اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم

علاء هادي الحطاب
alaahataab@gmail.com

2018 / 12 / 16

اطروحة بشأن جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم

علاء هادي الحطاب

توطئة :-
تعد السيادة من الأفكار الأساسية التي أسس عليها صرح وبنيان القانون الدولي المعاصر، وقد مرت نظرية السيادة بمراحل متعددة ، فبعد أن كان نطاق السيادة الدولة على شعبها وإقليمها مطلقا، فإن تطور العلاقات الدولية على مر الزمن حمل معه تعديلا على هذا النطاق بصورة تدريجية، فقبل البدء في تحليل اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعلوم، لزاما علينا ان نعرف السيادة وخصائصها وتطورها سيما بعد انتهاء الحرب الباردة وانتهاء نظام القطبين، كما نعرف كفهوم التدخل في بعديه الانساني والعكسري تحت ذرائع شتى في النظام الدولي الجديد واثر ذلك في مفهوم السيادة.
اولا/ مفهوم السيادة :-
عرفت الموسوعة السياسية السيادة بأنها " السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة، وميزة الدولة الاساسية الملازمة لها والتي تتميز بها عن كل ما عداها من تنظيمات داخل المجتمع السياسي المنظم، ومركز اصدار القوانين والتشريعات والجهة الوحيدة المخولة بحفظ النظام والامن وبالتالي المحتكرة الشرعية الوحيدة لوسائل القوة ولحق استخامها لتطبيق القانون"(1).فهمي تعد " السيادة وضع قانوني ينسب للدولة عند توافرها على مقومات مادية من مجموع أفراد وإقليم وهيئة منظمة وحاكمة، وهي تمثل ما للدولة من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج، ومن مقتضيات هذا السلطان أن يكون مرجع تصرفات الدولة في مختلف شؤونها إرادتها وحدها"(2).
وكان المفكر الفرنسي جان بودان في طليعة الذين عالجوا المواضيع المتعلقة بالسيادة فقد عرفها" بأنها السلطة العليا على المواطنين والرعايا والتي لا تخضع للقوانين". نجد أن عددا كبيرا من الفقهاء اتفقوا على أوصافها: واحدة، لا تتجزأ ولا تقبل التصرف وغير خاضعة للتقادم المكتسب أو للتقادم المسقط(3). ويمكن الاعتماد على تعريف محكمة العدل الدولية في قضية مضيق "كورفو" سنة 1949 في أن "السيادة بحكم الضرورة هي ولاية الدولة في حدود إقليمها ولاية انفرادية ومطلقة، وان احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة يعد أساسا جوهريا من أسس العلاقات الدولية"(4).
خصائص السيادة:-
وتتميز سيادة الدولة بمجموعة من الخصائص، فهي أصلية غير مشتقة من سلطة أخرى، وهي مستمرة ودائمة رغم تغير أشخاص الحكم، وتتميز سيادة الدولة بأنها سيادة عليا، لا يوجد أعلى منها، أو حتى مساوٍ لها، في التنظيمات الأخرى ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي داخل الدولة إن السيادة بوصفها سلطة عليا، لا يعني بأي حال أن هذه السلطة مطلقة، ولا يتعارض ـ في الوقت نفسه ـ ولا يتعارض مع خضوعها لمبدأ سيادة القانون، ولا يبرر للدولة عدم احترام الحقوق والحريات، أو التدخل في مصالح الدول الأخرى، وهذا يعني أن مفهوم السيادة يجب التعامل معه بحذر شديد، ويجب أن تتم ممارسته بدقة، فهو قد يفتح باب الاستبداد والطغيان، وقد يسمح للدول الأخرى بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول(5).
اشكاليات السيادة:-
يثير مفهوم السيادة العديد من الإشكاليات القانونية، وهو يرتبط بضرورة تسليم الدولة بعدد من المبادئ أو القواعد العامة الناظمة للعلاقات الدولية، ويأتي في مقدمتها مبدأ المساواة بين الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، إلا أن هذه المبادئ تثير العديد من الإشكالات فيما يتعلق بتطبيق مفهوم السيادة.
1- سيادة مطلقة أم سيادة مقيدة :- فقد مر مفهوم السيادة، خاصة في علاقته بحقوق الإنسان بثلاث مراحل: بدأت المرحلة الأولى بمطالبة الشعوب بالسيادة والاستقلال، وتركزت هذه المرحلة في حقبة تصفية الاستعمار، أما المرحلة الثانية، فهي بعد حصول الدول على استقلالها، فكانت السيادة لحماية هذه الدول من التدخل الخارجي، في ممارستها لسيادتها، وتأتي المرحلة الأخيرة لتعبر عن تطور القيود المفروضة على سيادة الدولة، ولعل أهم هذه القيود هو احترام حقوق الإنسان وإخراجها من السلطان الداخلي للدول، اذ يقوم المفهوم التقليدي للسيادة على استئثار الدولة بممارسة الاختصاصات والصلاحيات المتصلة بشؤون إقليمها كلّها دون تقييد، وبشكل مستقل عن أي ضغط، أو تأثير من أية قوة دولية.
2- المساواة في السيادة: تتمثل السيادة بالمعنى القانوني الدولي في مجموعة من الحقوق والالتزامات التي تسري بصورة متساوية على الدول جميعها، وبما يعني أن جميع أعضاء المجتمع الدولي متساوون أمام القانون الدولي ، ومن هنا انبثق مبدأ المساواة في السيادة بوصفه المظهر القانوني للسيادة.
3- مبدأ عدم التدخل والحق في التدخل: إن الصلة بين المظاهر الداخلية والخارجية للسيادة بمفهومها التقليدي، تتمثل في مبدأ عدم التدخل بوصفه موجهاً للعلاقات الدولية، أما الحق في التدخل فهو من المفاهيم التي أنتجها القانون الدولي في تطوره المستمر لمواكبة تطور العلاقات الدولية التي أصبحت تقوم على مفهوم السيادة المقيدة(6).
تطور مفهوم السيادة:- ( نطاق السيادة و المتغيرات الدولية الراهنة)
مرت نظرية السيادة بمراحل متعددة، فبعد أن كان نطاق سيادة الدولة على شعبها وإقليمها مطلقا، فإن تطور العلاقات الدولية على مر الزمن حمل معه تعديلا على هذا النطاق بصورة تدريجية، إن السيادة الوطنية في الوقت الراهن اهتزت، لكونها عرفت العديد من التحديات على صعيد العديد من القطاعات سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، سواء أرادت الدول ذلك أم أبت، مما يجعلنا نتساءل حول أوجه التأثير على مظاهر سيادة الدول خلال فترة النظام العالمي الجديد.
1- العولمة واختراق السيادة الوطنية:- لعل أبرز التدفقات العبر- قومية التي يعرفها النظام الدولي الراهن هي ظاهرة العولمة، هذه الظاهرة التي تعني الاتجاه المتزايد نحو تدويل السلع والأفكار ورؤوس الأموال على مستوى العالم الأرحب. كما تعني من الناحية الموضوعية تجاوز الو لاءات القديمة، كالولاء للوطن أو الأمة أو الدين وإحلال ولاءات جديدة محلها، وفي هذا السياق، فالعولمة من شأنها أن تؤدي إلى تراجع عام في دور الدولة وانحسار نفوذها، وتخليها عن مكانتها شيئا فشيئا لمؤسسات أخرى تتعاظم قوتها يوما بعد يوم، يتعلق الأمر بالشركات العملاقة متعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية العالمية(7).
المؤشرات العديدة على التراجع الكبير في سيادة الدولة القومية، وسلطتها، جعل الكثير من الكتاب في الشمال والجنوب يقولون بفكرة تلاشي الدولة بفعل العولمة، فجلال أمين مثلا، ورغم إثارته إلى ظاهرة التغير المثمرة لوظائف الدولة على مر العصور يؤيد في تحليله فرضية اختفاء الدولة لمصلحة الشركات متعددة الجنسية لأن الحكومات أصبح من الصعب عليها ضبط الأنشطة التجارية للشركات داخل حدود بلادها، حيث أن هذه الشركات قد تلجأ إلى عملية " الموازنة التنظيمية"، فإذا كانت شركة ما تعارض سياسة حكومة معينة فبإمكانها التهديد بالحد من إنتاجها المحلي إيقافه وزيادة إنتاجها في دولة أخرى أو حتى الإطاحة بالنظام السياسي القائم(8)، لقد تمكنت الشركات المتعددة الجنسيات من القفز فوق الحدود التي تفصل بين الدول والأقطار وإزالة الحواجز الجمركية، وتغلبت على كل القيود التي تحول دون تدفق المعلومات والبيانات فسلبت بذلك الكثير من سلطات الدول التي كانت تمارسها ضمن حدودها السياسية، التي هي من أهم مقومات سيادتها الوطنية، فأصبحت هذه الدول اليوم عاجزة عن تطبيق ما كانت تقوم به بالأمس من نفوذ وصلاحيات على أرضها(9).
ثانيا/ مبدأ عدم التدخل والحق في التدخل:-
أ‌- مبدأ عدم التدخل: إن مبدأ عدم التدخل يعني عدم استخدام الإكراه أو المساس بالحقوق السيادية من قبل دولة ما ضد دولة أخرى، فالتدخل لا يقتصر على استخدام القوة المسلحة، إنما جميع أشكال الضغط السياسي والاقتصادي والمالي.... إلخ، لقد درج أغلب الفقه الدولي على التمييز بين نوعين لعدم التدخل: أولهما عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وثانيهما عدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون التي تعد من صميم السلطان الداخلي للدول الأعضاء(11).
1- النوع الأول نجد أساسه القانوني في الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي نصت على أن (يمتنع أعضاء المنظمة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال سيادة الدولة في ظل الحماية الدولية لحقوق الإنسان القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي والاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
2- أما النوع الثاني: فنجد أساسه في نص الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي تنص على أنه (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع). إن مبدأ عدم التدخل بنوعيه له أهمية كبيرة في ميثاق منظمة الأمم المتحدة، كونه أحد المبادئ الأساسية التي توجه نشاط المنظمة وتحكم العلاقات الدولية، فإذا كان وفقاً للنوع الأول يقوم على رفض استخدام القوة من قبل دولة تجاه دولة أخرى لتحقيق ضمان احترام حقوق الإنسان، فإن النوع الثاني كذلك قام بداية على اعتبار حقوق الإنسان من السلطان الداخلي للدول بما يعني عدم جواز تدخل منظمة الأمم المتحدة لحمايتها، إلا أنه مع تطور العلاقات الدولية والقانون الدولي، بدأت المنظمة تنظر إلى انتهاكات حقوق الإنسان بعيداً عن مفهوم السلطان الداخلي للدول
ب‌- الحق في التدخل: إن مبدأ عدم التدخل له أساس صلب بوصفه دفاعاً عن مبدأ السيادة، ولاسيما أن مؤيدي السيادة لا ينظرون إليها كرخصة لارتكاب التجاوزات أو الأفعال القمعية في الداخل، وإنما كحماية لأفراد المجتمع وجماعاته من السيطرة الخارجية، فالدولة ذات السيادة هي الدولة الحامية لأمن رعاياها وأملاكهم كما عند (هوبس)، أو هي حارسة لحقوقهم في رأي (لوك وميل)، أو هي التعبير عن إرادتهم الجماعية عند روسو إلا أن منتقدي السيادة وعدم التدخل لا يرون في السيادة خيراً مطلقاً، فالسيادة لها قيمة كبيرة في حماية الشعب من التعسف والحكم الأجنبيين، والدولة التي تدعي السيادة تستحق الاحترام فقط طالما تحمي الحقوق الأساسية لرعاياها، فمن حقوقهم تشتق سيادتها وعندما تنتهكها يسقط ادعاء الدولة سيادة الدولة في ظل الحماية الدولية لحقوق الإنسان بالسيادة، خاصة في ظل ظروف توجب إخضاع الخير الأخلاقي للسيادة لضرورات أرقى تخص الإنسانية العالمية، في عالم يهدد فيه الاقتتال والعنف الداخليان بالانتشار سريعاً إلى خارج الحدود، في حقبة التسعينيات من القرن الماضي تقاطعت التطورات الدولية باتجاه انحسار مبدأ عدم التدخل، مع تدخل الدول منفردة أو مجتمعة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لدواعي حقوق الإنسان، و بدأ الحق في التدخل يؤسس على قاعدة قانونية انطلاقاً من الربط بين انتهاكات حقوق الإنسان وتهديد السلم والأمن الدوليين، بما يسمح لمجلس الأمن ممارسة صلاحياته في حفظ السلم والأمن الدوليين، وفق الفصل السادس والسابع من ميثاق المنظمة. وواضح من نص المادة 34 من الميثاق أنه لا يشترط وجود نزاع بين دولتين لتهديد السلم العالمي بل إن وجود حالة من انتهاك حقوق الإنسان يمكن أن يعدها مجلس الأمن تهديداً للسلم والأمن الدوليين(12).
ثالثا/ اثر التدخل في السيادة :-
بزيادة التعاون الدولي يمكن أن نؤكد دون خوف من الخطأ أن المجال الخاص للدول يتقلص باستمرار كلما انخرطت الدول في علاقات منظمة قانونيا مع الأشخاص الآخرين في المجتمع الدولي كالتزامها بالاتفاقيات المتعددة الأطراف سواء فيما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان أو حفظ السلام أو تحقيق مبادئ الاعتماد المتبادل، وعادة ما تكون الدولة مضطرة بمقتضى التزامها الى التنازل عن بعض الاختصاصات التي كانت تندرج سلفا ضمن المجال المحفوظ، وذلك لفائدة مؤسسات دولية أو تنظيمات إقليمية، وهي في هذه الممارسة لا تنقص في الواقع من سيادتها بقدر ما تعبر عن تلك السيادة(13). كما أن العديد من القضايا المرتبطة بالبيئة والصحة والاقتصاد التي كانت تحسم في إطار الاختصاص الداخلي لكل دولة أو حتى في الإطار التقليمي، أصبحت أهم تلك القضايا اليوم تتجاوز حدود الدول مثل حماية البيئة وندرة المياه واستفحال المجاعة والأمراض الفتاكة، وتوحيد الجهود بشأن هذه القضايا ومثيلاتها أصبح يفترض اتخاذ تدابير لن تكون فعالة إلا إذا اتخذت بشكل جماعي.
ومن جهة أخرى نجد أن "كوفي أنان" الامين العام الاسبق للامم المتحدة في المشروع الذي طرحه على الجمعية العامة في دورتها (54) يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها، وبهذا الطريق يكون "أنان" قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة.
يأخذ مبدأ حق التدخل نوعين من التدخل هما :-
أ‌- التدخل الإنساني وإشكالية السيادة:
" التدخل الإنساني" intervention humanitaire أو التدخل لأغراض إنسانية" وقد نظر إلى مبدأ التدخل الإنساني في ذلك الوقت باعتباره إحدى الضمانات الأساسية التي ينبغي اللجوء إليها لكفالة الاحترام الواجب لحقوق الأفراد الذين ينتمون إلى دولة معينة ويعيشون- على الرغم من ذلك- على إقليم دولة أخرى، أما الآن وبالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة، فقد أضحت المسألة الخاصة بالحماية الدولية لحقوق الإنسان- بصرف النظر عن الانتماءات الوطنية أو العرقية أو الدينية أو السياسية أو غيرها- تمثل أحد المبادئ الأساسية للتنظيم الدولي المعاصر، والحق، أنه إذا كانت الضمانات الدولية لحقوق الإنسان التي قررتها المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات- الصلة- ومنها الضمانة المتمثلة في إمكان تدخل المجتمع الدولي لكفالة الاحترام الواجب لهذه- الحقوق- قد ظلت كمبدأ عام بعيدة عن مجال التطبيق الفعلي خلال العقود الأربعة الأولى من حياة الأمم المتحدة، غلا أن المشاهد هو أن الضمانة المتعلقة ب" إمكانية التدخل الإنساني" قد أضحت مؤخرا على قائمة الإجراءات التي يلجأ إليها لفرض مثل هذا الاحترام.
وقد أصدرت الجمعية العامة في سنة 1988 القرار 131/43 المتعلق " بالمساعدة الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية والحالات الاستعجالية المشابهة". وقد اعتبرت الأمم المتحدة ضمن هذا القرار " أن بقاء الضحايا بدون مساعدة يمثل تهديدا لحياة الإنسان ومساسا بالكرامة الإنسانية"، ومن ثم فإن الاستعجال يحتم سرعة التدخل مما يجعل حرية الوصول إلى الضحايا شرطا أساسيا في تنظيم عمليات الإسعاف، وهذا يقتضي أن الوصول إلى الضحايا لا ينبغي أن تعرقله لا الدولة المعنية ولا الدول المجاورة، إلا أن القرار أكد على السيادة والوحدة الترابية والوحدة الوطنية للدول"، كما اعترف بأنه يقع على عاتق الدول أن تعتني بضحايا الحوادث الطبيعية والحالات المشابهة التي تقع فوق إقليمها"، وبالتأكيد فإن التدخل الإنساني لا يؤثر بشكل كبير على السيادة عندما يقتصر على التزويد بالمواد الغذائية والطبية أو حتى إيفاد بعض المدنيين لمعالجة أوضاع الكوارث المستعصية، إلا أن الأمر يختلف عندما يتعلق بتدخل قوة مسلحة لمنع بعض خروق حقوق الإنسان(14)، وقد شكلت حرب كوسوفو مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، فقد أدت إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، أو الدخول على العكس من ذلك في مرحلة جديدة من الفوضى في العلاقات الدولية، وقد تذرع قادة حلف شمال الأطلسي بأن حرب كوسوفو هي حرب أخلاقية لأن الهدف منها هو القضاء على سياسة التطهير العرقي في كوسوفو بهزيمة الرئيس الصربي، ولأنه يتعين على منع الحكام الدكتاتوريين من ارتكاب الأعمال الوحشية حتى يستمروا في السلطة. فهذه الحرب حسب تعبير "طوني بلير" ليست حربا من أجل الأرض، وإنما هي حرب من أجل القيم، لكن الحرب الأخلاقية مفهوم نسبي ينطوي على ازدواجية المعايير، فالحلف الأطلسي و الولايات المتحدة الأمريكية لم يفكران بالتدخل في بلدان أخرى رغم وجود اعتبارات مماثلة.والأمثلة على ذلك عديدة ومنها إبادة الجنس البشري بأبشع الصور في رواندا وسيراليون وليبيريا وأنغولا والكونغو( زايير سابقا). ولا يكترثان لما حل ويحل ببعض الشعوب من تدمير وتشتيت كالشعب الفلسطيني المحتل(15) .
ب‌- خرق السيادة بدعوى مكافحة الإرهاب:
قد أثارت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 تساؤلات عديدة حول مسألة التدخل بدعوى مكافحة الإرهاب إثر الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك اليوم ارتأت أمريكا أنها تعتبر نفسها في حالة حرب بسبب الاعتداء الذي وقع عليها، وأنها ستقوم بالرد دفاعا عن نفسها، غير أن أحد فقهاء القانون الدولي، وهو في ذات الوقت عضو ورئيس سابق للجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، سارع إلى القول بعد أيام معدودة على وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001 بأن الأمر لا يتعلق بالحرب، ولذلك فإن هذه الهجمات باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها تشكل بدون شك تهديدا للسلم والأمن الدوليين كما أكدت ذلك قرارات مجلس الأمن*، غير أن تأكيد القرار على حق الدول في ممارسة حق الدفاع عن النفس ربما ترك الباب مفتوحا لتبرير ما أعلنته الولايات المتحدة عن الحرب على الإرهاب بالأسلوب الذي ارتأته، على الرغم من نص القرار على مبدأ ممارسة حق الدفاع عن النفس ينبغي أن تكون بموجب الميثاق.
غير أن العمليات العسكرية للولايات المتحدة المنفردة أو بالاشتراك مع القوت المسلحة التابعة للدول الأخرى في التحالف العسكري ضد الإرهاب، لم تخضع لأي تحديد زمني أو لأي رقابة من قبل مجلس الأمن، وهما شرطان جوهريان من شروط الدفاع الشرعي بحسب مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة. لقد تم إضفاء صفات الحرب العالمية على الحرب الجديدة ضد الإرهاب. وحسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي "دونالد رامسفيلد"، لن تنتهي هذه الحرب باحتلال منطقة أو بانهزام قوة عسكرية معادية، لأنها تتطلب عملية ضبط سياسي وأمني واستخباري على المدى الطويل وتحقيق الشفافية في الأنشطة السياسية والاقتصادية والمالية لجميع الدول وهو ما يعني تجاوز لجميع المكتسبات التي حققها مبدأ السيادة القانونية للدول وخاصة المستضعفة منها، على امتداد قرون عديدة بوصفه ركنا جوهريا في القانون الدولي(16).
إن الحرب على الإرهاب هي سابقة خطيرة في العلاقات الدولية من حيث إنها تعطي الولايات المتحدة وحلفائها فرصة ابتداع شرعية دولية جديدة موازية وبديلة عن شرعية الأمم المتحدة، فهذه الشرعية الجديدة المزعومة ستفتح الباب على مصراعيه أمام أي تدخل بدعوى الدفاع عن المبادئ أو المحافظة على المصالح تحت ذريعة محاربة الارهاب، وفي التواجد الدائم في منطقة مصالح حيوية وإستراتيجية بالنسبة لأية مواجهة محتملة مع القوى الكبرى الأخرى كروسيا والصين أو مع القوى الإقليمية المجاورة كإيران وباكستان وافغانستان، وهي بالإضافة إلى ذلك مقاربة تنطوي على صياغة جديدة لمبدأ التدخل الذي تتحصن وراءه الدول الصغيرة لحماية سيادتها الوطنية واستقلالها وبحيث يتم إضفاء المشروعية على التدخل الجماعي من خلال استثناء الحرب على الإرهاب من قاعدة تحريم استخدام القوة، ومن الخضوع للقيود والضوابط التي يفرضها القانون الدولي وذلك بدعوى ممارسة الحق في الدفاع الشرعي بصورة جماعية.

الهوامش
1- د. عبد الوهاب الكيالي واخرون، الموسوعة السياسية،ج3 ،ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2015، ص356.
2- د.علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، منشأة المعارف الإسكندرية، 1995، ص103.
3- ريمون حداد، العلاقات الدولية، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص 273.
4- عبد القادر القادري، القانون الدولي العام، القاهرة، مكتبة المعارف، الرباط، 1984.
5- د. عبد الوهاب الكيالي واخرون، الموسوعة السياسية، مصدر سبق ذكره، ص 356-357.
6- د. أحمد سرحال، قانون العلاقات الدولية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة 2000 ، ص 127.
7- د. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية الراهنة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طبعة 2003 ، ص، 98.
8- د.جلال أمين، العولمة والدولة، في أسامة أمين الخولي(تحرير) ، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998 ، ص: 157-160.
9- محمد سعد أبو عامود، العولمة والدولة، السياسة الدولية، عدد 161 يوليوز 2005 ، ص، 203.
10- ثائر كامل محمد ، إشكاليات الشرعية والمشاركة وحقوق الإنسان في الوطن العربي ، مجلة المستقبل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ـ العدد 251 ـ 1 /2000 ـ ص122 .
11- سعيد الصديقي، حقوق الإنسان وحدود السيادة الوطنية، منشور في السيادة والسلطة، الآفاق الوطنية والحدود العالمية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006ـ ص104.
12- د. محمد تاج الدين الحسيني، المجتمع الدولي وحق التدخل، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، الرباط، العدد 18، ص140.
13- د.محمد تاج الدين الحسيني، المرجع السابق، ص161.
14- د. عبد الواحد الناصر، حرب كوسوفو، الوجه الآخر للعولمة، سلسلة كتاب الجيب، العدد 7، منشورات جريدة الزمن، الرباط، أكتوبر 1999 ،ص47وما بعدها.
15- د.أمين مكي مدني، التدخل والأمن الدوليان، حقوق الإنسان بين الإرهاب والدفاع الشرعي، المجلة العربية لحقوق الإنسان، المعهد العربي لحقوق الإنسان، تونس، العدد 10 / يونيو 2003 ، ص، 113-114.
16- د. عبد الواحد الناصر، مصدر سبق ذكره، ص 52.
* أنظر على سبيل المثال، قرار مجلس الأمن رقم 1368 الصادر في 12 سبتمبر 2001.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن