الغرفة(جان بول سارتر): مقدمة الغثيان

بلال سمير الصدّر
belalalsader@yahoo.com

2018 / 9 / 24

الغرفة(جان بول سارتر): مقدمة الغثيان
تركز القصة الوجودية على الشخص نفسه...الشخص وكانه محور الوجود ويحاول المفكر الوجودي ان يدخل الى عمق التفكير...عمق الذات...عمق الرؤية
فالقصة الوجودية-كما قلنا سابقا-محورها الشخص نفسه وكيف يدرك العالم مع ابراز وجهة نظره في هذا الادراك وليس العكس,فهي لاتنظر اولا الى العالم بوصف الانسان مسقطا فيه،بل على العكس فالعالم هو المسقط على الفرد،ولولا وجود الفرد وادراكه لما وجد هذا العالم.
والقصة القصيرة (الغرفة) من مجموعة الجدار لجان بول سارتر،تدور حول المنحى أو المقدمة السابقة،بحيث تكاد تكون تماما مغرقة في التأمل الذاتي للذات وابراز المنبه الوجودي بالاضافة الى انها كاملة تصلح كمقدمة لغثيتان سارتر.
تدور القصة حول السيدة داربدا (جانيت) والسيد درابدا(شارل)وهما والدا ايفا،وحتى ان كانت ايفا هي المحور الرئيسي للقصة،ولكن المحور الوجودي للغرفة خاضع لأكثر من شخصية...وان كانت لاحقا ستتحول القصة برمتها للتركيز على ايفا وعلاقتها بزوجها المجنون بيار.
وعضت تلك القطعة التي بلون الزجاج فتصاعدت منها رائحة عفنة ملأت فمها (قطعة حلقوم).
غريب كم ان المرض يصفي الاحاسيس....
هذا الموقف العرضي يخلق اجيالا من الذكريات يستبيح ويسترجع الذاكرة،بل ويستعيد الاحساس ايضا...
(كما كانت تجلس على رصيف الحجارة وبيدها كتاب،والريح تمطر على ساقيها زوابع من الرمال وهي تقلب من وقت لآخر كتابها ممسكة باطرافه.أنه الاحساس عينه،غير ان حبات الرمل الصغيرة كانت جافة في حين ان حبيبات السكر تلتصق بيدها.
هذه اللحظة هي المنبه الوجودي وكأن الانسان يعيش في استغراق تام،والمنبه يعيده الى عالم لازال يدركه هو.
ومن ثم يتمحور الموضوع حول شارل ومحاولة اقناعه لأبنته ايفا بترك زوجها المجنون بيار التي باتت حبيسة معه في غرفة ....يقول السيد درابدا:
اذا استمرت هكذا فستصبح اكثر جنونا منه وتلك حالة غير صحية،فهي لا تتركه خطوة ولا تخرج ابدا الا لزيارتك ولاتستقبل احدا فجو غرفتهم بمنتهى البساطة لايمكن استنشاقه.
على ان الحاح شارل على ابنته مع رفض ابنته الصامت لكل نصائحه يبدو لا اهمية له امام موقف ايفا لهذه الحالة بحيث يلعب الادراك دورا كبيرا في هذه القصة فهي مصممة على البقاء من دون حتى ان تبيح لماذا متمسكة بموقف لا يبدو ان له سبب سوى لحالة وجودية خاصة....
هذه الشقة كبيرة بالنسبة اليكما،عليكما ان تنتقلا منها،فاجابت ايفا:
ترد لي هذا في كل مرة يا ابت،لكني اجبتك بأن بيار يرفض مغادرة غرفته...كانت ايفا مدهشة،وهذا يثير التساؤل فيما لوكانت تعلم بحالة زوجها،كان مجنونا،وهي كانت تحترم قراراته واراؤه كما لوكان متمتعا بحس سليم....
مع تمسك ايفا بالبقاء مع بيار ينحسر ادراكها التام في الغرفة فقط...انه العالم المنحسر في مكان مغلق:
وانزلقت يدا ايفا على طول الكنبة،واتجهت نحو النافذة،كانت مندهشة فالغرفة تسطع بالشمس،فالشمس في كل مكان فيها:
على السجادة ذات الدوائر،وفي الهواء كغبار يعمي الابصار،لقد فقدت تعودها على الضوء القوي الذي يصل الى كل مكان ويخترق جميع الزوايا،يلامس الاثاث فيحعله يلمع،وتقدمت مع ذلك نحو النافذة ورفعت ستار القماش الذي يتدلى فوقها....اذا اصبحت الغرفة هي محور الوجود وهي محور الادراك من دون ان نميز القرار لدرجة ان بيار يتساءل ....اليس بالامكان فقط ان ينسونا؟!
حالة العزلة الفردية ةاسقطت عليها حالة خاصة...ان مكوثها في الغرفة شيء نابع من داخلها اكثر من تمسكها بالبقاء مع بيار..شيء يشبه الغثيان...يشبه عدم قدرتها على التعامل مع تفاهة هذا العالم...لنتأمل المشهد التالي والذي نعتبره اختصار دقيق للغثيان:
كانت طريق بالك شبه مقفرة،امرأة عجوز تعبر الشارع على مهل وتمر ثلاث فتيات يتضاحكن،ثم رجال وقورون يحملون حقائبهم ويتبادلون الحديث...فكرت ايفا:البشر عاديون(وقد ادهشها ان ترى في نفسها تلك المقدرة على الكراهية)
وجودها في الغرفة سببه عدم قدرتها على التواصل مع العالم لأن السطحية تعبق في ادراكها للعالم...
وركضت امرأة جميلة سمينة امام سيد انيق فاحاطها بذراعيه
قبلها في فمها،ضحكت ايفا ضحكة قاسية واسدلت الستار
الادراك للعالم هو العبق العابق بالسخافة وبالعادية وبالروتين فلا مهرب سوى الى الغرفة ويتغلب مفهوم الادراك لديها على الرغبة...
لكنها توقفت فجأة واسندت ظهرها الى الحائط بشيء من القلق:اذا في كل مرة كانت تغادر فيها الغرفة يدب فيها الذعر عند فكرة العودة اليها ثانية ولكنها كانت تعرف انه ليس بوسعها العيش في مكان آخر...كانت تحب الغرفة
تغلب مفهوم الادراك على الرغبة....
كان عليها ان تفتح الباب ثم تقف في العتبة محاولة ان تعود عينيها على خيال الظل،فقد دفعتها الغرفة بكل قواها وكان على ايفا ان تنتصر على تلك المقاومة وان تدخل الى قلب الغرفة...
تغلب مفهوم الادراك على الرغبة...
وفجأة فكرت بنوع من الفخر انه لم يبق لها محل في اي مكان،ان الاشخاص العاديون لايزالون يعتقدون انني واحدة منهم غير اني لااستطيع المكوث ساعة بصحبتهم،أنا بحاجة لأعيش هناك في الجهة الاخرى من هذا الجدار ولكنهك لايريدونها هناك.
في الحقيقة،الغرفة هي المكان المتوفر الوحيد للهروب من العالم او النكوص الى حالة بدائية بعيدة جدا عن العالم،أو هي المكان الذي تستطيع فيه فقط أن لاتدرك العالم،فالبقاء بجانب مجنون هو حجة مقنعة للهروب من هذا العالم والوصول الى نقطة سكون...نقطة سكون تتوقف فيها الساعة عد الدوران...على حافة لايتسع فيها شيء سوى لأدراكها الوجودي.
لايوجد ماضي فالذكريات بالنسبة اليها مخيفة،ربما لأنها تؤكد شكلا وضمنا انها حالة محسوبة على هذا العالم....ففي الغرفة ليس هناك نهار أو ليل ولافصول ولا كآبة.تذكرت بغير وضوح فصول الخريف السابقة،فصول خريف طفولتها....ثم جمدت في مكانها فجأة كانت تخشى الذكريات.
الغرفة هي النكوص الى عالم يعتبر نقطة استراحة في الوجود سببه الاشمئزاز من الوجود نفسه،فهي تعمد على قبول ذكريات (وهمية) يختلقها بيار عن ماضيهما وتفصلها بل وتخوض فيها وتسترسل معه في اعطاء هذه الذكريات الوهمية بعض الايضاحات وحتى التفاصيل...
بل حتى شعورها بالخوف من تماثيل وهمية قد تتحرك وتقوم بالهجوم في اي لحظة وفقا لعقلية بيار
ايفا تؤكد انه اذا اردت ان تعيش مع مجنون فيجب ان تكون مثله،على ان ايفا ليست مجنونة بل هي تمثل الجنون حتى تستطيع تعويض عالم يشعرها بالغثيان....
ان حالتها مرتبطة بالغرفة،أو بحجة بقاؤها بالغرفة،اي انها مرتبطة ارتباطا كبيرا ببيار لأن جنون بيار هو الحل الوحيد لمأزقها الوجودي....
النهاية تبدو مبهمة من ناحية،وواضحة من نواحي اخرى،فايفا خائفة من فقدان بيار أما بجنون مطبق كامل يفقدها العذر على البقاء بالغرفة،أو بحالة موت غير متوقعة...في الفقرة الأخيرة من القصة:
لكن القلق لم يغادرها،عام،فشتاء فربيع فصيف،فبداية خريف آخر،ذات يوم ستتشوه هذه الملامح،سيتهدل فكه وسيفتح عينيه الدامعتين قليلا،وانحنت ايفا على يد بيار ووضعت شفتيها فوقها:
سأقتلك قبل ان يحدث ذلك
القتل هنا لايأخذ حرفيا،القتل هو تعبير تام عن رفض ترك الغرفة...وكانه تقول له سأقتلك قبل ان تموت،بمعنى آخر ان تعبير القتل هو تعبير مبالغ فيه لأن ايفا لن تقوم بقتل بيار على الاطلاق..
الغرفة من مجموعة الجدار هي من اجمل القصص التي كتبها سارتر على الاطلاق،يتغلب فيها الأدب على الفلسفة وعلى الهدف الوجودي،وحتى ان كان سارتر يكرر شيئا من الغثيان،فاختصارات القصة والقوة التعبيرية تتفوق على الغثيان من نواحي معينة حتى لو كانت الغثيان هي الأشهر وا|لأفضل عموما ونحن لانرفض ذلك،ونحن نعتقد أن سارتر عندما كتب الغرفة كتبها حبا بالأدب نفسه وليس بالوجودية ومن الطبيعي ان ينعكس مزاج الكاتب في ابداعه الروائي.
قصة الغرفة ذكرتني بقوة بشيء كنا قد كتبنا عنه في السابق...شيء اعجبنا كثيرا في زمانه أقام الدنيا ولم يقعدها...شيء اسمه:التانغو الأخير في باريس
بلال سمير الصدّر



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن