مرّة تخيب ومرّة تصيب!

سليمان جبران
jubrans3@gmail.com

2019 / 1 / 30

سليمان جبران:.. مرّة تخيب ومرّة تصيب!
[من كتاب "ملفّات الذات"الصادر حديثا]
في دالية الكرمل عملت سنوات طويلة. حوالى عشرين سنة. قضيتُ فيها أجمل أيّام الشباب. ما زلتُ، حتّى في هذه الأيّام، بعد سنين طويلة، أمرّ في شوارعها فأحسّني ابن تلك القرية. تماما كما يشعر المرء إذ يعود إلى بلده. ألتقي بكثيرين، شباب وكهول، فيسارعون إلى تذكيري أنّي علّمتُهم. وهل أستطيع غير الموافقة، حتّى إذا كنتُ لا أذكرهم، ولا أذكر ما يروون لي من حكايات ونوادر ذلك الماضي السحيق؟
في الفترة الطويلة تلك في الدالية، عاصرنا أكثر من رئيس مجلس، وأكثر من مدير، وأكثر من مفتّش معارف أيضا. المدرسة نفسها غيّرت مع الأّيام مبناها وبنايتها أيضا. تحوّلت من مدرسة ابتدائية في جنوب القرية إلى مدرسة جديدة، إعداديّة ثانويّة، في موقع جديد شرقيّ القرية، بجانب الملعب الرياضي.
الحادثة التي بقيت معي، مطبوعة في رأسي، من تلك الأيّام، كانت سهرة للمعلّمين في "المحرقة". المدير الترشحاني قرّر الخروج من العمل في اعتزال مبكّر، قبل السنّ القانونيّة يعني. بعضهم قال إنّه اعتزل العمل لأسباب صحيّة، وآخرون أقسموا أنّ اعتزاله العمل كان زعلا. أيّا كان السبب، الرجل قرر الاعتزال، فلا أقلّ من سهرة حافلة، في "المحرقة" شرقيّ الدالية، لوداع مدير المدرسة العريق.
هكذا جمّعنا حالنا، معظم المعلّمين، لا أذكر من حضر ومن تغيّب، ولا من قام بكلّ التحضيرات لتلك السهرة، واتّجهنا إلى سهرة في "المحرقة". قمّة من قمم الكرمل الشرقيّة، تطلّ على الدنيا حولها. تصلح مقعدا للديّان يوم الدينونة!
سهرة من هذا النوع لا تكون ناشفة طبعا. العرق كان سيّد الاحتفالات في تلك الأيام. أبو غزالين، هل تذكرونه؟ لكن العرق في قعدتنا تلك كان خفيفا، أذكر. عرق الأربعين. فأخذنا نشرب ذامّين الأربعين، توّاقين إلى الخمسين. أثقل وأطيب في رأي جميع الشاربين. شربنا الكثير من عرق الأربعين. نشربه ونذمّه، مثل خبز الذرة، ظانّين أنه خفيف، لا يدير رأسك مهما تشرب منه. نشرب منه ونتحسّر على عرق الخمسين. لكن تبيّن لنا بالدليل القاطع أنّ الأربعين أيضا، إذا أكثرتَ منه، يدير الرأس كما يجب!
شربنا وأكثرنا من الشرب. عرق الأربعين خفيف، لكنّه عرق في آخر الأمر، والإكثار منه لا بدّ أن يذهب بالعقل، والاحتشام طبعا. حتّى المرء العاقل، إذا تناول الخمرة، يخلع وقاره وعقله عادة، فيصير مطربا. "لو مسّها حجر مسّته سرّاء"، ونحن بشر لا حجر. هكذا بدأنا الغناء أوّل الأمر، بصوت لا يعرف الغناء، ولا يصلح له. ثمّ انتقلنا إلى إلقاء الشعر. بعضه في الغزل، وأكثره في السياسة. التفتنا فإذا زميلة لنا على عينيها نظارة سوداء، في هذه السهرة البيضاء. غلطنا فقلنا للزميلة تلك مداعبين: ولماذا هذه النظّارات السوداء، مثل رجال المخابرات؟!
أحد المعلّمين المشاركين في السهرة لم يكن يتحمّلني واعيا، فكيف يتحمّلني، وقد أكثرت من عرق الأربعين، مطربا وشاعرا سياسيّا. ألم أذكر المخابرات في مزحتي تلك؟ معناه أنّي شتمتُ المخابرات الإسرائيلية، الشين بيت يعني. أضاف من كيسه قائمة طويلة عريضة بأسماء المشتومين، من شخصيّات وهيئات، وبعث بها في رسالة وارمة إلى مفتّش المعارف. شكوى رسميّة ضدّي، والتهمة كبيرة فعلا!
وصلت الشكوى المدجّجة بالتّهم الباهظة إلى مفتّش المعارف المسؤول عن المدرسة، فكان هذا مضطرّا إلى التحقيق الجنائي مع معلّم تجاوز حدوده، فما خلّى ولا بقّى. المفتّش المذكور من وادي عارة كان. مفتّش ضخم الجثّة أصلع. شوفته تخيف، لا مخبره لمن يعرفه. أرسلوا إليّ نسخة من الشكوى المذكورة، وعيّن المفتّش موعدا لقدومه المدرسة وإجراء تحقيق في هذه المخالفة الشنيعة. وهل يمكن المفتّش، موظّف المعارف، غير ذلك، فيعرّض نفسه هو أيضا للتحقيق والمساءلة؟
في اليوم الموعود شرّف المفتّش، بقامته الفارعة، وصلعته الواسعة، مدرستنا للتحقيق مع المعلّم المشاغب. جلس المفتّش في غرفة المدير، وأخذ في استدعائنا واحدا واحدا، لإجراء التحقيق الدقيق. دخل للشهادة أكثر من معلّم، وحضرتي طبعا. رويت للمفتّش/ المحقّق كل ما جرى في تلك الأمسية بالتفصيل. سألتُ المعلّمين الذين أدلَوا بإفادتهم فأخبروني أنّهم أفادوا بما كان، لا زيادة ولا نقصان. شكرتهم طبعا، وأنا واثق أنّ "الفسدة" الزاخرة تلك لن تكون سوى فسوة نسر. والمفتّش المحقّق سيكتشف حقيقة ما كان، فيبوء الفسّاد الوضيع بالذلّ والهوان!
المفتّش المحقّق سمع كلّ ما كان في تلك السهرة. سمع طبعا، من المعلّمين جميعهم، أنّ شيئا من التّهم الباهظة لم يحدث في تلك السهرة، وإنْ كان المشتكى يساريا فعلا، ألقى أشعارا يساريّة كثيرة عن العراق بالذات. لكنّ التهم التي نُسبت إليه كذب كلّها!
المفتّش المحقّق كنتُ بالصدفة أعرفه حقّ المعرفة. اشتركنا معا في درس في اللغة العربيّة في الجامعة العبريّة في القدس. لكنّي لم أسأله شيئا قبل زيارته مدرستنا والتحقيق. فضّلت أنْ "تأخذ العدالة مجراها"، لتظهر الدعاوى الكاذبة كلّها على حقيقتها.
في تلك الأيّام كنتُ أحْضر دروس اللقب الثاني في اللغة العربيّة في الجامعة العبريّة في القدس. في أحد الدروس، "قراءة في العربيّة اليهوديّة"، كان يشارك المفتّش ذاك أيضا. الدرس المذكور كان في الواقع درس قواعد. نقرأ نصوصا بأحرف عبريّة، لكنّها نصوص عربيّة من الحياة، متأثّرة إلى أبعد الحدود باللغة المحكيّة، لغة الحياة. باختصار: درس قواعد في جوهره، وإن اتّخذ له اسما مضلّلا، "قراءة في العربيّة اليهوديّة".
المفتّش المذكور كان يحاول في الدرس، أوّل الأمر، الابتعاد عنّي ما أمكن. بل يجلس بعيدا عنّي ما استطاع في غرفة الصفّ أيضا. لم آخذ ولم أعط حيال سلوكه الغريب ذاك. لعلّه يخاف من الجلوس إلى جانبي، أو يترفّع عنه. لكنّه وجد مع الأيّام أنّ جلوسه إلى جانبي لن يضرّه، بل على العكس ربّما. خصوصا أنّه لم يكن يجيد العبريّة ومصطلحاتها اللغويّة الدقيقة. هكذا صرنا زميلين قريبين. لا أقول أصبحنا صديقين. مع ذلك كنّا نتبادل الأحاديث العامّة أحيانا.
بعد قدومه المدرسة، وإجرائه التحقيق الذي فُرض عليه، سألتُه حين التقينا في القدس:
- حقّقتَ في التهم المنسوبة إليّ. قمتَ بواجبك، أعرف، ولا ألومك طبعا. لكنْ قل لي بربّك: تبيّن لك أنّ كلّ ما ذكره الأستاذ كذب في كذب. رأيتَ بعينك، وسمعتَ بأذنك. ماذا ستكون النتيجة؟ ماذا ستفعلون بفسّاد كاذب؟
- لا يعملون معه شيئا. طمّن بالك.
عرفتُ يومها، وأعرف اليوم طبعا، أنّ الفسّاد لا يعاقبونه، حتّى إذا كانت النقلة التي أوصلها كاذبة، وغاياتها شخصيّة .. من باب مرّة تخيب ومرّة تصيب!
jubrans3@gmail.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن