حُراس الفضيلة، وفستان رانيا يوسف

عبد الغني سلامه
sabdelghani@hotmail.com

2018 / 12 / 3

في العام 2009 جرت مباراة في كرة القدم بين منتخبي مصر والجزائر، حينها، وبإيعاز من النظام، انشغل الإعلام المصري بالمباراة لفترة طويلة.. فأبرز المتابعة الحثيثة للرئيس نفسه، وتصدر الموضوع عناوين الصحف والمجلات، ونشرت عشرات المقالات، وإذيعت عشرات المقابلات مع محللين رياضيين وسياسيين، حتى صارت المباراة حديث الجماهير وموضوعهم الأهم.. في تلك الحقبة، التي سبقت ثورة يناير، وما سمي بالربيع العربي، كانت الأوضاع الداخلية في مصر تشهد توترا عاليا، فقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية، وعمَّ الغلاء، وفاحت روائح الفساد في الكثير من القضايا، التي كانت تنتهي عند رأس النظام، وابنه جمال مبارك، المنشغل بعقد الصفقات المريبة.. لم يجد النظام وقتذاك وسيلة أفضل من إلهاء الشعب، وإبعادهم عن قضاياهم المصيرية، والتغطية على ملفات الفساد.. أفضل من كرة القدم.. وبالفعل نجح في ذلك، ولو لفترة مؤقتة..

اليوم يتكرر المشهد، ولكن بصورة مختلفة، فقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية والأمنية والمعيشية في مصر على نحو غير مسبوق، والنظام ينتظر الفرصة المناسبة لإشغال الناس في قضية هامشية تنسيهم سوء أحوالهم، وتبعدهم عن دائرة الفعل الحقيقي تجاه ما يدور حولهم، وما يحيط بهم من "بلاوي" ومصائب.. إلى أن ظهرت الممثلة رانيا يوسف بفستانها المثير..

على الفور، تقدم أربعة محامين ببلاغ إلى النائب العام، ضد الفنانة رانيا، بسبب ظهورها بشكل غير لائق في ختام مهرجان سينمائي، وهو ما اعتبروه جريمة ارتكاب فعل فاضح.. ولم يتأخر الجمهور في التفاعل مع القضية، فقد امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بصور الفستان، وانهالت التعليقات، والشتائم والتحليلات، بين من يعتبرها حرية شخصية، ومن يراها فسقا وفجورا سيقود المجتمع نحو الكارثة!!

هؤلاء المحامون، إما أنهم باحثون عن الشهرة، وإما أنّ جهات حزبية دفعتهم إلى ذلك (بأجور مجزية)، انطلاقا من فهمها الأيديولوجي الخاص للفضيلة والأخلاق، وتفسيرهم الحصري للدين.. أو أن النظام فعل ذلك، للأسباب التي ذكرناها سابقا.. في كل الحالات، نسي وتناسى أولئك المحامون (ومعهم جماهيرهم المندفعة) كل قضايا البلد، التي لم يتقدموا بشأنها بأي بلاغ..

تناسوا جزيرتي صنافير وتيران اللتان بيعتا للسعودية، ومشروع تطوير قناة السويس المزمع طرحه للإمارات، وموجة الغلاء التي طالت كل شيء، وانهيار الجنيه المصري، والبطالة، والفقر والعشوائيات، وانهيار الخدمات الصحية، وانقطاع الكهرباء، وتراجع التعليم.. بل وتراجع دور مصر الإقليمي..

الشارع العربي بدوره لم يتأخر عن اللحاق بالموجة.. فهذه قضية تمس الأمن القومي العربي.. فلا تكاد تجد بلد عربي، إلا وتفاعلت جماهيره مع فستان رانيا يوسف.. وقد راح عن بالهم استقبال عواصم عربية لشخصيات ووفود إسرائيلية، وراح عن بالهم أطفال اليمن الذين يموتون بالآلاف جوعا، وأربعة بلدان عربية تئن تحت وطأة حروب أهلية طائفية، دمرت حاضرها ومستقبلها..

في هذه الفترة بالذات، هبطت مركبة فضائية أمريكية على سطح المريخ، وأعلنت الصين عن نيتها بناء قاعدة بحرية في قاع المحيط، وعن قرب تصنيعها شمسا مصغرة، وفي روسيا وقع الرئيس "ديمتريف" على مرسوم يقضي للسماح بالسيارات ذاتية القيادة (دون سائق) بالسير في شوارع موسكو، وفي فرنسا حلق المخترع "فرانكي زاباتا" في سماء باريس، فوق لوح طائر، كما لو أنه سوبرمان.. وفي هذه السنة شهد العالم تنافسا محتدما بين شركتي "غوغل" و"أمازون"؛ للهيمنة على تكنولوجيا "المساعد الذكي"، وتنافسا شرسا بين شركتي "إل جي" و"سامسونغ" على اختراع أحدث التلفزيونات، والروبوتات الذكية.. بينما العالم العربي منشغلا في أمور أهم وأخطر!!

في الأردن، صار موضوع الحفلات المختلطة أهم من صفقات الغاز مع إسرائيل، وأهم من الضرائب والغلاء والبطالة.. في فلسطين، قُتلت في العام 2018 أكثر من عشرين فتاة، على خلفية ما يدعى بالشرف، بينما لم يجرؤ هؤلاء "الذكور" على رمي حجر على مستوطن! في العراق انشغلت بعض الميليشيات الطائفية بتعقب وقتل شبان "الإيمو"، و"المثليين"، متجاهلين العبث والفساد والتخريب الذي يمارسه حكام المنطقة الخضراء.. وفي أي بلد عربي ستجد أمثلة موازية..

بالعودة إلى فستان "رانيا يوسف"، فقد أعلن اتحاد النقابات الفنية المصري عن فتح تحقيق بالحادث، لضمان ألا يتكرر، وأن تظل ملابس الفنانات ضمن المعقول..

ليس دفاعا عن رانيا يوسف، وفستانها "المثير"، ولا انتقادا لها؛ فتلك مسألة لا تعنيني، ولا أجادل هنا مسألة الحريات الشخصية.. ما يعنيني ردود افعال الناس، واهتماماتهم، وما يشغلهم.. وكيف تنقاد النقابات والاتحادات الفنية، ونقابة المحامين وحتى المثقفون لدكتاتورية الرأي العام، ليهبطوا إلى هذا المستوى الشعبوي..

كيف ينسى الناس جلاديهم، وناهبيهم؟ كيف تصبح القضايا التافهة والشخصية أهم وأولى من القضايا الكبرى الحقيقية؟ وكيف ينجح الإعلام في الوصول إلى هذه النتيجة؟ تلك هي الأسئلة..

سيظل العالم العربي منشغلا بقضايا النساء، وماذا يرتدين، وهل يسمح لهن قيادة السيارة، وهل يجوز لهن شرب الأرجيلة، واقتحام الأماكن العامة.. وسنظل "ندعو لأندلسٍ إنْ حوصرت حلبُ".. ولكن، ليس لفترة طويلة..

في يوم قريب سيستفيق الشعب العربي من غيبوته، وسيفهم كيف تم تضليله وإشغاله في توافه الأمور، حينها سيحاسب الذين باعوه، وباعوا بلاده، وكرامته، وتاريخه، ونهبوا ثرواته، سيحاسبهم حسابا عسيرا.. وأولهم، أولئك الذين نصبوا أنفسهم حراسا على الفضيلة..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن