وقائع بلا ضفاف: رؤية لبعض أحداث ثورة أكتوبر الاشتراكية (الجزء السادس)

جودت شاكر محمود
judat_mahmood@yahoo.com

2019 / 2 / 8

الثورات والحروب لا تغير أي شيء في الجوهر، ولكنها تخلق حالة من عدم الارتياح لدى الجميع. لا يمكن تغيير قوانين الوجود بأي رغبات طيبة. بعض الحكام يستبدلون بآخرين، ويحاولون احداث تغيير ما، ويؤكدون بأنه للأفضل، لكن عاجلا أم آجلا، يعود كل شيء إلى طبيعته. ولكن بالنسبة الى ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، هل هي ثورة أم انقلاب عسكري، وهل هذا الانقلاب يشبه ما حدث أو يحدث من انقلابات عسكرية في العالم، وخاصة ما حدث في المنطقة العربية من انقلابات عسكرية متسارعة في منتصف القرن العشرين، وما بعد ذلك. أم هي ثورة غيرت وجه روسيا أولا والعالم ثانيا.
لم يستطع بعض المؤرخين اليوم دحض حقيقة حتمية ثورة أكتوبر. لكن يسعون لتشويه الواقع، والقول بأن (Lenin) قد انتهك المسار الطبيعي للأحداث التاريخية، بتقديم ادعاءات من أن البلاشفة الدمويون جاءوا لتدمير جنة الله على الأرض (روسيا القيصرية)، من خلال انقلابهم العسكري في أكتوبر. ولكن، لنتوقف، ونتسأل، عشية الأحداث الكبرى في أكتوبر عام (1917) ماذا كانت روسيا. لأن لا بد من قراءة واعية للأحداث الماضية.
عند الحديث عن الثورة الروسية في عام (1917)، يمكننا التمييز بين وجهتي نظر قطبيتين. تشير وجهة النظر الأولى، حتى يوم الثورة، كانت الإمبراطورية الروسية، وإن لم تكن خالية من الصعوبات، فهي دولة جميلة وسريعة النمو. لكن، الحرب العالمية الأولى عملت على تعديل هذا التطور، اضطرت الصناعة لإعادة هيكلة نفسها لأغراض عسكرية، ولكن على العموم كانت أحداث فبراير مفاجأة مطلقة للجميع، وحتى للمعارضة.
ومع هذا الرأي هناك من يضيف: أن روسيا التي فقدناها كانت قوية وغنية وديمقراطية تقريبا. بشكل عام، البلد متقدم، وكان عبثا أن البلاشفة جاء و"دمروا" كل ذلك. وأن لينين بانقلابه العسكري دمر "جنة الله" على الأرض وقتل القداسة فيها.
في حين، يدعي أنصار وجهة النظر الأخرى أنه في وقت فبراير (1917)، كان هناك الكثير من المشاكل في الإمبراطورية الروسية. الفلاحون غير راضين عن عدم وجود أرض، والعمال غير راضين عن ظروف العمل في المصانع، والجنود غير راضين عن الحرب التي طال أمدها، وهم لا يشعرون بدوافع كافية لمواصلتها، ناهيك عن انخفاض سلطة القيصر (نيكولاس الثاني) والعائلة المالكة. إن أحد أهم العوامل المؤدية إلى ثورة (1917) هو ضعف وعجز السلطة العليا. كان نيكولاس الثاني رجل دولة غير مهم، وكثيرا ما وضع مصالح العائلة فوق مصالح الدولة وارتكب العديد من الأخطاء، لا سيما غموض وتقلبات في مسار الحكومة. بهذا المعنى، كانت أحداث فبراير هي النتيجة المنطقية لزيادة التوتر على جميع الجبهات.
وبقدر ما كانت الإمبراطورية الروسية تنمو كدولة بنجاح عشية فبراير/ شباط، ولكن بحلول أكتوبر/ تشرين الأول (1917)، أصبحت المشكلات الزراعية والغذائية حادة للغاية، وبذلك أثرت جميع تلك الظروف على دعم الجماهير للبلاشفة. في نضالهم من أجل اسقاط سلطة الحكومة المؤقتة، وأنشاء سلطة البروليتاريا. فمن نافلة القول إن ثورة أكتوبر لم تسقط النظام الملكي، أنما هي أطاحت بالجمهورية البرجوازية التي قامت في فبراير.
هناك جزء من المجتمع الروسي الحديث، لديه تصور بأن ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في عام (1917) قد قطعت التنمية المكثفة للإمبراطورية الروسية، والتي وصلت إلى ارتفاعات غير مسبوقة مع بداية القرن العشرين.
ولكن، هل هذا هو حقيقة روسيا عشية ثورة أكتوبر؟
أذن، ماذا كان وضع الإمبراطورية الروسية قبل وعشية عام (1917)؟
للإجابة على هذا السؤال، من الضروري النظر في المؤشرات الاقتصادية للإمبراطورية الروسية مقارنة بالاقتصادات الرئيسية للبلدان الرائدة في العالم، ولتقييم الوضع السياسي والموقف من النظام الملكي داخل البلاد، انظر إلى السياسة الداخلية والخارجية لروسيا.
روسيا القيصرية انضمت إلى الحرب العالمية الأولى بالتحالف مع الدول الليبرالية، التي خانتها في كل منعطف، وأرادت نشر الفوضى داخل حدودها بهدف إسقاطها. إلى جانب نمو اقتصادي كبير في روسيا القيصرية عشية الحرب. هذه حقيقة. لا أحد ينكر هذا. لكن في نفس الوقت كانت هناك إضرابات ضخمة. شارك الملايين من الناس فيها. في كل عام، قبل ثورة أكتوبر، كانت تزداد عدد الإضرابات، ومعها ازداد عدد ضحايا نتيجة لقمع هذه الإضرابات. ففي عام (1915)، نفذ (1946) اضرابا شارك فيها (900) ألف شخص. وفي عام (1916)، نفذ (2306) أضرابا بالفعل شارك بها (مليون 800 ألف مشارك). أما في الشهرين الأولين من عام (1917)، تم تنظيم (751) إضرابا شارك فيها (700) ألف شخص. كذلك، بدأت موجة من حركة الفلاحين، غير الراضيين عن إصلاحات (Stolypin)(30)، وكان هناك الجوع ، وكانت أعمال شغب الخبز.
لكن، يحب معارضو الثورة تقديم حجج حول النمو الاقتصادي الذي لم يسبق له مثيل، والذي حقق نتائج مذهلة بشكل خاص بحلول عام (1913). في الواقع، فإن هذه الحجج مثيرة للإعجاب: ففي عهد (نيكولاس) الثاني، دخلت روسيا الدول الخمس الأكثر تطورا اقتصاديا في العالم، في السنوات (1913-1900) تضاعفت إيرادات الميزانية، واحتفظت باحتياطيات الذهب والأموال الورقية، وكان متوسط معدل النمو السنوي للاقتصاد (%8-6)، أصبحت روسيا رائدة في تصدير الحبوب، والتعدين، وصناعات النفط والغابات.
ومع ذلك، فإن أصحاب الراي الآخر لديهم الكثير من الحجج المضادة التي تجعل الصورة ليست وردية. وفيما يلي بعض الأرقام التي يستشهدون بها: ففي عام (1910)، صدّرت الإمبراطورية الروسية السلع مقابل (2.5) مليار روبل، في حين كانت أرقام بلجيكا على سبيل المثال:(4.5) مليار روبل. حتى خلال "الروعة الاقتصادية" لعام (1913)، أنتجت روسيا (2.5) إلى (3) مرات أقل من ألمانيا أو المملكة المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، قبل إدخال "القانون الجاف" في عام (1914)، كان احتكار النبيذ أحد أهم عناصر إيرادات الدولة.
كذلك، وفقا لأرقام عام (1912)، كان الدخل القومي للفرد الواحد: في الولايات المتحدة (720) روبل (بالذهب)، في إنجلترا (500)، في ألمانيا (300)، في إيطاليا (230) وفي روسيا (110).
حتى الحبوب، ثروة روسيا الرئيسية، كان ضعيفا. إذا استهلكت إنجلترا (24) رطلا للفرد، وألمانيا (27) رطلا، والولايات المتحدة الأمريكية بما يصل إلى (62) رطلا، فإن الاستهلاك الروسي كان (21.6) رطل فقط.
مع نهاية عام (1916)، بدأ انخفاض الناتج المحلي الإجمالي. تزايد التضخم والنقل مع صعوبات الوقود. كان هناك خبز في البلاد، لكن طوابير ضخمة اصطف في المدن من أجلها. ما مجموعه (1.9) مليون شخص لقوا حتفهم، وتم القبض على (2.4) مليون شخص. ومع ذلك، بالنسبة للفرد، كان العبء على روسيا أقل حدة بكثير من معظم البلدان الرائدة في الحرب العالمية الأولى.
لقد أدى التدمير الكامل للنظام الاقتصادي والمالي لروسيا الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى وثورات فبراير وأكتوبر اللاحقة إلى انخفاض الإنتاج، مع نقص حاد في الغذاء وانتشار الأوبئة بين السكان. بسبب الانخفاض الكارثي في الإنتاج، بدأت بين سكان المدن الكبيرة في شتاء (1917-1916)، مجاعة ضخمة.
وعلى الرغم من حقيقة أنه في الفترة من (1909) إلى (1913)، كانت هناك مؤشرات على نمو إنتاج الصلب (1.4) مرة، والحديد الخام (1.6) مرة، كما زاد التدخل الأجنبي في روسيا بشكل حاد، وبلغ نحو (%40) من الاقتصاد الروسي. وفي صناعات التعدين وتشغيل المعادن، كانت حصة رأس المال الأجنبي حوالي %52، وفي الشركات المتعلقة بالطاقة الكهربائية%90، والسكك الحديدية بنسبة %100.
وفقا لمجموع دورات التجارة الخارجية السنوية، احتلت روسيا في عام (1913) المركز السابع بعد بريطانيا العظمى وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والهند. والشريك التجاري الرئيسي لروسيا، عشية الحرب العالمية الأولى، هو العدو المستقبلي ألمانيا (%29.8من الصادرات الروسية و%47.5 من الواردات الالمانية).
في حين كان الدَين العام للدولة الروسية في عام (1913) هو (8.8) مليار روبل. وبعد دخول روسيا في الحرب العالمية الأولى، تراجعت جميع المؤشرات الاقتصادية، وبحلول عام (1917) ارتفع الدَين الوطني إلى (50) مليار روبل.
وعلى الرغم من ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي إلى حد ما، فأن الاقتصاد الروسي كان ينتقل من الأبوية الإقطاعية إلى البورجوازية. وفي الوقت نفسه، على سبيل المثال، سيطر رأس المال الأجنبي على الصناعات المتطورة مثل صناعة النفط، وتعدين الحديد، وتعدين الفحم، والصلب، وصهر الحديد. وكان القطاع المصرفي في الإمبراطورية الروسية يعتمد إلى حد كبير على القروض الأجنبية. وأن جزء كبير من رأس المال والأصول يمتلكها الأجانب.
في عام (1912)، كانت هناك صناعة مشهورة ومهمة مثل صناعة النسيج وهي مملوكة للألمان بمقدار النصف. كما كانت المسألة أسوأ في مجال التعدين وبناء الآلات. في الصناعة يمتلك الألمان نسبة (%71.8) (ملحوظ - وهذا قبل الحرب مع ألمانيا؟!)، ونسبة (%12.6) للفرنسيين، ونسبة (%4.7) لبلجيكا. في حين كانت البرجوازية الروسية تمتلك فقط (%8.2) من الصناعة الروسية.
كان الثلث من جميع البنوك التجارية في روسيا أجنبيا. حيث تجدر الإشارة إلى أن الأجانب لم يكونوا مهتمين بالموظفين المؤهلين، بل أحضروا المتخصصين في الإدارة معهم، أما الفلاحين الروس الذين ذهبوا للعمل في المدينة، اعتادوا على العمل الشاق والبسيط، دون القلق بشأن الرعاية الصحية، أو ظروف العمل، أو التدريب المتقدم.
أما بالنسبة لأرقام الصادرات المرتفعة، لقد صدّرت روسيا الحبوب، التي يفتقر إليها الفلاحون أنفسهم في كثير من الأحيان، وفي مقابل ذلك، تستورد السيارات والسلع المصنعة. من الصعب أن نسمي ذلك تصنيع. أما السكك الحديدية فكانت جيدة التطور فقط، وهذا أمر مفهوم فقد كان من الضروري نقل الحبوب إلى الأوروبيين. وكان المؤرخون يسخرون، كانت الإمبراطورية الروسية "قوة عظمى بالخبز".
إذا كنا نتحدث عن النجاح، فإن الإمبراطورية الروسية تندمج بنجاح في نظام الرأسمالية العالمية كمصدر للموارد الرخيصة. اليوم قيل لنا إن روسيا كانت رائدة العالم في تصدير الحبوب: نعم، إنها كذلك. لكن في نفس الوقت، كانت روسيا هي الأقل إنتاجا. في روسيا ما قبل الثورة، كانت هناك، بطبيعة الحال، مزارع كبيرة ومثمرة للغاية، والتي ستقوم على مبادئ رأسمالية وتمثل أساسا واضحا لإدارة الاقتصاد الاشتراكي. كانت هذه ملكية كبيرة للأراضي، ولكن في إجمالي الإنتاج الزراعي لروسيا كان يمثل، بالمعنى المجازي، جزر صغيرة في المحيط.
وعلى الرغم من كل الصعوبات، فقد تحول القمح والشعير من القرية إلى ذهب وأموال وأسهم لملاك الأراضي والمصرفيين وطبقة أرستقراطية العليا. كان على النخبة أن تعيش على الأقل كما في الغرب، وبسبب الملذات الباهظة الثمن، ذهبت السلع الفاخرة لتحصد نصف أرباح التصدير.
وعلى الرغم من أن كل سنتين أو ثلاث سنوات تندلع في البلاد حركات بسبب الجوع، لكن الحكومة استمرت في إرسال العربات المحملة بالحبوب على طول السكك الحديدية إلى الخارج. وبذلك أصبح من الواضح أن التغييرات اللازمة في الاقتصاد والصناعة كانت ببساطة مستحيلة دون تغيير نمط الحياة. وبدون تغيير في نمط السلطة.
في أوائل القرن العشرين، لم تتمكن الحكومة القيصرية من حل المشكلة الزراعية، ولم تتمكن من فك عقدة التناقضات بين النبلاء والبرجوازية، ولم تحل المشاكل الاقتصادية لروسيا. أن الأوضاع الاقتصادية لروسيا لا يمكن حلها إلا بالوسائل الاجتماعية (يعني ثورة). فروسيا كانت مستعدة أن تكون مستعمرة للغرب. لذا، كانت الثورة هو الحل الحتمي لها.
وبحلول عام (1917)، كانت البلاد في حالة أزمة اقتصادية لمدة عامين. منذ عام (1915)، تدهور الوضع السياسي في روسيا بشكل ملحوظ مقارنة مع الارتفاع القصير الذي حدث عشية الحرب. لم يكن السبب في ذلك هو الصعوبات الاقتصادية وتدهور نوعية حياة السكان فحسب، بل أيضا نتيجة للهزيمة في الجبهة. تمكنت ألمانيا من الاستيلاء على بولندا، وهي جزء من دول البلطيق وغرب روسيا البيضاء وأوكرانيا الغربية.
فقد دشنت الحرب العالمية الأولى ما يسمى بـ"تكتيكات الخنادق"، واستنزاف الجنود واستنزفت اقتصاديات الدول. الظروف غير صحية وانتشار الأمراض المؤلمة: حمى فولين، حمى التيفوئيد، والدوسنتاريا المزمنة، كل ذلك، أصبح جزءا لا يتجزأ من الحياة العسكرية، وكانت تنتشر الطفيليات داخل الخنادق والثكنات. بالإضافة إلى حقيقة أن الجنود تعرضوا للمعاناة الجسدية الشديدة، فقد تعرضوا لصدمات نفسية شديدة. في الحرب العالمية الأولى بدأت حرفيا "وباء" الأمراض العقلية، والذي وصل إلى أبعاد لم يسبق لها مثيل. "لم ير الجندي الناس الذين كانوا يهاجمونه، لأنهم كانوا على بعد بضعة كيلومترات. وإن القذائف كانت تمطر باستمرار على الجندي، وكان بالكاد يستطيع الهروب من الخندق. بالإضافة إلى ذلك، في الحرب العالمية الأولى بدأ في استخدام الأسلحة الكيميائية، وكان يحترق الجنود مع التعرض للغازات السامة.
كل هذه الاحداث مهدت الطريق لنشوء الاتحاد السوفيتي. الذي سيطر على سياسات القرن العشرين، وترك بصمة لا تمحى على العالم المعاصر. ولكن عندما بدأ عام الثورة في روسيا في شهر فبراير (شباط) عام (1917) القارص، لم يكن الكثير من الثوريين، في البداية، يبدون الكثير من الاهتمام.
كانت (Petrograd)، التي كانت مستنزفة بسبب الحرب ونقص الغذاء، في أوائل عام (1917)، كانت برميل بارود من اليأس والغضب مع من هم في السلطة. ما حدث بعد ذلك لم يكن مجرد ثورة، بل ثورات متعددة. الرفض ليس فقط للدولة، ولكن لجميع الشخصيات التي في السلطة: القضاة ورجال الشرطة، والمسؤولين الحكوميين، وضباط الجيش والبحرية، والكهنة، والمعلمين، وأصحاب العمل، وملاك الأراضي، وشيوخ القرية.
وعلى النقيض من توقعات (Aleksandr Shlyapnikov)(31) بأن الاحتجاجات ستتلاشى، فإن الاضطرابات تكاثرت في الأيام الأخيرة من شهر فبراير. بدأت الأعلام الحمراء واللافتات تظهر، داعية إلى سقوط النظام الملكي.
وعلى الرغم من الاضطرابات، كان يمكن للسلطات احتواء الموقف إذا كانوا قد تجنبوا صراعا مفتوحا مع الحشود. لكن قوات القيصر فتحت النار، مما أسفر عن مقتل المتظاهرين. بدأت المظاهرات تتحول إلى ثورة واسعة النطاق عندما اقتحم محتجون غاضبون ثكنات فوج بافلوفسكي في المدينة. وبدلا من مهاجمتهم، انضم الجنود إلى المتظاهرين، حتى أطلق بعضهم النار على ضباطهم.
كانت السلطات، حتى الآن، محرومة من القوة العسكرية في العاصمة. دفع توسيع الثورة إلى الافتراض بأن الأحداث كانت تدار من قبل الأحزاب الاشتراكية. في الواقع، كان يقودها العديد من الأفراد: الجنود، والعمال، والطلاب، الذين لم تدرج أسماؤهم في كتب التاريخ.
في (27) فبراير/ شباط، حضر حشد من الناس إلى قصر (Tauride) (32) وهم يبحثون عن القادة. حيث تم انتخاب مجلس عمالي يعرف باسم السوفييت. أغلبية زعماء سوفييت (Petrograd) ليس لديهم نية للاستيلاء على السلطة. بدلا من ذلك، أرادوا من قادة الدوما تشكيل حكومة تتماشى مع العقيدة التي وضعها كارل ماركس: في بلد مثل روسيا، فإن الخطوة الأولى نحو النظام الاشتراكي سوف يتخذها الديمقراطيون البرجوازيون. في الأول من مارس، تم تشكيل حكومة مؤقتة. وتعهد مجلس السوفييت بدعمها طالما التزمت بقائمة شاملة من المبادئ الديمقراطية.
وفي الوقت نفسه، يمكن أن ينقذ تنازل القيصر نيقولا من الحرب ضد ألمانيا، التي كان كل جنرالاته الكبار طالبوه بذلك. ودعا مجلس الدوما أيضا الامبراطور إلى التنحي. في (2) مارس (1917)، تخلى (نيكولاس الثاني) عن العرش. تميزت نهاية النظام الملكي بمشاهد من الابتهاج في جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية. تم تدمير رموز السلطة الملكية، الشعارات، معاطف القتال، والنسور ذات الرأس المزدوج والتماثيل القيصرية.
أستمر السخط في جميع أنحاء روسيا من المدن إلى الريف. ارتفعت توقعات العمال: دعا المهاجمون لمدة (8) ساعات عمل يوميا وسيطرة العمال على المصانع. كجزء من الأزمة الأوسع في السلطة، كان لسلطة مجلس السوفييت في (Petrograd) سيطرة محدودة على الثورات في المحافظات والمجتمعات الزراعية. فكانت تتصرف المدن والمناطق المحلية كما لو كانت مستقلة عن الأمة. كان للجنود لجانهم الخاصة، التي أشرفت على العلاقات مع الضباط. رفض بعض الجنود القتال لأكثر من ثماني ساعات في اليوم، مطالبين بنفس حقوق العمال.
بعد انزعاجها من التقدم الألماني، قامت الحكومة المؤقتة بتعبئة فوج الرشاشات الأول، الذي كان يضم معظم الجنود المؤيدين للبلاشفة في حامية Petrograd. أتهم هذا الفوج الحكومة باستخدام الهجوم الألماني كذريعة لتنكيل بالعناصر البلشفية، لذا قرر الإطاحة بالحكومة إذا استمرت مع أوامر "الثورة المضادة".
في عام (1914)، انضمت روسيا الى الحرب العالمية الأولى. ولكن مع الثورة البلشفية في عام (1917) وصل دور روسيا في تلك الحرب إلى نهايتها. سرعان ما بدأت الحرب الأهلية، والتي استمرت بكثافة متفاوتة حتى عام (1920). بعدها بدأ الانتعاش الاقتصادي، ولكن بحلول عام (1928)، كان الاقتصاد الروسي قد انخرط في حملة (Stalin) من أجل "اللحاق وتجاوز" الغرب من خلال التصنيع بالقوة.
خلال هذه السنوات، هناك العديد من الفرص لمراقبة الاقتصاد الروسي عبر العديد من التحولات النقدية، بما في ذلك بعض أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث لبلد ما. كانت هناك حرب عالمية وحرب أهلية. عانى الاقتصاد من التفكك الاقتصادي والعزلة والمجاعة. كان هناك انهيار لقدرة الدولة. بعد ذلك، كانت السلطة مركزية في يد دولة جديدة تسعى إلى التدخل على نطاق غير مسبوق.
تجربة روسيا في هذه السنوات تمتلك إمكانيات غنية للدراسة تتعلق بالعلاقة بين قدرة الدولة، سياسة الحكومة، والتنمية الاقتصادية.
في العامين التاليين للثورة، كانت هناك كارثة اقتصادية. بحلول عام (1919)، انخفض متوسط الدخل في روسيا السوفيتية إلى أقل من (600) دولار أمريكي بأسعار (1990). أقل من نصف هذا المستوى في عام (1913)، هذا المستوى لا نشهده اليوم إلا في أفقر بلدان العالم. لكن، الأسوأ كان سيأتي لاحقا.
بعد فترة من الحصاد الكارثي، بدأت ظروف المجاعة تظهر في صيف عام (1920) (في بعض المناطق ربما في وقت مبكر من عام (1919)). في (Petrograd) في ربيع عام (1919)، كان معدل الاستهلاك اليومي للعمال أقل من (1600) سعرة حرارية، أي ما يعادل نصف المستوى قبل الحرب. تزامن انتشار الجوع مع موجة من الوفيات الناجمة عن التيفوس والتيفوئيد والدوسنطاريا والكوليرا. في عام (1921)، انهار محصول الحبوب أكثر، وخاصة في مناطق زراعة الحبوب الجنوبية والشرقية.
على الرغم من أن روسيا عانت من فجوة بين (1913) و(1928). فأن مستوى الاقتصاد الروسي في عام (1917) كان أعلى مما كان يعتقد من قبل، في حين، نجد أن الانهيار اللاحق كان أعمق من ذلك. ما الذي يفسر هذا الانهيار؟ من الطبيعي التفكير في الحرب الأهلية الروسية، والتي عادة ما تكون مؤرخة من عام (1918) إلى عام (1920).
فعندما يكون لدى الدولة المقدار حقيقي من القدرات، يكون هناك إدارة صادقة في القانون، والدولة تستطيع أن تنظم وتحمي الملكية الخاصة وحرية التعاقد والاتفاقات. ولكن، عندما تكون قدرة الدولة ضعيفة للغاية، يتفكك النظام الاقتصادي في السرقة والعنف وينتهي الأمر بالأمن إلى أن يتم خصخصتها من قبل العصابات وأمراء الحرب.
في التاريخ الروسي، عادة ما يكون لدى الدولة أما إمكانات كبيرة أو أقل من اللازم. روسيا تتقلب بين طرفي النقيض. في الحرب العالمية الأولى، لم يكن لدى الدولة القدرة الكافية على تنظيم اقتصاد الحرب، وفي نهاية المطاف تم تفكيكها من قبل الفصائل المتنافسة.
في الحرب الأهلية ومرة أخرى خلال عشرينيات القرن الماضي، انتزعت الدولة القدرة على اظهار القوة المكتسبة وحشدها، لبناء القوة الاقتصادية والعسكرية.
في روسيا كان نظام ملكي مطلق يسيطر على بلد اغلبه من الفلاحين. في حين بعد عام (1917) فالأسس الاقتصادية للثورة تهدف لـ"تجربة" اقتصاد مخطط غير رأسمالي في بلد فقير وسط عالم رأسمالي. في زمن كان هذا العالم يتغير بخطى واسعة، فقد أصبحت الرأسمالية مهيمنة، ومعها، التصنيع. والظروف الموضوعية للتغيير ناضجة.
كانت روسيا دولة فقيرة. كان لديها موارد كبيرة ولكن تم تجميدها بالمساحة الشاسعة للبلاد والمناخ القاسي. حتى في عام (1914)، كان (85) في المائة من السكان ما زالوا فلاحين. كان الفلاحون الريفيون قد تحرروا من القنانة في عام (1861)، لكن الأرض كانت لا تزال مملوكة لعدد قليل: حوالي (%1.5) من السكان يملكون (%25) منها.
إلى جانب المشاكل الداخلية، رسمت الحرب العالمية الأولى عام (1914) مصير الإمبراطورية الروسية، التي تتجه نحو انهيارها. فقد تم حشد (15) مليون شخص في الجبهة، قتل منهم (1.3) مليون أو فقدوا، وأصيب (4) ملايين بجروح، وتم أسر (2.5) مليون شخص.
كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى أثراً سلبياً للغاية على النظام المالي بروسيا بأكمله. كما تأثرت سوق الأسهم، باعتبارها واحدة من أهم الأجزاء في النظام المالي، تأثرا سلبيا بالحرب.
وبحلول بداية عام (1917)، كان الاقتصاد الروسي، ولا سيما تداوله المالي والنقدي، في حالة انهيار. انخفض الإنتاج الصناعي والزراعي بسبب النقص في موارد العمالة، والضرائب المرتفعة، وإعادة توجيه قطار الاقتصاد إلى "قضبان الحرب".
بعد ثورة فبراير، بدأت الإيرادات الضريبية، والتي تشكل الجانب الأساسي للإيرادات في أي ميزانية للدولة، في الانخفاض بشكل حاد.
ونتيجة للسياسة المالية السلبية للحكومات القيصرية والمؤقتة أدى إلى تضخم في الدين الوطني (الخارجي والداخلي)، فإن المبلغ الإجمالي له بلغ في أكتوبر (1917) حوالي (50) مليار. روبل.
في بداية القرن العشرين. أصبحت روسيا النقطة المحورية لتناقضات الإمبريالية العالمية، وأضعف حلقاتها. وبذلك، أصبحت الشروط الاقتصادية والاجتماعية للثورة القادمة ناضجة. في هذا الوقت، انتقل مركز الحركة الثورية من أوروبا الغربية إلى روسيا.
إن ثورة فبراير لم تحل المسائل الجوهرية لحياة الناس. لقد اتبعت الحكومة البرجوازية المؤقتة، بدعم من الأحزاب المتنازعة من المناشفة والثوريين الاشتراكيين، سياسة إمبريالية ومعادية للناس.
في بداية السنة السابعة عشر، كانت روسيا في حارة من الأزمات. كانت الفشل في السياسة، والمشاكل الاقتصادية الرهيبة والحرب. تقريبا تم نقل الميزانية بالكامل إلى الاحتياجات العسكرية، في حين انخفض الاقتصاد. تم نقل جميع قوى الصناعة لاحتياجات الجبهة، في حين لم يكن لدى الناس ما يكفي من السلع الاستهلاكية الأولى. ومع ذلك، تم تعبئة عمال المصانع والفلاحين والمثقفين في الجبهة.
وكان قادة أحزاب(Cadets) و(Octobrists) يعتقدون أن إصلاح هذه الأوضاع يمكن أن يتم دون انقلاب. بينما كان مؤيدو الأفكار اليسارية مقتنعين بأن الثورة هي الحل الوحيد. وان الأوضاع السياسية، والفقر، والظلم، والحرب، كانت عوامل ساعدت الشيوعيين على جمع ما يكفي من المؤيدين. لذا كانت ثورة أكتوبر ضرورية لخلاص روسيا، حيث أنه بعد ثورة فبراير، كانت الدول الغربية قد قسمت بالفعل الأراضي الروسية فيما بينها.
في فبراير (1917)، هاجم الغرب روسيا من الداخل، مستفيدا من الحرب العالمية والموقف غير المستقر للسلطة الملكية. ساهم العدوان الغربي في انهيار سلطة الدولة وتقسيم روسيا وفقا للخصائص الإقليمية والوطنية.
كما كان لدى العمال أسباب وجيهة للاستياء: السكن المزدحم، وساعات العمل الطويلة، عادة ما يصل إلى (10) ساعات في اليوم، ستة أيام في الأسبوع، ظروف سلامة وصحة سيئة للغاية. الى جانب ذلك، أضافة الحرب العالمية الأولى الى تلك الفوضى عوامل جديدة. فقد تسبب الطلب الهائل على إمدادات الحرب والعمال في مزيد من الإضرابات، في الوقت الذي جرد فيه التجنيد العمال المهرة من المدن، واضطروا إلى استبدالهم بفلاحين غير مهرة. كما جلبت الحرب المجاعة بسبب ضعف البنية التحتية للسكك الحديدية والحاجة إلى إمداد الجنود في الجبهة. في نهاية المطاف، انقلب الجنود أنفسهم على القيصر، فأخرجوه ومع تشكيل الجمهورية في نهاية المطاف في عهد البلاشفة، انتهت الحرب باتفاق على شروط قاسية مع الألمان.
في العامين التاليين للثورة، كانت هناك كارثة اقتصادية. بحلول عام (1919)، انخفض متوسط الدخل في روسيا السوفيتية بمقدار النصف عن عام (1913)، وهو الانخفاض الذي لم تشهده أوروبا الشرقية منذ القرن السابع عشر.
كما تشير جميع الحقائق إلى أن الإمبراطورية الروسية عشية الثورة الديمقراطية البرجوازية في فبراير عام (1917)، كانت أدنى من حيث القوى العالمية الرائدة اقتصاديا. الحرب التي لا معنى لها، جنبا إلى جنب مع الفساد الهائل والنضال من أجل السلطة، قد استنفدت البلاد إلى أقصى درجة بكل معنى الكلمة. كان انهيار الإمبراطورية الروسية أمرا لا مفر منه.
يقول (Alexander Kolpakidi) كثيرا ما يشار إلى معدلات النمو في الاقتصاد القيصري. لكن معدلات النمو شيء، والمشاكل الرئيسية العالمية غير القابلة للحل هي مشكلة أخرى. في ظل ظروف عام (1914) تبين أن روسيا هي "الحلقة الأضعف" بين الدول الأخرى. أن روسيا القيصرية ليست دولة مزدهرة، إنها دولة تراكمت فيها المشاكل غير القابلة للحل لعقود، والتي لم يكن من الممكن حلها في إطار النظام القائم. حيث لم يتم حل مسألة الأرض، ولم تحل المسألة الوطنية، ولم يتم حل مسألة العمل، بالإضافة إلى ذلك، نشأت العديد من المشاكل الأخرى مع الحرب.
من الحقائق المعروفة جيداً أن ثورتا فبراير وأكتوبر كان لها العديد من الأسباب، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. كانت الأسباب الاقتصادية محددة سلفاً بالسياسات المالية للحكومة القيصرية. من الجدير بالذكر أن تقييم الوضع المالي لروسيا مثير للجدل وتم تغطيه بطرق مختلفة من قبل المؤرخين السوفيات في العصر الحديث.
في الواقع، تنبع ثورة أكتوبر من ثورة فبراير، التي، بعد تدميرها للدولة الروسية، التي أدت إلى الفوضى في البلاد، خلقت كل الشروط المسبقة لبداية ثورة أكتوبر، التي لم يتوقعها المنظّرون الغربيون والرعاة.
في نهاية المطاف، بعد انتصار الحكومة السوفيتية في الحرب الأهلية واستقرار النظام، بدأ الأداء الاقتصادي، لا سيما بعد إصلاحات السياسة الاقتصادية الجديدة من عام (1924)، في الانتعاش.
أن أحد الدروس الأساسية التي يمكننا استخلاصها من التجربة الروسية هو أنه لا يمكننا أن ننجح إلى ما لا نهاية في مواجهة رأس المال العالمي. فقد توقع (Marx) و(Engels) بشكل ملحوظ فشل الثورة الروسية في نهاية المطاف. واعتقد ماركس أن الثورة الشيوعية الناجحة تفترض وجود اقتصاد عالمي متكامل.
ومع ذلك، رأى (Marx) أيضا أن التحول الاشتراكي لن يضطر إلى انتظار "نضج" كل الاقتصاد الرأسمالي الوطني. كما كتب: "إذا أصبحت الثورة الروسية دليل لثورة بروليتارية في الغرب، بحيث يكمل الاثنان بعضهما البعض، فإن الملكية المشتركة الحالية للأرض قد تكون بمثابة نقطة انطلاق للتنمية الشيوعية". لماذا تنتظر الوصول إلى الاشتراكية على مرحلتين عندما نستطيع الوصول إلى هناك في مرحلة واحدة؟
لسوء الحظ، لم تتحقق الثورة في الغرب. بينما نجح الاقتصاد المخطط في تغيير حياة الملايين، روسيا معزولة ومحاطة وبسرعة كبيرة، تحولت الى حكم الطبقة العاملة. ولكن، لماذا فازت الثورة الاشتراكية التي حلم بها (Marx) بالتحديد في روسيا؟ وذلك لأن المجتمع الروسي لم يكمل التعبئة الصناعية، واحتفظ بالعديد من بقايا المجتمع التقليدي والتي تمزقت بسبب تناقضات حادة. بحيث تمكن البلاشفة من الاستفادة من كل هذا.
لم يكن بوسع البروليتاريا الثورية الروسية أن تتوقف في مرحلة الثورة الديمقراطية البرجوازية، وكما توقع(Lenin)، فإن تطورها إلى نظام اشتراكي كان حتمياً. فقط الثورة الاشتراكية يمكن أن تحل القضايا الملحة للتقدم الاجتماعي، والقضاء على نظام البرجوازيين، وملاك الأراضي في روسيا، وتدمير كل أشكال القمع الاجتماعي والوطني، وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا من أجل بناء مجتمع اشتراكي.
يمكن للوكلاء الأجانب تنظيم انقلاب، لكن الناس يقومون بثورات، وبتغيير النظام الاجتماعي. في روسيا، قام الشعب الروسي بشن ثورة أكتوبر ودافع عنها في جميع المعارك ضد التدخل الدول الغربية والجيوش البيضاء التي استأجرتها الدول الغربية، والتي كانت مدعومة بالكامل من الغرب.
فمن الواضح أن الحكومة السوفييتية جاءت لتعبئة روسيا لمقاومة أوروبا والغرب. جاءت السلطة السوفييتية لإنقاذ حياة روسيا، حيث أن الأهداف التي وضعها الحزب في أكتوبر (1917) تزامنت تماما مع أهداف الشعب. شعار واحد: "السلطة للشعب، الأرض للفلاحين". لهذا السبب كره الغرب البلاشفة.
طوال السنين من الأيام الأولى للثورة السوفياتية، سعى الغرب إلى وقف حركة التقدم لروسيا والاتحاد السوفيتي، ورمي المزيد والمزيد من الجيوش الجديدة من الأعداء الداخليين والخارجيين، من أجل منعها من التقدم.
لكن الأكذوبة الأساسية هي أن (Lenin) مسؤول عن كل شيء. من أين يأتي كل هذا؟ هذا يرجع إلى المشاكل التي كانت في روسيا القيصرية. لم يكن (Lenin) من تنبأ بسقوط هذا النظام. "كان هدف (Lenin) هو جعل الناس يصبحون أسياد بلادهم". لم يدمر (Lenin) أي شيء، بل على العكس، قام بمعجزة حقيقية. لم تكن حرب أهلية فحسب، بل كانت تدخلا مثقلا بالحرب الأهلية. قبل الثورة كان هناك على الأرض أكثر من مليون جندي أجنبي. وقد أعلن "مرسوم السلام". فقد وعدوا بإحلال سلام منفصل مع الألمان! وتقرر على الفور أن يتم تقسيم الأرض بين الفلاحين. وتوزيعها، بالطبع، مجانا عليهم. تعامل (Lenin) مع كل شيء بشكل ملائم، ولم يكتفي بتوحيد المناطق، ولكنه خلق شيئا جديدا من الناحية المفاهيمية، حيث لم يجرؤ أحد على القيام بذلك.
وفقا لبحث (Renaissance Capital)، وهو بنك استثماري متخصص في المنطقة. يقول إن روسيا في عامي (1917) و(2017) لديهما قدرات مهدورة أكثر مما يمكن توقعه.
يعتقد (Charlie Robertson) وهو الخبير الاقتصادي، أن روسيا كان من الممكن أن تحقق أكثر من ذلك بكثير، ويعتقد أن روسيا ممكن أن تكون أكثر سكانا وأكثر ثراء وأكثر ديمقراطية مما هي عليه اليوم، ولكن، بسبب الغزو المتكرر من جانب أعداءها، والحصار، والتدخلات الأخرى.
كان الاتحاد السوفياتي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وعلى الجميع أن تفخر بهذه الحقيقة.
وبغض النظر عن مقدار ما يقولونه عن النقص في ورق التواليت، فإن الإنجازات الاقتصادية البارزة للاتحاد السوفيتي، والتي تمثل (%20) من الإنتاج الصناعي العالمي. بالطبع، لم يكن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية حالة مثالية، عانى من العديد من الأمراض المزمنة، ولكن البلاد لم تكن لديها مشكلات غير قابلة للحل. مع إصلاح متوازن وكفء للبلاد، كان من الممكن حل الكثير من المشاكل بشكل لا لبس فيه.
ونتيجة لذلك، تفوق (Lenin) على أولئك الذين أتوا به إلى (Petrograd). لم يدمر روسيا القديمة فحسب، بل بدأ ببناء دولة جديدة، أقوى وأشد خطورة على الغرب. استخدم (Lenin) أولئك الذين استخدموه. وقد فعل ذلك ليس لتجديد حسابه السويسري (ليس مثل ما يفعلونه السياسيين الفاسدين اليوم)، ولكن من أجل بدء تجربة اجتماعية رائعة. لهذا السبب لم يكن (Lenin) جاسوسا ألمانيا ولا ماسونيا. غير أنه تصرف لمصلحته ومصلحة بلاده بالطريقة التي فهمها بها.
يظهر تحليل اللينيني لـ "وصايا أبريل" لعام (1917)، و"تكتيكاته ..." لعام (1905) (33) ومصادر أخرى، أنه في الواقع لم يكن لدى (Lenin) مفهوم يمكن من خلاله إخضاع سلوكه له بشكل أعمى. في الاشتراكية، رأى مرحلة ضرورية لا مفر منها من التنمية الاجتماعية، والتي ستحققها البشرية بالضرورة، لكن كل دولة ستأتي إليها بطريقتها الخاصة. وينطبق الشيء نفسه على مسار روسيا في الاشتراكية. حتى عام (1917)، لم يخلق (Lenin) مفهوما تقنيا كاملا عن انتقال روسيا إلى الاشتراكية، والذي كان سيعتمد عليه في سياسته والذي سيتم تعديله لاحقا وفقا للوضع المتغير. كان (Lenin) مخلصا لهدف حياته والذي هو بناء الاشتراكية في بلد واحد على الأقل، لكنه لم يكن عبداً لنظرياته السابقة، على الرغم من أنه تم سحقها بسلطة (Marx) وتراثه.
هدف (Lenin) المختار ذاتيا للحياة لم يتعارض مع الاحتمالات الموضوعية لتنمية المجتمع، وكان نشاط (Lenin) بأكمله خاضعا لهدف، وليس لـ"نبوءة" (كيف ستتحقق). ووفقا للتغيرات في حياة (Lenin)، تم تصحيح الاستنتاجات الخاطئة للأعمال السابقة، وتم استخلاص استنتاجات جديدة. ولكن كان هناك دائما، في جميع الأعمال، أحكام منفصلة لا تتعلق بمفهوم مستقر للتنبؤ الشامل للتنمية. المخطط الماركسي للمادية التاريخية ليس مفهوما، لكن فقط مخطط، شكل فارغ، خالي من محتوى تاريخي وواقعي محدد، أي أنها غير إنسانية (التاريخ هو تاريخ البشر، الإنسانية)، علاوة على ذلك، فإنها لا تمتلك السعة والنزاهة.
في ذلك الوقت، لم تستطع الأغلبية أن تقول أي شيء عن مصداقية هذه الأطروحة، التي تجاوزت المفهوم المعلن. تم تأكيد هذا النوع من الأطروحة المنعزلة أو دحضها بالتطور التاريخي، وأحيانا بعد أكثر من قرن. لم يخرج (Lenin) في عمله حول صياغة وحساب مهمة التنبؤ بتطور المجتمع، والتي هي أساس ظهور قوة مفاهيمه، بسبب الطبيعة المتغيرة لنظرته وتعليمه التاريخي الفلسفي. بالنسبة لـ(Lenin)، كان المستقبل مغلقا ذاتيا.
يعتقد الخبراء أن المعاصرين يجب أن يعترفوا بمزايا الثورة الاشتراكية وأن يشيدوا بـ(Lenin) كشخصية تاريخية، وأن يحللوا هذه الفترة بشكل موضوعي، وليس أن يشوهوه. يدرك البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون ثورتهم والحروب الأهلية كمعالم هامة في التاريخ، على الرغم من التناقضات التي تركتها على المجتمع. البعض في فرنسا مرضوا بسبب إرهاب اليعاقبة، وكثير من الأمريكيين غاضبون من أن (لينكولن) نفسه لكونه كان مالكا للعبيد، كما أن هناك أناسا غير راضين تماما عن (كرومويل). لكن لا أحد في العالم يتطوع لتشويه تاريخه، خاصة عندما يكون هناك أكثر من سبب للفخر.
يقول (Nikita Danyuk)(34) في ظل الظروف الصعبة للغاية التي حدثت في روسيا بعد أكتوبر (1917)، أظهر الاتحاد السوفييتي ليس فقط تفرده، ولكن أيضا أعلى كفاءة له. المبادئ التي على أساسها تم تطبيق نظام إدارة الدولة والاقتصاد والأمن وحتى الثقافة. أضحت روسيا دولة متخلفة ومتداعية بعد الحرب الأهلية الأولى، وهي فترة حرب دامية، وأصبحت في فترة قصيرة دولة قوية، بدأت في إملاء شروطها على الساحة الدولية، وخلقت بديل فعال وجذاب لتنمية الدولة والمجتمع. بدون الثورة الاشتراكية العظمى لشهر أكتوبر لم يكن هناك نصر في الحرب الوطنية العظمى.
لقد توقف التطور الزراعي للدولة الروسية. والإمبراطورية، وضعت حدا لتطور الصناعة. فبدون ثورة ومرسوم الأرض، لا يمكن لبلد ما أن يتواجد في عالم انتقلت فيه دول أخرى إلى مستوى تكنولوجي جديد ومتطور.
وهناك قول مشهور عن (Stalin)، "أننا متأخرون عن البلدان المتقدمة بخمسين إلى مائة سنة، وسنقوم إما بالجري هذه المسافة خلال (10) سنوات أو سنسحق". فالتغيير الأساسي في النظام الاجتماعي الاقتصادي هو نتيجة ثورة أكتوبر. هذه هي النتيجة الأساسية والأكثر واقعية لثورة أكتوبر.
لم يدمر "البلاشفة الدمويون" البلاد، فمع بداية القرن العشرين، كانت روسيا قد انشقت بالفعل، وكان هناك "شعبين": الطبقة الحاكمة من جهة ومن ناحية أخرى هناك 80 ٪ من الشعب تابعون. حتى أن هذين "الشعبين" يتحدثان بلغات مختلفة وبدا أنهما يعيشان في أوقات مختلفة، لذلك تخلفت القرية الروسية عن العالم في بداية القرن العشرين. وعلاوة على ذلك، فإن بعض المؤرخين يصفون هؤلاء الـ80% من الفلاحين بأنهم مستعمرة داخلية للإمبراطورية الروسية، والتي يمكن للأرستقراطية من خلالها أن تحافظ على مستوى معيشي عال.
أصبحت الثورة بمثابة حل للصراع من خلال أحداث تغيير جوهري في البنية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للبلد. بعد شهر فبراير، لم تكن الحكومة البرجوازية قادرة على الحفاظ على وحدة البلاد، وبدأ "السيادة الاستعراضية"، مع انتشار الفوضى، وانهيار الدولة. وعندها فقط ظهر المشهد لأول مرة، ولكنه كان ينمو بسرعة وهو مثل "هذا الحزب" أي الحزب الشيوعي.
نعم، في عام (1917)، لم يحدث تغيير في طريقة الحياة بعد، كما يذكر المؤرخ (Andrei Fursov). ولكن، بعد الاستيلاء الهادئ نسبيا على السلطة من قبل البلاشفة، كانت هناك فترة من الحرب الأهلية، هي فترة الدفاع عن الثورة والنضال ضد المعتدين (الذين أثاروا الحرب الأهلية بطرق عديدة).
يقول (Andrei Fursov): "منذ نهاية العشرينات فقط، بدأت عملية إعادة بناء المجتمع الاشتراكي بالفعل. والإضافة إلى ذلك، بعد عشر سنوات من ثورة أكتوبر، كان هناك صراع بين اليساريين العالميين الذين بدأوا الثورة في روسيا بحيث يمكن أن تصبح فتيلا للثورة العالمية، وفق قيادة البلاشفة، أناس مثل(Stalin)، من الذين شرعوا بالحاجة إلى بناء الاشتراكية في بلد معين.
وعندما فازت هذه القوى بنهاية العشرينات، بدأت بإعادة هيكلة المجتمع الاشتراكية بالفعل. ونتيجة لذلك، ظهر مجتمع معادي للنظام الرأسمالي، وهو النظام السوفييتي، الذي حل المشكلات التي لم تستطع حلها الأوتوقراطية لقرون. وأصبح الأشخاص الذين جاءوا "من أدنى" مصممين بارعين وقادة عسكريين وعلماء. وكانت نتيجة إعادة التنظيم هذه، التي قامت بها "الثورة الاشتراكية العظمى في أكتوبر"، وهي المجتمع السوفييتي. المجتمع الوحيد في التاريخ مبني على المثل العليا للعدالة الاجتماعية.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(30) كانت إصلاحات Stolypin الزراعية عبارة عن سلسلة من التغييرات في القطاع الزراعي في روسيا الإمبراطورية التي تم إنشاؤها خلال فترة (Pyotr Stolypin)، رئيس مجلس الوزراء (رئيس الوزراء). استندت معظم هذه الإصلاحات، إن لم يكن كلها، إلى توصيات من لجنة عُرفت باسم "مؤتمر الاحتياجات الخاصة بالصناعة الزراعية"، الذي عُقد في روسيا بين عامي 1901 و1903 خلال فترة تولي وزير المالية (Sergei Witte).
(31) Alexander Gavrilovich Shliapnikov ثوري شيوعي روسي، وزعيم نقابي، وشخصية بارزة في الحركة البلشفية، يعيش خارج روسيا لفترات طويلة منذ عام 1900. كان زعيم لإحدى حركات المعارضة الرئيسية داخل الحزب الشيوعي الروسي خلال عشرينيات القرن العشرين.
(32) قصر(Tauride) وهو مقر الدوما. مقر مجلس الدوما في الفترة من 1906 إلى 1917، الامبراطورة كاثرين الثانية قامت ببنائه لعشيقها، غريغوري بوتيمكين، الذي أقام فيه حفلات فخمة. وهو واحد من أكبر وأروع القصور التاريخية في سانت بطرسبرغ.
(33) وهو كتاب لينين المعنون: "تكتيكان للديمقراطية الاجتماعية في ثورة ديمقراطية". الذي أوضح فيه موقفه الذي ينتقد فيه تكتيك المناشفة خلال ثورة عام1905.
(34)Nikita Danyuk وهو الخبير الروسي نائب مدير معهد الدراسات الاستراتيجية والتنبؤات في جامعة الصداقة بين الشعوب في روسيا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن