يسلكها السلطان نحو تافيلالت ويُضمن له الأمن، كما سلفت إليه الإشارة. وإذا تأملت في الطوبونيميا في هذا الحزام نجد قرى مسكي وتيطاف وقاصبة، وهي ذات دلالة أمنية. تعني مسكي (إمصكي) بالأمازيغية، قلعة الحراسة، وتعني تيطاف أبراج المراقبة، وللقصبة وظيفة الحراسة والدفاع الذاتي. ونلفى في ظهراني فيدرالية ايت ياف المان قرية تماكورت [بكاف معطشة] الكائنة مجال ايت حديدو وايت يزدك وايت مرغاد. ولضمان أمنها عمرت القرية بسكان من أيت مرغاد وسكان من أيت حديدو، وآخرين من أيت يزدك، وكأنهم جنود الأمم المتحدة، في وقتنا الحاضر.
ويجري تبادل الرهائن بين عشائر القبيلة الواحدة ففي واد أسيف ملول الذي تعمره أيت حديدو من قرية أكدال [بكاف معطشة] إلى مدخل خوانق أسيف ملول بالقرب من قرية أوددي استقر الرأي على تبادل الرهائن، فرشحت أيت إبراهيم عشيرة أيت علي ويكو لتقطن في مجال أيت يعزة، ورشحت هذه الأخيرة ثلة من سكانها ليسكنوا بقرية ألمغو. إن تبادل الرهائن واحد من أساليب ضمان الأمن بالوحدة السوسيومجالية المتجانسة.
تلك هي معظم جوانب المقاربة الأمنية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والمؤسسة على تسخير الدروع البشرية لحماية المجال المعمر أو الطريق التجارية مقابل إيراد معين في أحسن الأحوال، أو الاكتفاء بخيرات الأرض التي هي موارد في ملك الغالب. فالأرض استغلالها يقابل الدم، وفق ما اتضح في المادة 79 من عرف بوذنيب، إذ لا يسمح للرعي بمحيط القرية إلا للذين يساهمون في حماية المجال الوظيفي للقرية. وعلى نفس الفكرة يقوم مفهوم أرض الجيش «الكيش»، إذ تحارب القبائل تحت إمرة المخزن مقابل استغلال الأرض.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن