التناص والمدرسة الأمريكية فى الأدب المقارن

نانسي كايزن
Nancy_aly44@yahoo.com

2019 / 3 / 20


لاشك في أن ساحة الأدب المقارن كانت مفتوحة على الاتجاهات النقدية كلها، وأنها تفاعلت معها بصورة مستمرة، ولكن ليس بالدرجة نفسها، وليس بدرجات تؤدي إلى انعطافات حادة وإلى نشوء مدارس جديدة في الأدب المقارن. فنظرية التناصّ (Intertextualitaet) على سبيل المثال يمكن أن تكون مفيدة بالنسبة للدراسات المقارنة، وذلك لأنّ علاقات التناصّ لا تنشأ بين أعمال أدبية تنتمي إلى أدب قومي واحد، بل تتخطى ذلك إلى آداب وثقافات متعددة.
ولذا من الممكن إجراء دراسات مقارنة انطلاقاً من نظرية التناص حول ظواهر التناص التي تنتمي إلى آداب مختلفة، وأن تشكل تلك الدراسات ميداناً جديداً من ميادين الأدب المقارن. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن علاقة الأدب المقارن بالسيميائية (Semiotik) ، إذ ليس هناك من الناحية النظرية ما يمنع من القيام بدراسات أدبية مقارنة انطلاقاً من هذا المنهج.
وهذا ينطبق أيضاً على الاتجاهات والمناهج النقدية المعاصرة الأخرى. أما تطبيقياً فإنّ ذلك ينطوي على تحدّ كبير للمقارنين. إلاّ أنه تحدّ حيوي ومنتج، يتوقف عليه مستقبل الأدب المقارن. فهذا العلم مطالب باستيعاب المناهج والاتجاهات النقدية الجديدة ومعرفة تبعاتها وانعكاساتها على حقله المعرفي، وما إذا كان باستطاعته أن يستفيد منها نظرياً وتطبيقياً.
أما الخطر الذي يمكن أن يحدق بالأدب المقارن، فهو يكمن في احتمال أن ينغلق هذا العلم على نفسه، وأن يتجاهل ما يستجدّ في الساحة النقدية من تطورات. عندئذ يحرم الأدب المقارن نفسه من فرص التجدد والتطور، وتعتري الدراسات المقارنة حالة من الجمود.‏
يعرف "رولان بارت" النص بأنه "نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء من اللغات الثقافية السابقة أو المعاصرة التي تخترقه بكامله". فهو يتحدث عن النص بوصفه جيولوجيا كتابات، منطلقا من مفهوم كرستيفا للنص التي ترى أنه "مبني على طبقات وتتكون طبيعته التركبية من النصوص المتزامنة له والسابقة عليه"، حيث تحلينا هذه التعاريف إلى مفهوم جديد في لغة النقد المعاصر هو التناص.
نظرية التناص:
تعد فكرة "التناص" من الأفكار المركزية للنظرية الأدبية والثقافية المعاصرة، وقد برزت هذه الفكرة في أواخر الستينيات من القرن العشرين، ويعود الفضل في ذلك إلى "جوليا كرستيفا" التي قدمت تأطيراً مفهومياً لهذه الفكرة في مقال لها عن "ميخائيل باختين" صدر في عام 1966 بعنوان "الكلمة والحوار والرواية"، وفي مقالات وكتب أخرى ظهرت بعد هذا التاريخ حتى أوائل السبعينيات.
لقد ظهر مصطلح التناص حديثا في تاريخ النقد الأدبي تحديدا في منتصف الستينات من هذا القرن في أبحاث متفرقة نشرتها الناقدة جوليا كرستيفا في مجلتي تيل-كيل وكرتيك في فرنسا( )، ثم استثمرته من بعدها جماعة تيل كيل التي طرحت من خلاله صيغة النص المتعدد الذي "يتوالد في الآن عينه من نصوص عديدة سابقة عليه"( ) ، التناص من وجهة نظرها هو "التقاطع داخل نص لتعبير مأخوذ من نصوص أخرى"( ).
وقد شاع تعريفها المحدد للتناص باعتباره التقاطع والتعديل المتبادل بين وحدات عائدة إلى نصوص مختلفة"( ).
بينما يرى د.شجاع العاني أن شكلوفسكي يعد أول من أشار إلى التناص عندما قال "إن العمل الفني يدرك في علاقته بالأعمال الفنية الأخرى وبالاستناد إلى الترابطات التي نقيمها فيما بينها"( ).
ويعد زميله تشيتشرن أيضا من أوائل من أشار إلى المصطلح في دراسته عن الأساليب الأدبية بقوله: "مفهوم الأسلوب يفترض تاريخيا وجود التتابع والصراع والروابط المتبادلة بين الأساليب فى النص الاصلى والنصوص الاخرى"( ).
ويرى د.محرر مفتاح أن كل تلك التعاريف لم تصغ تعريفا جامعا محددا للتناص محاولا استخلاص مقوماته على شكل نقاط من خلال تلك التعاريف في كتابه استراتيجية التناص.
وقبل كرستيفا كان باختين في كتاباته المتأخرة قد تناول هذا المفهوم بطريقة أخرى وهو يعالج الشكل الحواري حيث كان يرى أنه مهما كان موضوع الكلام فإن هذا الموضوع قد قيل من قبل بصورة أو بأخرى". فهو يؤكد حتمية السقوط في دائرة التناص.
ويرى تودوروف أن باختين يعتبر التناص "بعدا ضروريا وجوهريا في جميع أنواع الخطاب: المحادثة اليومية، القانون، الدين، العلوم الإنسانية" بينما يتضاءل دوره في العلوم الطبيعية، غير أن باختين يستخدم لهذا المفهوم مصطلح الحوارية بدلا من التناص "للدلالة على العلاقة بين أي تعبير والتعبيرات الأخرى"( ) ، على العكس من نورثورب فراي الذي سعى إلى نبذ أي تاريخ باستثناء تاريخ الأدب، فالأعمال الأدبية عنده "مصنوعة من أعمال أدبية أخرى وليست من أية مادة خارجة عن النظام الأدبي نفسه"( ). فهو ينظر إلى الأدب كما يشير تيري إيجلتن على أنه "دوران بيئي مغلق للنصوص". هذا المفهوم الرئيسي لمصطلح التناص الحديث يجعلنا نتعامل معه باعتباره ظاهرة قديمة شهدها تاريخ الحقل الأدبي، بل إنها أصبحت قانونه الطبيعي الذي لا مفر منه للنصوص المستقبلية، فهي أحد شروط الإنتاج الأساسية للعمل الأدبي التي سنمنحها مصطلح التناصية الذي يعرفه د.عبد الملك مرتاض بأنها "تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما ونصوص أدبية أخرى".
أشكال التناص( ):
إن العمل الأدبي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة كالكائن البشري.
فهو بذرة خصبة تؤول إلى نصوص تنتج عنه، كما أنه نتاج لما سبقه حاملا معه بعض الصفات الوراثية ممن قبله.
وتختلف هذه الاستفادة إما بالكتابة عن النص ذاته، أو بتفجير نص آخر في نفوسنا ينشأ من تفاعلنا مع النصوص المقروءة.
يختلف تداخل نص مع نصوص سابقة، ويتنوع بحسب الاستفادة، فللتناص أشكال متعددة، منها:
1ـ التناص القرآني: بحث يقتبس الأديب نصاً قرآنياً، ويذكره مباشرة، أو يكون ممتداً 2ـ التناص والتراث الشعبي: وتكون المحاكاة فيه على مستوى اللغة الشعبية، وهذا مما يؤخذ على بعض الأدباء، إضافة إلى الاستفادة، وتوظيف القص الشعبي، والحكايات القديمة، والموروث الشعبي.
بإيحاءاته وظله على النص الأدبي، لنلمح جزءاً من قصة قرآنية، أو عبارة قرآنية يدخلها في سياق نصه
3ـ التناص الوثائقي: وهذا النوع في النثر أكثر منه في الشعر كالسرد والسيرة، فيحاكي النص نصوصاً رسمية كالخطابات، والوثائق، أو أوراق أخرى كالرسائل الشخصية والإخوانية؛ لتكون نصوصهم أكثر واقعية.
4ـ التناص والأسطورة: وهي تتشابه مع سابقها من ناحية الاستفادة من التراث، لكنها تختلف من ناحية أن الأسطورة غالباً ما هي موروث؛ لكنه يوناني، أو غربي، وإن كان هناك بعض الأساطير العربية، إلا أنها قلة مقارنة بالغرب.

أنواع التناص:
تناص مباشر(تناص التجلي) أو غير مباشر (تناص الخفاء).
التناص المباشر:
فيدخل تحته ما عُرف في النقد القديم بالسرقة و الاقتباس، والأخذ والاستشهاد والتضمين، فهو عملية واعية تقوم بامتصاص وتحويل نصوص متداخلة، ومتفاعلة إلى النص.
ويعمد الأديب فيه أحياناً إلى استحضار نصوص بلغتها التي وردت فيها، كالآيات القرآنية، والحديث النبوي، أو الشعر والقصة.
التناص غير المباشر :
فينضوي تحته التلميح والتلويح والإيماء، والمجاز والرمز، وهو عملية شعورية يستنتج الأديب من النص المتداخل معه أفكاراً معينة يومئ بها ويرمز إليها في نصه الجديد.
ويحلو للبعض تفريعه بإيجابي وآخر سلبي، ويقصد بالأول إنتاج أفكار قديمة بأسلوب جديد، أما السلبي فهو كالصدى المكرر للنص الذي سبقه.
إلا أن جميع هذه الأنواع تعتمد على فهم المتلقي، وتحليله للنص.

- التناص في الأدب العربي القديم والمعاصر :
وإذا ما انتقلنا لمفهوم التناص ونشأته في الأدب العربي نجد أن مفهوم التناص هو مصطلح جديد لظاهرة أدبية ونقدية قديمة ؛ فظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل ، فالتأمل في طبيعة التأليفات النقدية العربية القديمة يعطينا صورة واضحة جدا لوجود أصول لقضية التناص فيها ، وقد اقتفى كثير من الباحثين العرب المعاصرين أثر التناص في الأدب والنقد العربي القديم فأظهروا وجوده فيه تحت مسميات أخرى وبأشكال تقترب بمسافة قد تكون ملاصقة للمصطلح الحديث، وقد أوضح ذلك الباحث المغربي الدكتور (محمد بنيس) حيث بين أن الشعرية العربية القديمة قد فطنت لعلاقة النص بغيره منذ الجاهلية وضرب مثلا للمقدمة الطللية، والتي تعكس شكلا لسلطة النص ( وقراءة أولية لعلاقة النصوص ببعضها وللتداخل النصي بينها) ؛فكون المقدمة النصية تقتضي ذات التقليد الشعري من الوقوف والبكاء وذكر الدمن وآثار منازل الضاعنين فهذا إنما يفتح أفقا واسعا لدخول القصائد في فضاء نصي متشابك ، ووجود تربة خصبة للتفاعل النصي بينها ..

وإذا استمرينا في تتبع أصول التناص في أدبنا القديم نجد أن (الموازنة) التي أقامها الآمدي بين (أبي تمام والبحتري) تعكس شكلا من أشكال التناص، وكذلك (المفاضلة) كما هو عند المنجم ، و(الوساطة بين المتنبي وخصومه) عند الجرجاني، ولما كانت السرقة كما يقول (جينيت) صنفا من أصناف التناص ؛ فإنه يمكننا اعتبار كتب النقاد القدامى (كسرقات أبي تمام) للقرطبلي، و (سرقات البحتري من أبي تمام) للنصيبي، و (الإبانة عن سرقات المتنبي) للحميدي، وغيرها... تظهر بشكل جلي مدى تأصل ظاهرة التناص في الشعر العربي القديم، وهذا لا يعد أمرا غريبا لأن التناص أمر لابد منه ، وذلك لأن العمل الأدبي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة تماما مثل الكائن البشري، فهو لا يأتي من فراغ كما أنه لا يفضي إلى فراغ؛ إنه نتاج أدبي لغوي لكل ما سبقه من موروث أدبي، وهو بذرة خصبة تؤول إلى نصوص تنتج عنه .

وعلى الرغم من هذه الموازنات والسرقات والمعارضات والجدل الطويل الذي دار بين النقاد القدامى الذين درسوا هذه الظواهر التي تتفاوت فيها الصلة بين النص الجديد والنص القديم إلا أن هذا الجهد يدل على انشغال ببعض، وإدراك النقاد القدامى للغة والأسلوب من جهة وبنية الخطاب من جهة أخرى، وهكذا أنزلوا الأولى منزلة السرقة، والثانية منزلة الإجبار الذي هو شرط أسبق في بناء الخطاب، وبذلك يكونون قد أدركوا مفهوم التناص ووجوده الموضوعي .

وقد مر التناص في الأدب العربي ببدايات غنية تناسب عصوره القديمة وعاد من جديد للظهور متأثراً بالدراسات اللسانية الغربية الحديثة كمصطلح له أصوله ونظرياته وتداعياته، ففي الأدب العربي المعاصر حظي مفهوم التناص باهتمام كبير لشيوعه في الدراسات النقدية الغربية نتيجة للتفاعل الثقافي وتأثير المدارس الغربية في النقد والأدب العربي ، وكانت دراسة التناص في بداياتها قد اتخذت شكل الدراسة المقارنة وانصرفت عن الأشكال اللفظية والنحوية والأسلوبية والدلالية.
ويشير الدكتور (محمد مفتاح) إلى أن دراسة التناص في الأدب الحديث قد انصبت أول الأمر في حقول الأدب المقارن والمثاقفة، كما فعل (عزالدين المناصرة) في كتابه (المثاقفة والنقد المقارن : منظور شكلي).

"المدرسة الأمريكية" والنقد الجديد:‏
يعرف "هنرى ريماك" الأدب المقارن – حسب المدرسة الامريكية على أنه "دراسة للعلاقات بين الأدب ونواحى المعرفة الاخرى بما فيها الفنون الجميلة والفلسفة والتاريخ والعلوم، ويتصدى الأدب المقارن إلى المقارنة بين أدب وأدب/ أدب وآداب/ أدب ومجالات التعبير المخالفة للأدب كالرقص مثلا"( ).
وقد وجه الناقد الامريكى "رينيه ويليك" ، وهو أبرز ممثلي هذا الاتجاه على دراسات التأثير وأسسها الفلسفية والنظرية وتطبيقاتها ودورها، إلى دراسات التأثير وإلى المدرسة الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن نقداً لامثيل له في حدتّه، ونسف أسس تلك المدرسة ومرتكزاتها .
فقد أخذ عليها أنها من الناحية النظرية مثقلة بأعباء فلسفات القرن التاسع عشر، كالنزعتين التاريخية والوضعية، وأنها تتعامل مع النصوص الأدبية بصورة خارجية، وفي منأى عن أدبيتها، ولا تتعامل مع الأبعاد الداخلية لتلك النصوص، أي مع جوهرها الفنّي والجمالي. وبهذه المناسبة ذكّر ويليك زملاءه الفرنسيين التقليديين بأنّ العمل الأدبي "بنية ذات طبقات من الرموز والمعاني المستقلة تمام الاستقلال عن العمليات التي تدور في ذهن الكاتب أثناء التأليف، ولذا فهي مستقلة أيضاً عن المؤثرات التي قد تكون شكّلت ذهنه".‏

إنّ العمل الأدبي يفقد أدبيته بمجرد أن يجرد من تلك البنية، وهذا هو ما تفعله دراسات التأثير التي تقفز فوق جوهر الأعمال الأدبية، أي فوق أدبيتها وجماليتها، وتتعامل معها كمجموعة من المؤثرات والوسائط الخارجية، مما حوّل تلك الدراسات إلى عمليات مسك دفاتر ثقافية تبيّن ما صدّره أدب قومي إلى الآداب الأخرى وما استورده منها من مؤثّرات (43) .‏

إنّ الخلفية الحقيقة لذلك الصدام الذي جرى بين الاتجاه التاريخي (الفرنسي) في الأدب المقارن وبين "النقد الجديد" الذي مثّله رينيه ويليك، ترجع في حقيقة الأمر إلى ذلك التحول الجذري في الأنموذج (Paradigmawechsel) الذي شهده النقد الأدبي والدراسات الأدبية في أوائل هذا القرن، ألا وهو التحول في مقاربة النصوص الأدبية من المقاربات الخارجية إلى المقاربات الداخلية.
إنه التحول الذي بدأه "الشكلانيون الروس" وواصله "النقد الجديد" والبنيوية والاتجاهات مابعد البنيوية، وهو تحوّل شكّل منعطفاً حاداً في تاريخ الفكر النقدي في العالم (44) لقد رفض رينيه ويليك المنهج الفرنسي التقليدي في الأدب المقارن، ودعا إلى منهج يتعامل مع جوهر الأدب، أي إلى منهج نقدي في الأدب المقارن. إنه منهج بات يعرف "بالمدرسة الأمريكية" أو "المدرسة النقدية"، وهو منهج يدرس الظواهر الأدبية بصورة تتجاوز الحدود القومية لتلك الظواهر.
فالظواهر الأدبية الرئيسة، من أجناس وتيارات أدبية، لم تكن في يوم من الأيام محصورة في أدب قومي واحد أو مقتصرة عليه، بل تتعداه إلى آداب قومية مختلفة، وكثيراً ما تكون عالمية. وعندما يدرسها المرء دراسة مقارنة فإنه لا يتصنّع شيئاً بل يدرسها في إطارها الطبيعي الصحيح.‏

إلا أنّ المدرسة الأمريكية لم تكتفِ بنقل اهتمام الأدب المقارن من العلاقات الخارجية إلى العلاقات الداخلية للأدب، بل تخطّت ذلك إلى المطالبة بأن تنفتح الدراسات المقارنة على نوع آخر من المقارنات، ألا وهو مقارنة الأدب بالفنون والعلوم وحقول المعرفة والوعي الإنساني الأخرى. فالفنون كالموسيقا والتصدير، هي ظاهرة جمالية تنطوي على أوجه تشابه كثيرة مع الأدب.
ولذا فإنّ دراستها يمكن أن تقرّبنا من فهم الأعمال الأدبية، ويمكن أن تؤدي مقارنتها بالأدب إلى الكشف عن جوهره. أليس المثل الأعلى للوحدة الفنية في العمل الأدبي مستمداً من الوحدة الفنية في الموسيقا والتصوير؟ .
ويمكن أن يقال عن علاقة الأدب بالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الإنسانية الأخرى شيء مشابه. فهي علوم يمكن أن تقدّم مساعدة كبيرة في فهم الأعمال الأدبية.
وباختصار فإنّ جوهر الدراسة المقارنة للآداب من وجهة نظر "أمريكية"، يكمن في تقريبنا من فهم البنى الداخلية، أي الجمالية للأعمال الأدبية، لافي حصر ما تنطوي عليه تلك الأعمال من مؤثرات أجنبية، وما مارسته على الأعمال الأدبية الأجنبية من تأثير.‏
ترى ألا يؤدي ذلك إلى إذابة الأدب المقارن في النقد الأدبي وتمييع مضماره وتخومه كفرع من فروع الدراسة الأدبية، وإلى إفقاده خصوصيته كمنهج؟ إنّ رينيه ويليك لايخشى اعتراضاً كهذا.
فالنقد الأدبي يجب أن يكون مقارناً، يتجاوز الحدود اللغوية والقومية للآداب، والأدب المقارن يجب أن يكون نقدياً يقارب النصوص الأدبية كبنى جمالية، لاكمؤثرات ووسائط. عندئذ يصبح الأدب المقارن نقداً، ويصبح النقد أدباً مقارناً، وتزول تلك الحواجز المصطنعة التي أقيمت بين الأدب المقارن والنقد الأدبيّ.
فالأدب يتجاوز بطبيعة الحال حدود اللغات، ولذلك لا يجوز أن يدرس إلا بصورة مقارنة. وهو بنى وقيم جمالية، ولذلك لايجوز أن يقارب إلا بصورة نقدية. إنّ الأدب المقارن الحقّ هو في جوهره نقد أدبي، والنقد الأدبي الحقّ هو في جوهره أدب مقارن. وهكذا أعاد رينيه ويليك اللحمة إلى علاقة الأدب المقارن بالنقد الأدبي، ووصل ماقُطع بصورة تعسفية.‏

كان النقد الجذري الذي وجهه رينيه ويليك إلى دراسات التأثير والتأثر وإلى مايعرف بالمدرسة الفرنسية في الأدب المقارن إيذاناً بولادة مدرسة مقارنة جديدة، باتت تعرف بالمدرسة "الأمريكية".
وفي الحقيقة فإنّ الحديث عن مدرسة "أمريكية" وأخرى "فرنسية" وثالثة "سلافية"، هو حديث غير صائب ومنافٍ للحقيقة. فالمدرسة الفرنسية هي في جوهرها وفلسفتها مدرسة تقوم على تاريخ الأدب، أي أنها مدرسة تاريخية أدبية، ولذلك من الأصحّ أن تسمى "مدرسة تاريخية".
وما يعرف بالمدرسة السلافية هي اتجاه مقارن يستند إلى نظرية الأدب الماركسية، أي إلى المادية الجدلية، ولذا فمن الأصحّ أن تدعى "مدرسة مادية جدلية" أو ماركسية.
أما المدرسة الأمريكية فهي تستمد أسسها من النقد الجديد، ومن الأنسب أن تسمى "مدرسة نقدية". كما لابد من الإشارة إلى أنّ المنهج التاريخي ليس محصوراً في فرنسا، ولا المنهج النقدي في أمريكا ولا المنهج الماركسي في أوروبا الشرقية. فدراسات التأثير تمارس في كثير من الأقطار، خارج فرنسا، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وأقطار أوروبا الشرقية.
ومن الملاحظ أنّ ذلك النوع من الدراسات قد انحسر في فرنسا، وذلك بعد ظهور جيل جديد من المقارنين الفرنسيين الذين نأوا بأنفسهم عنه، حتى قبل أن تظهر المدرسة "الأمريكية" في الأدب المقارن.
ومن أبرز هؤلاء "المنشقّين" الفرنسيين رينيه إيتامبل (Rene Etieèmble) الذي سبق أن تطرقنا إليه، والمقارنون: برونيل/ بيشوا/ روسو (P. Brunel/ Gl. Pichois/ A.M. Rousseau) الذين وضعوا كتاباً حول الأدب المقارن ابتعدوا فيه عن مواقع "المدرسة التقليدية الفرنسية" وسعوا للتوفيق بين الاتجاهين التاريخي والنقدي. وقد حظي ذلك الكتاب باهتمام عالمي، واعتبر نقطة علاّم في تاريخ الدراسات الأدبية المقارنة في فرنسا.
وهناك بالمقابل العديد من المقارنين الأمريكيين الذين يواصلون ممارسة دراسات التأثير بالطريقة "الفرنسية" التقليدية، متجاهلين أنهم في بلد تُنسب إليه المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن.والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأدب المقارن في أقطار أوروبا الشرقية "السلافية"، الاشتراكية سابقاً.
فمنذ البداية لم ينحُ المقارنون الأوروبيون الشرقيون كلّهم منحى ماركسياً أو مادياً جدلياً، وبعد أن انهار النظام الاشتراكي في أقطارهم، لم يعد لديهم أيّ مسّوغ لمسايرة الاتجاه الماركسي ومجاراته. واليوم يضمّ الأدب المقارن في أروربا الشرقية كلّ الاتجاهات والمناهج المقارنة، "فرنسية" و "أمريكية" و "ماركسية" وغيرها.‏

النقد المقارن والتناص:
هل اقتصر تفاعل الأدب المقارن مع الاتجاهات والمناهج النقدية والاتجاهات الحديثة والمعاصرة الأخرى، كالبنيوية والسيميائية والتفكيكية..؟‏
وليس خافياً على أحد أنّ العصر الذي نعيش فيه هو عصر التحولات السريعة، ليس في الصناعة والتقنية والعلوم الطبيعية والتطبيقية فحسب، بل في العلوم الإنسانية أيضاً، ومنها علوم الأدب.والأدب المقارن بصفته واحداً من تلك العلوم، مطالب أيضاً بأن يتطور بسرعة مناسبة لإيقاع هذا العصر.
ولا يجوز أن يقتصر التطور المطلوب على الجوانب النظرية، بل من الضروري أن يشمل الجوانب التطبيقية أيضاً.
لم يعد مقبولاً أن يعلن مقارنون انفتاحهم على اتجاهات جديدة في الأدب المقارن وتبنيهم لها، كالمدرسة الأمريكية (النقدية) من جهة، وأن يواصلوا على الصعيد التطبيقي ممارسة دراسات التأثير والتأثر كما فعل بعض المقارنين العرب.
وإذا أخذنا الأدب المقارن بمفهومه النقدي الذي يعرف بالمدرسة الأمريكية، ذلك المفهوم الذي يدرس الأدب المقارن بموجبه الظواهر الأدبية في جوهرها الجماليّ بصورة تتجاوز الحدود اللغوية والقومية للآداب من جهة، ويقارن الأدب بالفنون ومجالات الوعي الإنساني الأخرى من جهة ثانية، فإنّ استخدام هذا المنهج المقارن لنظرية التناص هو من اولويات المدرسة الامريكية فى النقد المقارن.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن