زين وآلان: الفصل الثاني 5

دلور ميقري

2018 / 9 / 10

" العُرْبي "، وهذا اسمُ الجنرال، كان فظاً غليظاً في طبعه كما حال معظم أقرانه من العسكريين المحترفين. وعلاوة على ذلك، كان محض مقته موجّهاً لفئة المثقفين، الذين يصولون ويجولون الآنَ بالقرب من مجلسه في الصالة الصغيرة، المخصصة لضيوف البار البارزين. لحُسن حظ الوسيط، " عبد الإله "، أنه لا يُحْسَب على تلك الفئة أو أنه كان كذلك ثم غادر صفوفها طوعاً واختياراً. مع أنّ الرجل يتشدق بعبارات كبيرة منذ عودته من باريس، فضلاً عما أكتسبه عن الفرنسيين من وداعة ولطف واتزان.
الواقع أنّ الجنرال كان قد استمد أكثرَ معلوماته من تقارير على الورق، حينَ كان ما يزال في الخدمة واسمه يثير رعب أولئك المثقفين. ومع كون نشاطات المعارضة في الخارج من اختصاص جهاز آخر، إلا أنه كان مطلعاً على الأمور بشكل عام سواءً عبرَ زملائه أو عملائه ممن هم على صلة بمعارف للمعارضين: الشخص العائد حديثاً من باريس، والجالس إلى جانب يستمتع بدخان النرجيلة، يبدو أنه كان ذا سمعة سيئة بين أولئك المعارضين في الخارج. في هذا المجال، كانت التقارير آنذاك على تناقضٍ بيّن. إذ منها ما كانَ يتحدث عما أشيع عن الرجل، من حيث كونه ربيبَ كاتبٍ فرنسيّ، لوطيّ. بينما تقارير أخرى، وصفته بأنه كانَ يدبّر معيشته هناك عن طريق معاشرة نساء كبيرات في السّن.
" كيفَ وجدتَ الحال في المغرب، أنتَ من أقمتَ عشرين عاماً متواصلة في فرنسا؟ "، سأل الجنرال مواطنه بنبرة ودية وهوَ يميل وجهه إليه. جلسة العمل، كانت قد أذنت على الانتهاء دونَ أيّ ضغينة أو حساسية، وقد لعبت أقداح الويسكي، ولا شك، دوراً كبيراً في ذلك. فكّر " عبد الإله " قليلاً، قبل أن يجيبَ في حذر: " الشكر لله أولاً، ولمليكنا ثانياً، أنّ المغرب يعيش اليوم في أزهى عصوره لناحية الرفاهية وحقوق المواطن.. "
" الله، الملك، الوطن هاهاها! "، أوقفت جملةُ الجنرال هذه الخطبةَ المُطنِبة. مرر الوسيط لسانه على ظاهر شفتيه، الجافتين بفعل دخان النرجيلة، ثم استمر بالقول كأنه لم يُقاطع بالقهقهة الساخرة: " أؤكد لك أنني أتكلم بصراحة وإخلاص، وأيضاً ليسَ بصفة شخصية. لأنّ معظمَ مَن عرفتهم في الخارج، وأعني المهتمين منهم بأمور الوطن، لديهم رأيي في الوضع إن كان سياسياً أو اقتصادياً "
" ولكن جماعتنا هنا، لشديد الأسف، لا تشعُر أنّ من واجبها شكرَ الله والملك "، قالها الجنرال بصوتٍ خفيض على الرغم من ضجة الموسيقى. ثم انتبه على حين فجأة لوجود الشاب الغريب، ولم يكمل كلامه. إلا أنّ مُحادثه ردّ تلقائياً، مصطنعاً نبرة وقورة: " وهل نحن سوى جزءاً من هذا الوطن، يسعدنا ما يسعده ويضرنا ما يضيره؟ بل إننا أصلُ كيان المغرب، ومن أسس هذه المدينة بالذات وكانت عاصمته لعدة قرون. بفضلنا أيضاً اقتحمَ الإسلامُ أوروبا، وكاد أن يستولي عليها كلها لولا ما كان من فرقة كلمتنا فيما بعد. بلى، وهذه الفرقة ستضيّعنا الآنَ ما لو أصرّ البعضُ على طرح مشاريعه المشبوهة والمدعومة من الغرب والجزائر! ".
" سيامند "، كان عند انتهاء جلسة العمل متململاً، يفكّر في شيء من القلق بحبيبته المتوحّدة عند سدّة البار. وقد انتبه إلى تلك النظرة، التي رشقه إياها الجنرال، وفهمَ مغزاها. فإنه سبقَ وسمعَ من صديقه، الوسيط العتيد، عما يعانيه بربرُ البلاد من تهميش وإقصاء على المستويات كافة. على ذلك، راحَ يبتسمُ في سرّه في أوان دفاع الرجل عن سياسة العرش في هذا الشأن. ثم لاحَ أنّ " عبد الإله " نفسه، ما كانَ أقل انتباهاً. وها هوَ يردفُ قائلاً بلهجة رصينة، خالية من حرارة الحماس: " أنا بالذات، كنتُ أقف يوماً بصف أصحاب تلك المشاريع.. بحُسن نية، ولا ريب! إلا أنني على أثر سياسة الإصلاح والتسامح، المُقرّة مؤخراً من جانب المخزن، آل تفكيري إلى ضرورة تأييدها بل والدعوة لها من خلال العودة إلى الوطن "
" بارك الله فيك، يا الشريف، لأنك كنت خيرَ من يمثل ديننا وجنسنا ثمة في الخارج! "، خاطبه الآخرُ قابضاً على يده في حركة صداقة. ثم استدرك، وكأنما تلك الجملة ألمحت إلى صفة وظيفته الأمنية: " بفضل أمثالك يحفظ الله المغرب، حتى لقد بلغ من الازدهار أنّ المستثمرين يأتونه من المشرق والغرب على حدّ سواء ". قالها، ورمق الشابَ الغريب هذه المرة بنظرة تعاطف واضحة.
وقفَ أخيراً أمام حبيبته، هنالك عند سدّة البار، وكانت تفوح منه رائحة كحول قوية. ابتسامته العريضة، كانت تنبئ عن سعادته بالتوفيق في جلسة العمل. بيْدَ أن ذلك لم يُسعد الفتاة بحال، مثلما باحَت به ملامحُ سحنتها، الساخرة نوعاً. وكان على ابتسامته أن تضمحل رويداً، ليحل بمحلها تقلّص في عضلات وجهه ينمّ معاً عن الحنق والقلق. على الأثر هبّت " زين " من مكانها على كرسيّ البار المرتفع، كي تندفع إليه في حركة حميمة وكأنها بهدف محو أيّ انطباعٍ سيء. تلقاها بين ذراعيه، وكان أكثر مرحاً، ثم أخذ يتأمل في شغف سحنتها الساحرة والفاتنة كما لو أنه افتقدها زمناً لا سويعة مُبتسرة حَسْب.
" الجنرال كان ظريفاً وخدوماً، أليسَ كذلك؟ بل إنه بدلاً عن مساومتك بطلبات باهظة، أخذ يهوّن من تقديرات تكاليف المشروع وهوَ يقضم بين أسنانه الصناعية حبات الفستق. وأراهن على أنه ضمن لك مجاناً، الماء والكهرباء، لعامين على الأقل؟ "، قالتها متدفقة وقد عادت إلى لبس نبرتها الساخرة. كان عندئذٍ ينصت إليها منتصباً بقامته الفارعة عند ناصية الدرب، المحاذي لمكان البار الغارق في العتمة. وكان الدربُ إلى جهة اليمين يفضي للعمارة، التي تقطن " زين " وشقيقها في إحدى شققها. فيما بعد، عليه كان أن يستعيد كلماتها كنبوءة. مع كونها في واقع الحال، كلمات إنسانة عادية استمدت خبرة كافية من العمل والحياة سواءً بسواء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن