الأسئلة وحدها هى المبصرة

محمد السعدنى
elsaadani5@gmail.com

2018 / 12 / 15

تحلقوا كعادتهم مساء كل خميس حول طاولة فى ركن دافئ يطل من خلف زجاج سميك على شط الاسكندرية وقد لفحه هواء عاصف وموج متلاطم فتماوجت صورته تحت مطر منهمر لشتاء جاء عفياً ومبكراً. هم مجموعة من المثقفين راحوا يتداولون فى أحوال الناس والدنيا قبل أن يتطرق بهم السياق إلى ماراح يقصه أحدهم وهم منصتون، تملأهم الدهشة ويؤرقهم أمر ذلك الفتى الذى ذهب لمباراة فى الذكاء والمعلومات والفطنة، فإذا به يتحول أضحوكة فى نظر الآخرين ممن تابعوا حكايته فى مسرح اللعبة وعلى الهواء مباشرة، وكذلك فى نظر هذا الرهط من المثقفين الذين راحوا يتناقلون حكايته بشئ من الخفة والحماقة والغفلة، إذ في أحد اختبارات الذكاء سؤل الفتى أسئلة كان عليه إجابتها من خيارات متعددة، كما فى برنامج "من يربح المليون"، السؤال الأول: كم سنة استمرت حرب المائة عام ؟ أ‌- 116، ب- 99، ج- 100، د- 150. فكر الفتى كثيراً ثم اختار تخطي هذا السؤال لعدم تمكنه من إجابته، وانتقل إلى السؤال الثاني :أين تصنع قبعات بنما؟ أ‌- البرازيل، ب‌- تشيلي، ج- بنما، د‌- الاكوادور. واختار الفتى أن يستعين بصديق. السؤال الثالث :في أي شهر يحتفل الروس بثورة أكتوبر؟ أ‌- يناير، ب‌- سبتمبر، ج‌- أكتوبر، د‌- نوفمبر، لم يستطيع الفتى الإجابة وطلب مساعدة الجمهور. السؤال الرابع :أي هذه الأسماء هو الاسم الأول للملك جورج السادس؟، أ‌- ون، ب‌- ألبرت، ج‌- جورج، د‌- مانويل. وهنا طلب حذف إجابتين وبعد جهد جهيد توصل للإجابة. السؤال الخامس :حيوان أخذت منه جذر الكناري اسمها؟ أ‌- طائر الكناري، ب- الكنغر، ج- الجرو، د‌- الفأر. وعندها لم يستطع الفتى اكمال المسابقة وانسحب. بالطبع لم يصفق له أحد بل شيعوه بالضحك والهمهمة والسخرية، ولعلك أنت أيضاَ تشاركهم الآن أساهم لغفلة الفتى وتواضع معارفه وذكائه، وقد تصور الجميع – ولعلك الآن منهم - أن الأسئلة رغم بساطتها كانت غبية تحمل إجاباتها فى طياتها. وهنا الخدعة والمصيدة، ولعلها المغزى من الحكاية كلها.
وقبل أن تتسرع قارئئ العزيز كما الآخرين فى الحكم علي الفتى وتورط نفسك فيضحك الناس منك وعليك، دعنى أسوق لك الإجابات الصحيحة، فحرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا دامت 116 سنةَ مِنْ 1337 إلى 1453، وقبعات بنما تصنع بالفعل في الإكوادور، بينما يحتفل الروس بثورة أكتوبر في 7 نوفمبر، والاسم الأول للملك جورج هو ألبرت، أما جذر الكناري فقد أخذت اسمها من الجرو حيث أن اسمها اللاتيني يعنى جذر الجراء. ولعلك الآن عرفت كيف أنقذتك من نوازع النفس الأمارة بالسوء وكبرياء الجهل وجرثومة التخلف بالتعالى كذباً وبهتاناً على الآخرين بتصور أنك وحدك تملك الحقيقة المطلقة. ولعل كثيرين منا، لولا ذكرت لهم الاجابات لوقعوا فى مصيدة الاستسهال والتذاكى وخرافة المعرفة، والشعور بأن كل منهم "أبوالعريف" الذى أتى بمالم يستطعه الأوائل، وهو سلوك ممجوج لايجر على صاحبه إلا سخرية الجميع والتندر على حماقته وغفلته، وربما تسبب ذلك فى تداعيات أخرى، إذ لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو يكون وحده الذى يعرف كل شئ. ومن قال لا أعرف فقد أفتى، هكذا علمنا تراثنا الفكرى الرشيد: أن تقل خيراً أو لتصمت. لا تتسرع في الحكم على أي شيء وكل شئ، فالحياة علمتنا أن أكثر الناس سطحية وفشلاً هم أولئك الذين يحسبون أنهم أذكى من كل الناس، وغالباً هم الأخسرون أعمالاً بينما يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
الشاهد هنا، أن أصحابنا المثقفين فى منتداهم الشتوى على شاطئ الإسكندرية قد فاتهم ما شرحته لك منذ قليل، فتعجلوا فى الحكم على الفتى كما فعل أغلب من عرفوا قصته، ولعل مرد ذلك شعورهم الواهم بأنهم ملاك الحقيقة المطلقة، وحدهم من يعرفون ووحدهم من يحكمون، ووحدهم من يوزعون صكوك العلم والثقافة والمعرفة، وفى ذلك واحدة من أكبر مثالب ثقافتنا االسيارة "التيك أواى" المعلبة بغير روافد أو أصول، إلا الادعاء وذهان المعرفة "أى توهم المعرفة"، يستوى هنا بسطاء شعبنا الطيب ونخبه وحكومته ووزراءه وسياسيوه، الكل "أبوالعريف" والحقيقة أن أغلبهم الأعم لا يغدو أن يكون "أبو جهل" ذلك أن أغلبنا لايقرأ ولا يتعلم، يعيش كما ببغاء يردد كل مايسمعه من مسطحى العقول المفتقدين لكل معنى. والأمر هنا لا يصح معه التعميم، إذ هو نسبى بدليل أن فتانا كان فطناً لخدعة الأسئلة فتروى وحاول جهده ألا يقع فى مصيدة التسرع والارتجال والفتوى دون علم، ولم يشأ أن يجرب إجابات تبدو له عمياء، فلعله لفطنته كان يعرف أن الأسئلة وحدها هى المبصرة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن