انت كل حواسي - من سيرة الغياب

فلسطين اسماعيل رحيم
shab3ad@gmail.com

2018 / 10 / 12

صديقي العتيق
إن الحياة الجديدة في هذا العالم لم ترقني كثيرا
هل تعرف حين حطت بي الطائرة هنا، لم اشم عطر هذه المدينة، اذكر كثيرا من المرات التي حطت بي الطائرة في مدن غريبة وابعد من هنا، كنت كل مرة اهبط الطائرة فيها تلفحني ريح غريبة ، تحمل عبق المدن الغريب، لكن هنا يبدو ان حاسة شمي تعطلت، انا التي تستخدم انفها لمعرفة كل شيء، يتعرف الاناس العاديون على الاشياء عبر الفم في طفولتهم ومن ثم عبر يديهم، وحين يكبرون اكثر يبدأون في تشغيل كافة الحواس، لكنني كنت دوما اتعرف إلى الاشياء بالشم، واعتقد اني لم افطن إلى جودة اي حاسة غير انفي، لايكذبني ابدا، استطيع ان اشم الكذب والصدق والخيانة والاخلاص، كيوم ودعتني كنت اشم قلقك جدا لدرجة انني صرت ارتجف اكثر منك ، نسيت ان اخبرك ان شممت فيك ايضا حيرتك يوم ضمتنا محطة سيدي جابر .
اشم تاريخ الاشياء، بأنفي هكذا اكتشف الاف الحقائق المزورة والوجوه والمشاعر منتهية الصلاحية، اشم الكتاب من رائحة الورق ادرك جودة الفكرة التي يحمل، من رائحة العطر ادرك نوع الشخص الذي امامي، ومن رائحة الكلام اميز كذب الحديث من صدقه، من رائحة الطبخ اعرف مزاج من يصنعه، ولذته ايضا، اشياء كثيرة اميزها بالرائحة، اشعر بمرارة الاشياء وبحلاوتها بالشم ايضا، اعرف اللذيذ منها والشهي والقبيح والجميل والسيء جدا كلها عن طريق انفي ، لا تضحك، انا أمرأة تشمك مرة في العمر ، فتتبعك حتى اخره.

صديقي لم تمنحني مدينة هذا القدر من العزلة ، دوما كنت اجري الى الشارع ، كطفلة تخاف ان يفوتها عرض سيرك، الحياة ايضا سرك كبير، لكن مهرجوا هذه البلاد مقيتون جدا، يقتلون اي شغف للتفرج عليهم.
لا شوارع هنا تغريني بالمشي الطويل، لا باعة جوالين، لا اطفال يتراكضون صوب دكانة الحي، لا طفل يشد والده للخارج كي يرافقه في نزهة، لا طفلة تتعلق بطرف ثوب امها خوف ان تضيع في زحمة السوق، الحياة هنا ببساطة، تشبه تماما ثلاجتي، ما ان تفتح بابها تفاجا بان كل شيء فيها لا يمت لبعضه بصله، لا تفزع ان وجدت في ثلاجتي مثلا علبة دخان فارغة، او فنجان قهوة نصف ممتلء ، وهكذا هم هنا كل شيء تحت حماية الاوركدشن، يجعلك تحترق اشتياقا لطقس بلادك الذي تذكره تماما كيف يصير في مثل هذا الوقت من الخريف، يااااه يا بلدتي كيف تبدين الان وانت تتوشحين هذا الاصفر العسلي الداكن بحزن اخر تشرين، كانك لوحة ترسمها يد الله على غلاف كتاب الحزن الابدي..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن