الاصطدام بالشخصيات المقدسة (9)

طلعت رضوان
talatradwan@yahoo.com

2018 / 9 / 29

الاصطدام بالشخصيات المقدسة (9)
طلعت رضوان
من بين الشخصيات الذين حصدوا (جائزة القداسة) من الثقافة المصرية (والعربية) السائدة الأستاذ أحمد بهاء الدين..وبالرغم من أننى كنتُ أعلم- أوعلى الأقل- كنتُ أتوقع صعوبة نشرما سوف أكتبه عنه، فإنّ سذاجتى الفطرية المعجونة ببراءة الطفولة، التى لم أنجح فى تجاوزها، جعلتنى أكتب ما رأيتُ صوابه..ولم أفكرفى مصيرالنشر..وبالرغم من حزنى على الوقت الضائع والمجهود المبذول، فإننى فرحتُ عندما وجدتُ ما كتبته عنه فى أرشيفى..وبالتالى ضمّـنته سيرتى الذاتية..وقد بدأته على النحوالتالى:
وصف كثيرون (داخل منظومة الثقافة المصرية السائدة) أ. أحمد بهاء الدين بالمفكرالكبير والليبرالى، ومن دعاة الدولة المدنية، إلى آخرتلك الأوصاف التى لاتـُعبـّـرعن الحقيقة كاملة، وربما دفعهم لذلك، أنهم كانوا مثله من مؤيدى الحكم الناصرى، وبالتبعية مع (العروبة) و(القومية العربية) فى مواجهة (القومية المصرية) ولذلك لم تكن مصادفة أنّ من يكتب له تقديم أحد كتبه (المثقفون والسلطة فى عالمنا العربى) هوالصحابى الأول (بالباء وليس بالفاء) (محمد حسنين هيكل) لنبى العروبة (جمال عبد الناصر)
فالأستاذ بهاء فى كتابه المذكورعاليه (صادرعن كتاب العربى الكويتى- 15 أكتوبر99) يرى أنّ حركة التعريب فى الجزائرالتى قادها هوارى بومدين ((وألزم الكل باستخدام اللغة العربية، كان يقضى على أحد أسباب التفرقة..ويضع أحد أسس إمكانية الشرعية)) (ص38) وكأنه لايعلم أنّ الشعب الجزائرى مُتعدّد الثقافات القومية..وأنّ الأمازيغ فى الجزائريبلغ عددهم 15مليون إنسان..وبالتالى تنتشراللغة الأمازيغية فى الجزائرفى مناطق كثيرة أهمها: منطقة القبائل فى المنطقة الواقعة شمال الجزائر..ومن بين الولايات التى تتكلم الأمازيغية ولاية (تيزى أوزو)، وولاية (بجابه)، وولاية (بومرداس)، وولاية (البويره) وجزء من ولاية برج (بوعريرج) وولاية (البليدة) وولاية المدينة والجزائرالعاصمة. فإذا كان هذا هوالواقع المادى المحسوس، فكيف يكون (التعريب) هوالذى سيقضى على التفرقة كما زعم بهاء؟ أليس العكس هوالصحيح؟ خاصة وأنّ قرارهوارى بومدين تضمّن ((الزام الكل باستخدام اللغة العربية)) أليس هذا الموقف العروبى من بهاء معناه الوحيد القضاء على الخصوصية الثقافية للشعب الأمازيغى؟ وأليس معناه سيطرة الفكر (الأحادى) الرافض والمُعادى للتعددية الثقافية؟
وأنكرأ. بهاء وجود أى تعصب دينى فى مصربحجة ساذجة وهى وفق نص كلامه ((فإذا تشكلت وزارة لايسأل أحد إذا كان هذا الوزيرمن طنطا أومن أسيوط)) لمجرد أنه ((لايوجد إقليم تركزفيه الأقباط (يقصد المسيحيين لأنّ كل المصريين أقباط) إنما هم فى كل قرية ومدينة جنبًا إلى جنب مع المسلمين)) (ص38) فالأستاذ بها هنا يتجاهل الواقع المصرى بعد كارثة أبيب/ يوليو52 حيث ارتفع سقف التعصب الدينى، ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط ، وإنما بين المسلمين أنفسهم (إغتيال فضيلة د.محمد حسين الذهبى وزيرالأوقاف نموذجًا) بل وصل الأمر لدرجة أنه بعد تعيين بطرس غالى فى منصب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، فى أول يناير92، صدركتاب بعنوان (بطرس غالى: القديس الذئب) تأليف أبوإسلام أحمد عبدالله- الناشربيت الحكمة للإعلام والنشروالتوزيع- إبريل93)
وكما قال شعبنا الأمى فى فلسفته الحكيمة ((الجواب بيبان من عنوانه)) لذا لزم الصمت وعدم التعرض لتفاصيل ما ورد فى الكتاب من تشهيروألفاظ الخيانة والعمالة للصهونية إلخ ناهيك عن الألفاظ الجارحة التى يُعاقب عليها قانون العقوبات فى حالة المساس بالشرف والحياة الخاصة. وأبوإسلام الذى وصف بطرس غالى بالذئب أصدركتابًا آخرعن المفكرالراحل فرج فوده بعنوان (من قتل الكلب؟) صادرعن نفس الدار(بيت الحكمة) يناير96. فلماذا نفى أ.بهاء وجود تعصب دينى فى مصر؟ تكمن الإجابة عنده عندما كتب فى نفس الصفحة ((إننا عندما نتأمل أهم عنصر يؤثرفى حياة الأمة العربية ويربط بينها، نجد أنّ هذا العنصرهوالإسلام بلا جدال)) فلماذا لم يُفكرفى تأثيركلامه على أصحاب الديانات الأخرى؟ وأليس هذا الكلام معناه الانحيازللمسلمين فى مواجهة غيرالمسلمين؟ وهل يختلف هذا الكلام وتلك اللغة عن كلام ولغة عتاة الأصوليين من الأفغانى إلى أصغرأصولى يرى أنّ ((مواطنة الدولة حق لكل مسلم فقط)) كما ورد فى المادة رقم 14فى الكتاب الصادرفى لندن عام 1984بعنوان (نموذج للدستورالإسلامى)
000
والأستاذ بهاء أحد الذين انبهروا بشخصية جمال الدين الإيرانى الشهيربالأفغانى، وقدّموه للقارىء باعتباره ثوريًا، وبالتالى يترسّب فى عقل ووجدان القارىء التأثربتلك الشخصية. وفى كتابه (أيام لها تاريخ– دارالكاتب العربى للطباعة والنشر- الطبعة الثالثة- عام 67) تناول شخصية الأفغانى بشكل عارض فى بعض فصول كتابه..ورغم هذا التناول العارض فهولايُخفى إعجابه وانبهاره به..وفى أول تقديم له يُقدمه إلى القارىء وهوجالس فى مقهى (متاتيا) فى ميدان العتبة الخضراء بالقاهرة كل مساء. فماذا يفعل الأفغانى فى المقهى وفق وصف أ.بهاء؟ إنه ((يُوزع السعوط بيمناه والثورة بيسراه)) وإذا كان من حق أ.بهاء أنْ يُصوّرما يقتنع به (أى توزيع الثورة فى المقهى) فإنّ من حق العقل الحرأنْ يسأل: ما ماهية هذه (الثورة)؟ ما توجهاتها ومن هم المُخاطبون ليقوموا بها؟ فإنّ هذه الأسئلة لم تخطرعلى ذهن أ. بهاء، أوخطرتْ– كاحتمال– على ذهنه ولكنه لم يستخدمها ولم يتعامل معها..وفى كل الأحوال كان سعيه هوتجميل الشخصية وإخفاء واقع الحال.
فالأفغانى الذى يُوزع (الثورة) فى المقهى كما يُوزع (السعوط) شنّ هجومًا ضاريًا على الثورة الفرنسية التى (رغم الوعى بكل المساوىء التى شابتها) نقلتْ الشعب الفرنسى من حال إلى حال أفضل على المستوى السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى..والأخطرفى فكرالأفغانى أنه لم يكن يُخاطب أى شعب على أساس انتمائه لوطن محدّد وقومية محدّدة، وإنما كان يُخاطب الشعوب على أساس دينى، فيُطالب المسلمين بأنْ ((يعتصموا بحبال الرابطة الدينية التى هى أحكم رابطة اجتمع فيها التركى بالعربى، والفارسى بالهندى، وقامت لهم مقام الرابطة الجنسية)) (العروة الوثقى 24/8/1884)
فهل فكرأ. أحمد بهاء الدين فى أنْ يقرأ مجلة العروة الوثقى ليتعرّف عل أفكارالأفغانى قبل أنْ يكتب عنه كلامه الإنشائى..وإذا كان قد قرأ فلماذا تغاضى عن أفكارالأفغانى السامة التى تسعى لتقويض الانتماء الوطنى؟ فإذا كان الذى يحكم أى شعب هو((الاعتصام بحبال الرابطة الدينية)) وإذا كان شعبنا المصرى متعدّد الأديان والمذاهب مثل معظم شعوب العالم، فتكون النتيجة- حسب المخطط الذى رسمه الأفغانى وباقى الأصولية الإسلامية- أنْ ينضم المسلمون فى كل بقاع العالم فى صفوف، والمسيحيون فى صفوف ثانية واليهود فى صفوف ثالثة إلى آخرالتقسيمات الدينية والمذهبية. ثم يتم تغييرخريطة الكرة الأرضية لتخصيص (قارة) لكل أصحاب دين معين. أليست هذه كوميديا سوداء تبحث عن مؤلف بعمق وموهبة صمويل بيكت أو فرانزكافكا إلخ إلخ؟
فأية (ثورة) تلك يا أستاذ بهاء التى كان الأفغانى يُوزعها مع (سعوطه)؟ وهويُفتــّتْ وحدة الشعوب على أساس دينى؟ وكيف يُحارب المصريون الإنجليز(زمن الأفغانى) وقد شطرهم الأفغانى (وكل الأصوليين من بعده) نصفيْن، يُعادى كل منهما الآخر؟ وإذا كان الاعتصام بحبال الرابطة الدينية هوالأساس، فكيف للمصرى المسيحى أنْ يُحارب الإنجليزى المسيحى؟ وكيف للمصرى المسلم أنْ يُحارب التركى المسلم؟ رغم احتلال وطنه ونهب موارده، سواء من الإنجليز أومن سلطة الخلافة العثمانية؟
هذه أسئلة لم يكن لها أدنى إهتمام فى ذهنية أ.بهاء، لأنّ ذهنيته اهتمّتْ بالأساس لتكريس سلطة ضباط يوليوالذين التقوا مع الأصولية الإسلامية (كان الخلاف على كرسى السلطة فقط ، وكل فريق سنّ سكاكينه ليأكل خصمه، وانتهتْ المعركة بانتصارعبد الناصرعليهم، فأكلهم قبل أنْ يأكلوه) كما أنّ أ.بهاء كرّس قلمه للدفاع عن (العروبة) و(القومية العربية) و(الوحدة العربية) رغم أنّ الواقع أثبت فشل كل تلك المحاولات البائسة، بدليل وجود 17 نزاع حدودى بين الدول العربية، لعلّ أشهرتلك النزاعات، النزاع بين اليمن والسعودية..وبين العراق والكويت إلخ بل إنّ اليمن انقسم إلى شمال وجنوب..ولأنّ أ. بهاء انشغل ب (العروبة) فكان من الطبيعى أنْ يتجاهل البـُعد القومى لشعبنا المصرى، وأننا أبناء ثقافة قومية وحــّـدتْ بيننا وطبعتنا بروح واحدة رغم تعدد الأديان وتعاقب المستعمرين.
هذه الذهنية جعلتْ أ. بهاء لايجد غضاضة ولايشعربأدنى استياء ولابأقل قدرمن جرح المشاعرالوطنية، وهوينقل كلمات الأفغانى التى سبّ فيها شعبنا، إذْ قال ((إنكم معشرالمصريين قد نشأتم على الاستعباد وتربيتم فى حجرالاستبداد. لقد تناولتكم أيدى الغاصبين من الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب إلخ..وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه..ويهيض عظامكم بأداة عسفه..ويستنزف قوام حياتكم– التى تجمّعتْ بما يتحلــّب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط..وأنتم كالصخرة المُلقاة لاحسّ لكم ولاصوت)) (ص17)
وإذا كان هذا هورأى الأفغانى أننا لاحسّ لنا ولاصوت، أى أننا لم نـقاوم الغزاة أبدًا (بينما الحقيقة التى أكدها المؤرخون– بما فيهم العرب– أنّ شعبنا قاوم كل الغزاة بلا استثناء وكانت أشهرالثورات (ثورة البشموريين فى عهد الخليفة المأمون) بل وصل تشبيه الأفغانى لنا إلى أعلى درجة من الانحطاط عندما قال إننا والجماد سواء (كما سبق وشبّه الشعب الهندى العظيم بالذباب) فهل هذا الرأى رأى أ. بهاء؟ وإذا كان أ. بهاء لايرى ذات الرأى، وإذا كان قد قرأ عن ثورات شعبنا ضد الغزاة- من الهكسوس حتى الإنجليز. فلماذا لم يُعلــّق بكلمة واحدة يرد فيها على افتراءات الأفغانى وأكاذيبه المُوجّهة لشعبنا وله بصفته مواطنـًا مصريًا ينتمى لحضارة المصريين، إلاّ إذا كان قد صدّق أكذوبة أنه (عربى) وإذا كان أ. بهاء لم يفعل، فإنّ عميد الثقافة المصرية (طه حسين) كتب ((القومية المصرية لم تنسها مصرفى يوم من الأيام..والتاريخ يُحدثنا بأنها قاومتْ الفرس أشد المقاومة..وبأنها لم تطمئن إلى المقدونيين حتى فنوا فيها وأصبحوا من أبنائها..والتاريخ يُحدثنا كذلك بأنها خضعت لسلطان الامبراطورية الرومانية الغربية والشرقية على كـُره مستمرومقاومة متصلة، فاضطرالقياصرة إلى أخذها بالعنف..والتاريخ يُحدثنا كذلك أنّ السلطان العربى بعد الفتح لم يبرأ من السخط والمقاومة والثورة)) (صحيفة السياسة 31/12/1923)
ولأنه (طاها حين) مؤمن بمصريته (عكس العروبيين والإسلاميين) كتب ((إنّ الفرعونية متأصلة فى نفوس المصريين وستبقى كذلك بل يجب أنْ تبقى وتقوى. إنّ المصرى مصرى قبل كل شىء، فهولن يتنازل عن مصريته مهما تغلــّبتْ الظروف..ولاتـُـصدقوا ما يقوله البعض عن العروبة (وكان يقصد ساطع الحصرى) فالفرعونية متأصلة فى نفوس المصريين وستبقى كذلك وأنّ الأكثرية الساحقة من المصريين لاتمتْ بصلة إلى الدم العربى، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء..وتاريخ مصرمستقل عن تاريخ أى بلد آخر)) (المجلة الجديدة– ديسمبر1938)
000
ووصل إعجاب أ. بهاء بالأفغانى لدرجة أنْ كرّرعبارة توزيع (الثورة) فى المقهى ثلاث مرات (ص16، 26، 60) فهل الإعجاب بشخصية ما يعمى عن الحقائق الموثقة؟ وهل الإعجاب يلغى العقل؟ أم أنّ للإعجاب مآرب أخرى؟ وهل يمكن ربط موقف أ. بهاء المُروّج للأفغانى المُعادى للانتماء الوطنى مقابل الانتماء الدينى، أى ترسيخ الأصولية الإسلامية التى دشــّـنها ضباط يوليو52، بما قاله للمناضل الشيوعى فوزى حبشى الذى عاتب أ. بهاء: لأنّ ما يكتبه فى مجلة روزاليوسف يُخالف ويختلف مع آرائه التى يُدلى بها فى الندوات التى كانت تعقدها إحدى الحلقات الماركسية..وعندما سأله فوزى حبشى عن سرهذا التناقض قال أ. بهاء ((الصحفى مننا كتاجر المقلة. اللى عاوزسودانى أدى له سودانى..واللى عاوزلب أدى له لب.. باختصار إحنا بنبيع لب)) (معتقل لكل العصور- دار ميريت للنشر- عام 2004- ص 297)
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن