عبد الحميد الزهراوي(1855-1916) ونقد الاستبداد والاستعباد(6).

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2019 / 2 / 27

لقد اعتبر عبد الحميد الزهراوي الاستبداد رديفا للاستعباد. ومن ثم اعتبره رذيلة كبرى. وأشار إلى أن هيمنة وانتشار الاستبداد أدت إلى أن تقول الناس عن نفسها "نحن عبيد السلطان" و"ولي النعمة" و"مالك رقاب الأمم" وما شابه ذلك من عبارات تعكس طبيعة العبودية في السلطة والنظام السياسي . ولا يعني ذلك سوى أن هذا النمط من العلاقة بين السلطان والمجتمع سوى كونه علاقة الاستعباد والإذلال للأمم والدولة.
وحددت هذه النتيجة موقفه من بدائل الاستبداد. فقد وضع آراءه بهذا الصدد انطلاقا من إدراكه لأهمية وقيمة الدولة الشرعية والقانون والمجتمع المدني. لهذا نراه يتكلم عن "علم الواجبات" باعتباره علم الحقوق. من هنا جوهرية فكرة الواجب الضرورية من اجل تكامل الشخصية الفردية والاجتماعية مع ما يترتب عليها من مواقف مناسبة تجاه قضايا ومشاكل ومستقبل الأمة والدولة على السواء. ووجد في الدستور والحكم النيابي الأسلوب الأمثل لبلوغ هذه الغاية. ونعثر على ذلك في مواقفه المشيدة والداعية لأهمية الانتخاب. إذ اعتبر "أمر الانتخاب من أعظم حقوق الأمة" . فقد جرى من اجله كفاح طويل مرير. من هنا مطالبته بوجوب الدفاع عن حق الانتخاب، والدعوة إلى عدم انتخاب من فيه ميل إلى النفرة من الانتخاب، وكذلك ضرورة تربية الجميع للميل إلى حاكمية الأمة وتعظيم حقوقها السياسية . ولا يمكن بلوغ ذلك بوصفه نظاما دائما وعاما دون سيادة الدستور. فالدستور قيمة عظيمة بنظر الزهراوي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه في حال النظر إلى تجارب الأمم الأخرى، فإننا نرى "مظاهر العزة والرفعة والإخاء الوطني والمساواة في الحقوق والطموح في المساواة إلى ما هو أبهى من الحاضر" . وبالتالي، فإنه في حالة رؤية نواقص أو أمور شبيهة بالماضي فلا ينبغي رميها على الدستور والحكم النيابي"، كما يستنتج الزهراوي . لهذا نراه يدعو في حديثه عن رجال الدولة والنظام السياسي، إلى ضرورة أن يكون في (المبعوثان) أو مجالس النيابة، ممثلون لكل الفئات والاختصاصات والأديان والأفكار. واعتبر هذا التنوع قوة للمجالس. على عكس من يتصور أن من فيها ينبغي أن يكون عالما بكل شيء .
مما سبق يتضح، بأن القيمة النظرية والعملية والمنهجية لفكر الزهراوي تقوم في انه كان محكوما بتحديد المواقف. وهذه بدورها كانت مبنية على أساس تأمل الواقع كما هو والحكم عليه بمعايير الواقعية والرؤية المستقبلية. بمعنى أن كل ما فيه هو نتاج تأمل واقعي وعقلي ونقدي ومستقبلي محكوم بقيم اجتماعية متطورة مثل فكرة الدولة الحديثة والشرعية والمجتمع المدني وقيم الحق والعدل والتقدم والحرية، أي كل ما كان يتمثل ويمثل مضمون الفكرة الليبرالية من حيث كونها منظومة عقلانية وإنسانية، أي مرحلة في مراحل التجربة التاريخية للأمم والعقل النظري والعملي. وقد يكون موقفه من قضايا الإسلام والمدنية المعاصرة، وقضية الشرق والغرب (الإسلام والنصرانية)، وقضية الموقف من أوربا من بين أكثرها وضوحا وأهمية ضمن سياق المرحلة التاريخية آنذاك وإشكالاتها السياسية والثقافية الكبرى.
ففي موقفه من قضية الإسلام والمدنية المعاصرة، نراه ينطلق من مقدمة تاريخية ثقافية وليست دينية. إذ يشدد على أن مجيء الإسلام للعرب هو توسيع لعقولهم صوب ما وراء الطبيعة. إذ لم يكن العرب أمة همجية قبل الإسلام. على العكس. إن فضائل الإسلام هي فضائلهم . وبالتالي ليس للإسلام سبب في تأخر الوطن، على العكس من ذلك. فتاريخ الإسلام هو تاريخ التمدن. أما الإيمان بالغيب، كما هو الحال في كافة الأديان، فانه يكشف عن انه ليس سببا للتأخر، ولا يعيق التقدم . من هنا دفاعه عن "حقيقة الإسلام" عبر إبراز وتأسيس أبعاده الجديدة من خلال مطابقتها مع محتواه التاريخي الأول، ومع غاياته المتعلقة بقضايا الاجتماع والملكية والإرث والسلوك . بعبارة أخرى، انه حاول إبراز المضمون الاجتماعي والسياسي للإسلام من خلال التركيز على جوانب ومبادئ الدعوة للعدل في الحكم، ونظام الشورى في الحكم، والحرية من منطلق لا إكراه في الدين، والدعوة للوحدة الجديدة حسب إمكانية مختلف نماذج ومستويات الاتحاد التي جرى الحديث عنها سابقا، والدعوة لفكرة وجوب الاستعداد وتنمية القوة المادية والروحية للأمة والدولة، والعمل بمبدأ حسن المعاملة، وأخيرا وجوب الرجوع إلى أهل الاختصاص في كل ما له علاقة بمصالح المجتمع والدولة .
لقد كانت مواقف الزهراوي من الإسلام محكومة بالفكرة السياسية بشكل عام والقومية بشكل خاص. بمعنى أنها كانت تسير ضمن سياق التأسيس النظري المواجه لإشكاليات المرحلة الكبرى والقائمة في كمية ونوعية الهجوم الأوربي الكولونيالي آنذاك. لهذا كانت آراءه ومواقفه تتسم بقدر كبير من الرؤية النقدية للنفس من جهة، والتأسيس الايجابي للتراث الذاتي من جهة أخرى. وطبق هذا الأسلوب في موقفه من قضية الشرق الإسلامي والغرب النصراني.
انطلق الزهراوي في موقفه من هذه القضية من مقدمة فكرية فلسفية، مبنية على أساس وحدة المنطق والرؤية التاريخية. وأوصلته إلى نتيجة تقول، بوجوب التضاد والاختلاف في كل شيء. إلا أن لهذه المقدمة مظاهر كبرى منطقية وواقعية، مثل أن الاختلاف لا يزول ولكن له آداب. كما أن التنازع لا يبطل ولكن له سنن. والحق أيضا تختلف فيه الأفكار ولكن التفاهم فيه ممكن. وذلك لأن الأفكار قابلة للتحول وقبول النصح. إضافة لذلك، أن تاريخ البشرية هو تاريخ صراع. أمم تصعد وأخرى تسفل. وأن سبب النزاع فطرة البشر في حب التميز والاستئثار. وبالتالي، فإن كل الأسباب القديمة للنزاع موجودة الآن أيضا. فقد كانت فيما مضى تنحر في مجال المراعي والأراضي والتجارة والمال والرجال والنساء والدين والأفكار وما إلى ذلك. وهي ذاتها الآن رغم تغير بعض مظاهرها، بمعنى أنها محصورة بمساعي الاستحواذ والسيطرة على الغنائم والثروات. إلا أن ليس كل أشكال الصراع طعنا وقتلا، كما يقول الزهراوي . لهذا نراه يتحدث عن بديل لهذه الحالة عبر تهذيب الإنسان والمجتمع بالتربية وتحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية. ووجد في ذلك مقدمات تخفف من حدة الخلاف والاختلاف. لاسيما وأن التاريخ يحفل بنماذج كبرى بهذا الصدد كما نراها في شخصية المسيح ومحمد. فقد ناضل عيسى ضد الاستئثار والتمييز الذي أراده أحبار اليهود. وانتصر بالصبر على الحق. ذلك يعني، أن مسالمة المسيح هي مسالمة الحق. لهذا نراه يدعو إلى القوة أيضا، ولم يستعملها بسبب الظروف فقط. من هنا قيمة النصرانية في تهذيب الشخصية الأوربية. إذ هذبت النصرانية أوربا من همجيتها، وقدمت لها نموذج لحرمة الإنسان. إلا أن أوربا ظلت مع ذلك ذات سيف، ولم تكتف بالكتاب المقدس .
وعندما تناول تجربة الإسلام، فانه حاول الكشف عن أن قوتها في قدرتها على الإقناع والفعل، لا بالقوة والسيف. لأن محمد واحد والمجتمع واحد. وإذا كان انتصار الأول بسرعة، فانه دليل على قوة الشخص والدين. ذلك يعني أن انتصار الإسلام الأول كان مبنيا على مبدأ العدل. من هنا شدة زهد الخلفاء الأوائل. إضافة لذلك أن الإسلام ينكر أكراه الآخرين على الإسلام بالسيف. ولكنه لا ينكر إقامة الدولة الإسلامية. فسيف الإسلام، خلافا لما سبقه ولحقه، هو سيف العدالة وإدخال الجميع في دولة واحدة وليس للاستعباد. وليس مصادفة أن يكون الخلاف التاريخي بين الإسلام وأوربا المسيحية، وليس بين الإسلام والنصارى (الشرقيين). والسبب يكمن في أن ما يميز أوربا هو تقاليد الغلبة والاستيلاء . وإن النظر إلى تاريخ الإسلام، بما في ذلك أشد حكوماته بعدا عن الإسلام أو ظلما، يكشف عن ان النصارى لم يتعرضوا فيه إلى أذية. من هنا خطأ من يدعي الدفاع عنهم وهو مجرد عن الدين (أي لا دين له).
إن حقيقة الغرب(الأوربي) تكمن بالنسبة للزهراوي في عدم تحرره وتخلصه من إرث وتقاليد الغلبة والاستيلاء. وليس مصادفة أن يتميز الغرب (الأوربي) بحصره فكرة الاعتراف بالحقوق بنفسه فقط، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد. وأن يكون همه الغالب هو السيطرة والاستيلاء . إلا أن ذلك لا يضعف ولا يقلل ولا يزيل من فضائله الكبرى. ومن بين فضائله الكبرى حسبما يقول الزهراوي هو فكرة الارتقاء. ووجد سرها في إدراك النفس وفي تطوير العلوم، إضافة إلى العزة والقوة والماديات.
إننا نعثر في إبراز صفات الفضيلة التاريخية المعاصرة الكبرى لأوربا الوجه الآخر لما يفتقده الشرق (الإسلامي). فمن الناحية التاريخية والفعلية، كان الشرق منبت التاريخ، ومظهر الإبداع، ومتجلي البدائع والمدنيات والمعارف، كما يقول الزهراوي. لكنه نائم الآن ساكن . ومن ثم فإن المهمة تقوم في تذليل هذا السكون عبر الرجوع إلى النفس وتطوير العلوم. وضمن هذا السياق يمكن فهم المقارنة بين الشرق والغرب التي يمكن تكثيفها من حصيلة كل ما كتبه بهذا الصدد. فقد صور الزهراوي هذه المقارنة بمتضادات كبرى مثل أن الغرب يعربد ويقهر الأمم، والشرق هاجع تناديه فلا يسمع، وأن الغرب تغذيه نار الحمية، بينما يغذي الشرق أنين الإنسانية. وأن عواقب نوم الروح الشرقي تسبب أكثر ضررا من عواقب سكرة الروح الغربي. فتطور الغرب وارتقاءه لم يغرّب ما فيه من شره وهمجية كما هو الحال عند اشد القبائل تخلفا وهمجية. بل ويعتقد الزهراوي أن الغرب يفتقد إلى روح الشجاعة والمواجهة، وانه لا رادع أخلاقي عميق عنده أمام شعور الغلبة، من هنا كان تاريخه على الدوام هو تاريخ اعتداء وانتقام . ومع أن روح الشرقي كروح الغربي، لكن الاستعداد الشرقي، كما يقول لنا التاريخ أقوى وأحسن، وانه متى سنحت الفرصة كان أثره باهرا. وإذا كان الغرب الحديث أحد أسباب استيقاظ الشرق وسعيه للحرية، فإنه يضعنا أمام مفارقة التاريخ المعاصر ألا وهي التمسك بقاعدة "عدو لابد من صداقته" .
إننا نقف هنا أمام رؤية نقدية تحليلية وتاريخية مهمتها ليست مهاجمة الغرب الأوربي آنذاك، بقدر ما كانت تهدف إلى مهاجمة النفس والكشف عن عيوبها، مع البقاء في الوقت نفسه ضمن حيز الرجاء التاريخي وفضائل المستقبل المحتملة، كما هو جلي في تخصيص علاقة الشرق والغرب (الإسلام والنصرانية) بالموقف من أوربا. فقد كان الزهراوي من بين الشخصيات الفكرية التي لم تصب آنذاك بعطب التدين المزيف ولا الإسلامية المبتذلة. لهذا نراه يقف بالضد من تأجيج الصراع المفتعل بين الإسلام والنصرانية. وبين أوربا والعالم الإسلامي. إذ نراه يصور أوربا بوصفها مبدعا إنسانيا، وبالمقابل نراه يجد الرذيلة في الشرق الإسلامي آنذاك . ولم تعن الرذيلة بالنسبة له آنذاك شيئا غير التخلف والاستبداد والنقص عن التمام. لهذا نراه يقف بالضد من مواجهة أوربا كلها. وفي الوقت نفسه يؤكد على تفرقة الجيد والسيئ فيها، والصديق من العدو. واعتبر أن من الخطأ إعلان أوربا كلها مجرمة. وأشار بهذا الصدد إلى دورها أيضا في البناء والنهضة ونشر العلوم وما إلى ذلك . بعبارة أخرى، انه طالب بالرؤية الحصيفة تجاه أوربا. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه يمكن لوم أوربا وانتقادها، ولكن بالعقل والحجج لا اللوم الحاقد الناقص. وإن الموقف الحقيقي من أوربا ينبغي أن يكون بالاستقلال الاقتصادي عنها .
لكنه مع تقييمه الايجابي الكبير لأوربا وانجازاتها في مختلف الميادين، فإنه أظهر ما اسماه بعدم خلوها من العيوب، وأن أوربا ليست بريئة من إرادة الكيد للآخرين. من هنا تخطئته لمن يقلد أوربا كليا أو يرفضها كليا. واعتبر المهمة الكبرى والأساسية تقوم في معرفة النفس . وفيما لو جرى تكثيف حصيلة موقفه بهذا الصدد، أي حصيلة الموقف من أوربا، فمن الممكن حصرها في ثلاثة أشياء وهي أن لا نجعل منها خصومة لنا دفعة واحدة، وأن نشغل كل شعب إسلامي بتقوية نفسه دون الأمل على آخر، واليقظة الذاتية وتذّكر خير أوربا وشرها . فقد أوصلته تجربة الرؤية التاريخية والنقدية العلمية للسياسة الأوربية، بعد تحليل مختلف القضايا والمشاكل في علاقتها بالعالم الإسلامي، إلى "انه لا معنى بالثقة بها، ولا ضرورة بتعليق الأمل عليها في شيء، لأنها لا تفكر إلا بمصالحها الاقتصادية" .
إلا أن الفكرة الفلسفية المستقبلية العميقة التي توصل إليها من خلال توليف الرؤية النقدية تجاه النفي بالسعي لإدراكها على حقيقتها، ونقد التجربة الأوربية من خلال رؤية محدداتها وغاياتها، تقوم فيما يمكن دعوته بضرورة الرجوع إلى النفس وتأسيس مرجعياتها الحديثة. فقد قيم الزهراوي الإبداع الأوربي في ميادين العلوم الطبيعية والنزعات الإنسانية، لكنه توصل في الوقت نفسه إلى أن فلسفاتهم ليست منطقية بل هي نتاج تجاربهم الذاتية، وبالتالي لا معنى لتقليدها كما هي . وعلى هذا الاستنتاج أسس موقفه الداعي إلى التعلم من أوربا كل ما هو ضروري للمدنية والإنسانية والتحرر دون تقليد ما تقوم به. ووضع هذه الفكرة على أساس تقريره بان أوربا ليست هي الغول، إنما الغول هو سوء الإدارة وفساد السياسة، وأن أوربا هي مطلع نور العالم الحديث. كما أنها تساعد العقول والهمم برؤية أثار العقول والهمم فيها. إضافة إلى ما فيها من مصادر لزيادة المعرفة بحضارتها وأساليب اجتماعها .
لقد شكلت هذه الحصيلة ذروة الرؤية الباطنية للفكرة القومية، بمعنى رؤية الذات القومي العربي بمرآة الواقع الأوربي ومصادر تطوره وأساليب رقيه في مختلف الميادين، أي كل ما يفتقده العالم العربي وما آل إليه من انحطاط شامل وضمور شبه كلي في كيانه وكينونته في ظل السيطرة التركية العثمانية. الأمر الذي جعل من تأسيس الفكرة القومية عند الزهراوي نظرية متراكمة في مجرى توسع وتعمق وتنظيم الرؤية الواقعية والعقلانية والتاريخية والاجتماعية والسياسية.
إن الفكرة القومية عند الزهراوي لم تكن قومية بمعايير الأيديولوجية والسياسية المباشرة، على العكس أنها أخضعت السياسة والأيديولوجية عبر تذويبهما في مشروع تأسيس الرؤية القومية بوصفها بديلا ضروريا للانحطاط والتخلف العربي وانعدام تاريخه السياسي المستقل لقرون عديدة. مما جعل من رؤية الزهراوي ومواقفه مشروعا قوميا واقعيا وعقلانيا يمكن العثور فيه على صدى ومدى التراكم الفعلي لفكرة النهضة العربية والإصلاحية الإسلامية ومضمونها التاريخي بشكل عام وتيار الكواكبي بشكل خاص. (انتهى)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن