بائعة الجسد

جميل حسين عبدالله
elourak@gmail.com

2018 / 8 / 24

العاهرة
من أخطر المخلوقات التي عرفها التاريخ البشري على امتداد مراحله، ومنازله، تلك المسماة بالعاهرة، أو المومس. إنها الغدة السرطانية التي سرى ضررها في جسم الكائن الآدمي، وما زالت وإلى يومنا هذا تتعلق بأمشاج نتنة، وأسناخ عفنة، وأرحام تخرج من قيعانها ديدان حقيرة، وغيلان ذليلة، إذ هي في محصلات واقعها البائس، تعيش بدون ملامح تعرفها، وتحيى بلا معالم تحدها، وتحضر في كل حدث بعينيها المفترستين، وتتحدث في كل غرض بشفتيها الطويلتين، وتعتاد كل فعل يقربها من هدفها المخزون في دماغها العليل، وترتاد كل سلوك يطوي أملها بين الدروب المضمخة بحلم كليل، ولا يضيرها أن تخلق التناقض بين مسالك الفعل السوي، وتحدث الانفعال الطائش في مسارب كانت سمتها اللازمة لها ما تهمس به من أريحية السكون، وعنفوان الهدوء، والطمأنينة. فلا غرابة إن اختارت الدين مثالا أعلى، ما كان سببا لكسب الغاية، وجلب المنة، أو اختارت الفجور مسلكا أجلى، إن لزم منه انتفاخ الجيب، وارتفاع المطلب، وانتظار الكسب الوفير.
هذه العاهرة في ناموسها الحاكم على فعلها الزماني، والمكاني، ليست شريفة، ولا حسيبة، لأنها ساقطة الحظ، والنصيب. وأنى لها أن تكون كذلك، وهي لا تفتر تلقح المجتمع بأصلالها الفتاكة، إذ، ومهما كانت في المجتمعات المتقدمة منشطة اجتماعية، تقتل فيروسات الكبت الاجتماعي، وطفيليات العجز، والحرمان، لكي تتحرر الإرادة من أوهامها الضامرة، وتنشط قوتها في أحلامها الهادرة، فإنها في تخلف الموارد عن الطلب، وانتكابها عن الجلب، واحتقان الإنسان لوحشة العناء، وغمة الشقاء، تتحول إلى كائن غريب، وكيان عجيب، يلبس لبوسا مختلفة، ومسوحا متنوعة، وينكشف لكل حادث بما يناسبه من سناء، أو هباء، إذ بمقدار ما تظهر أنها قوية في شفوفها، وقادرة على أن تتخلص من ضغط الأعراف، والعادات، والتقاليد، وتتمتع بما تحرمه آراء الأديان، والثقافات، والحضارات، فإنها في سبيل الإغراء بفتنتها جسد ضعيف، وعقل خفيف، لا يعيش في أمله إلا مقهورا لوضعه في رتب العلاقات الاجتماعية، وسلم الصلات الإنسانية، ومبهورا بما يلتف حول الأعناق من حداثة فارعة، وعولمة فارهة.
فهي على هذا تعيش موسوسة في مظاهرها العجفاء، ومنفصمة في مراميها الكأداء، ومنفصلة عن ذاتها المستلبة لأنماط فجة في التعامل، وأنساق مبتورة في التفاعل، ولو اتصلت بواقعها الذي تتفجر منه نزوات الوحوش الكاسرة، وشهوات طلاب المتعة الغادرة، لأن تاريخها المسود الأمارات، وما ينطوي عليه من مأساة المحرومين، ومعاناة المخذولين، يحكي عن انتعاش كل الأمراض المعدية في محيطها الشخصي، ومدارها الجماعي. فالفقر ابنها، والجهل بنتها، والمرض حفيدها، والكآبة حفيدتها. لأنها أم لكل الأخلاق الفاسدة، وجدة لكل الأوغاد الذين فقدوا بوصلة الوجود، وصاروا كلابا مسعورة، لا ترضى في حياتها المأفونة إلا بالتهام اللحم الطري، والمشوي، ولو تم الحصول عليه بأنجس الوسائل، وأتفهها غاية، وأذلها نهاية.
شيء ما يربط بين ذا وذاك في لوحة الحاجات البشرية، ويناغي بعضه بعضا في لحن رديء الأوتار، وسقيم الأنغام، إذ أوله دم بكارتها الذي فقدته باغتصاب محارمها، أو بانتهاك المرضى لمحالِّها، وآخره، هو ما نراه في نتاج بذورها من عبثية، وبهيمية، ووحشية، وهمجية، وما نسمعه عن ربعها من صداع، وصراخ، واقتتال، واحتراب، لأنها ومنذ الزمن الذي مدحوها فيه بالفتنة الخارقة، وتغزلوا بمنافذها المفتوحة على خوازيق القساة الممحونين بتعاسة الصدود، والحرمان، لم تبرح دائرة الإطراء لقوامها، وقدها، والإضرام لنيران نزقها، وشبقها، إذ لن تجد سخونة ذاتها المهتزة في طلي محاسنها بالطيب الزكي، إلا إذا أحست بأنها ستسمع أزيز صدرها على سرير الجنس الطازج بأكاذيب العشق الخالد، لأنها تجري بها رياح الحاجة إلى حيث تتكون المشاعر الكاذبة، والعواطف الخادعة.
فلا عجب في ذلك، ما دام العري مقدسا، والجنس قربانا، لأن ما تقدمه للإنسانية، هو ما تفرزه على فراشها من ولدان مؤهلين للعهر، والجريمة. قد يكون هذا غريبا في عقل من لا يقرأ النتائج من مقدماتها، أو في ذهن المخلوب بألوان الطيف الخالب للألباب المفجوعة، لكنه الحقيقة التي تصدمنا في واقع اغتصب الإنسانَ الأصيل لذلك الشبح الهجين، إذ الدعارة وليد شرعي لكل المناطق التي اختلط فيها نظر السماء، ورأي الأرض، وامتزج فيها فكر العريق بصخب الدعي الزنيم، والتحم فيها الخبث بالنزوات العليلة، والكليلة، لأن ناموسها الأزلي، وقانونها الكلي، هو ما يخطه وحي الشعوذة، والشعبذة، وراهبها المتنبئ بمصيرها، هو ذلك العراف، والمنجم، ومفسر الأحلام، والمعالج بالأوهام، والمخلص بصكوك الغفران، ولنسمه ما شئنا، فهو الطريق الذي تسير عليه إلى خلاصها، ونجاتها، إذ هو قدوتها في الملمات، والأزمات، وقائدها في الرغبات، والغايات.
هذا هو آلهتها وأنبيائها الذين يشمون على جسدها طرق الفضاء، وخرائط الغبراء، وهذا هو كتابها المقدس، وشرائعها التي تحتضر فيها المعاني للأدلة المتفجرة بالإثارة، واللذة، والمتعة. فلا تستغرب أن تلد هذه الأماكن التي يرتادها المستمنون بالخلاعة، والمستلذون بالرقاعة، والمحرومون من حنان الأمهات، وعطف الأخوات، ودله الزوجات، كل المظاهر التي تفسر صيرورة القطيع، ومنهج اختياره، وفلسفة حياته، ومنتهى نزواته، لأن ما يحدث في هذه الأماكن المبللة بعرق الفروج المتقيحة، وعفن المؤخرات الموخوزة بمداميك اللعنة، هو الذي يؤول كل المقولات الفلسفية في معنى الفضيلة، ويمنحها سياقا آخر غير الذي تقاتل الحكماء من أجل صوغ معالمه الباقرة، إذ لا يمكن لها أن توجد كعاهرة لها قيمتها في المجتمعات الأمومية، ولا أن تكون لها سطوة على العقول الفاسدة، والقلوب الكاسدة، إلا إذا كانت سببا في رص علاقات المجتمع، وبناء حقيقته بما يضمن لها بقاء نوعها، وفصيلتها، لأنها كما تجامل ذا برقة، تجامل ذاك بغموض، وكما تنم هنا، تشي هناك، وكما تُشْعر هنا بأنها الملاك النازل بخمرة السماء، فإنها ترسم هناك صورة للشيطان القادم بالموت البغيض، لأنها تبني أس حقيقتها على ما يخفي تطلعها إلى شيء وجيه في حياتها، وهو المال الذي تصارع به جيوش الغادرين لجسدها، والخائنين لكرامتها. وماذا يضيرها إذا خانت العهد، أو غدرت بالود، ما فتئت تعيش بمقتضى مادية غريزتها، وتمشي بذيولها بين النيات المتطبعة بالخطيئة، والدنية.؟
إنني لا أراها بهذا المعنى المستلب المبنى، إلا شيطانا يمشي بين الناس، يفسد محيط الأسر، ويهدم سياجه، لكي تخرج العفيفات إلى سوق النخاسة، وتُطلق تي من زوجها، وتقطع حبل وصال تلك بعشيقها، وتفعل، وتفعل...!!! إذ يستحيل عليها أن تقوم بهذا الدور الدنيء، ولا بهذه الوساطة القميئة، ما لم يكن لها أبناء ملازمون لهيكل الجسد، ومعبده، وقداسه، يخطون بخطواتها، ويمشون بمشيتها، ويتكلمون بكلامها، وينظرون بنظرها، لأنها تتحكم في عشيرتها بألذ ما في الإنسان من رغبات مكنونة، وتسعى إلى أن تتناسل، وتتكاثر، وتتعاظم، إذ ذلك ما يجعل فعلها قيمنا بالبقاء، وجديرا بأن يضحي كل المستبدين من أجل ظهور حقيقته، وإيضاحها بكل الوسائل الممكنة واقعا، ومثالا. فهي الحسودة التي إذا رأت فتاة جميلة غضبت منها، وأغرتها بما تتفنن فيه من ضروب الافتتان، لكي تلتحق بطابورها الجهنمي، ثم تغتني بسبب قوادتها، ووساطتها التي تمرعها في جنان ملاك الأرض، وسراق البهجة. إنها القحبة التي لا ملة لها، ولا أمة لها، ولا خلق لها، ولا عهد لها، ولا ذمة لها، وسمها بأي اسم أردت، أو صفها بأي وصف شئت، إنها المعنى، والرمز، والإشارة. وما أقسى الحياة حين تكون مقاييس أخلاق العاهرة فيها قانونا يدبر شأن العلاقات بين الناس، ويوطد لمفاهيم الخيانة، والكذب، والشماتة.؟
قد يكون حالنا في كثير من أدواره اللعينة، لاسيما إذا استشطنا غضبا من الواقع اللئيم، وتذمرنا من الأفق الأثيم، يعبر عن هذا المعنى الحقير، ويفصح عما في أورامه من اغتيال للدم البريء في أوصال العرق الأصيل، لأنه حين يتحدث فيه بالطهر القذر العفن، ويتعالى فيه الغبي البليد، ويصير الوضيع فيه شريفا، والجاهل عليما، والكذوب صدوقا، والخؤون أمينا، تختلط الأوراق بين أعيننا، وتمتزج الآراء بالمواقف المتباينة، فتنتابنا شكوك فيما يقال، أو يدعى، أو يرى، وإذ ذاك نستعيد الذكرى، ونستحضر ما فيها من عظات، وعبرات، وحيرة، وشكوى، فنرى العاهرة مولعة بكثرة الأحاديث، والحكايات، ومغرمة بما يفصل الإنسان عن قضية مثله، وقيمه، وأخلاقه، لكي يتطبع بالرذيلة، والفسق، والفجور، ويتطلع إلى عالم فاقد لآدميته، وبشريته، وإنسانيته، لأن تجارتها الكلام، وبضاعتها ما تحرفه من معاني المناقب، والفضائل، والكرامات. ولولا ما في كلامها من التباس، وتزييف، وتنميق، لما خلبت الألباب، وسلبت الأحباب، لكن ما دهمنا من أبنائها الذين عاشروا عار مضاجعتها للغرباء، وعاشوا برحيق ما ينزف به فرجها من سؤر الخزي، والذل،لم يدع لنا فرصة في التفكير، لكي ندبر مصيرا نقرب آجاله إلينا، لعلنا أن ننهي حياتنا بحقنة استعجال الفوات، قبل أن تنتهي أعمارنا بين أنياب المغتالين لأحلامنا، وآمالنا . ولا غرو إذا كان كثير ممن يصكون آذاننا بالنيابة عن الإله، وهم تجار في المطلقات التي لم ينته حدها في سفر العقول، وحرده في كسب حقائق مفاهيمها، لا ينطقون إلا بلسانها، ولا يعربون إلا عن ظنونها، إذ لو كنا حقيقة لا نفصح إلا عما لنا عليه قدرة، ويمكن لنا أن نحول فكرته إلى ممارسة، لكنا أقرب من العقل الفاعل، وهو القول الحق الذي أراد فعله أن ينشر الخير، ويعم نفعه الإنسانية جمعاء.
فالعاهرة، ولو تواطأت البغال على تقديس جسدها، وتدنيس فرجها، لن تكون إلا مخربة لما نبنيه من حصون حصينة، وهادمة لما نرفعه من ألوية الفخار، والمجد المؤكد، لأنها تحارب العفة، وتعاند الحشمة، وتبني أساس مجتمع أبنائها على الري بآسن مياه الرذيلة، إذ لا يستغرب أنهم لم يعرفوا أما، ولا أختا، ولا عمة، ولا خالة، ما داموا يتحرشون بكل أنثى، ويعترضون طريق كل امرأة، ومهما كانت مصرة على أن لا تضع يدها في قبضة المسعورين، والمحمومين، لأنهم لم يتعلموا من معجم أمهم أن يحترموا هذه الروح الخالدة، ويحموا ما تنطوي عليه من سر اللطف الخفي؛ وهي أمهم الحقيقة، وأختهم التي تعبر عن تاريخ الأنثى بالتزامها الأخلاقي بما تقتضيه حماية الكينونة، ورعاية الصيرورة. فالأنثى، لو كنت بالخيار لعبدتها بمنتهى خضوعي، وخنوعي، ولجعلتها من آلهتي المقدسة، لأن طعمها، وروْحها، لا يمكن له أن يعوض بشيء آخر، ولا أن يدل عليه شيء ما سواه، لأنها الأصل في الكون، والعلة الأولى الفاعلة في الماهية البشرية، وما جاء بعدها من محتد، وأرومة، إنما هو تابع لها في هوية الحقيقة الأزلية. لكن هذه العاهرة التي صنعوها في مصانع الألبسة، والمساحيق، ومرغوها في بحر شهوات الجسد، وأوضاره الحارقة، قد حاربت عفافها، وأنوثتها الطازجة بمعاني الخلود، وآلت أن لا تتركها آمنة في تعلمها، وتعليمها، إذ هي حين تخلت عن فصلها الدراسي، لكي تتفنن في وضع الأصباغ على أظافرها، وملامح وجهها، ومفاتح جسمها، وتتقن عمل جلب الحبيب بكل ما تملكه العرافات من سؤر اللعنات، والتمتمات، لم تكن تريد إلا أن تتكاثر العوانس، والمطلقات، والأمهات العازبات، وأبناء الزنا، وطلاب الدعارة المعنوية، والمادية، لأنها تقارع من أجل بقاءها، وتجابه في سبيل استمرارها. وذلك لا يكون حقيقة موضوعية، ما لم تنتج في مجتمعها من لا يأبه بمعنى، ولا يعبأ بقيمة، ولا يرضى بفضيلة.
تلك هي لغة العاهرة، وأدبها، وفلسفتها، ووسائل بناء محضن اجتماعها، وهي من أردأ التعابير عن جوهر الإنسان، وعن وظيفته، وعن وجوده الاعتباري، إذ كما تلبس جلبابها متسترة، وباكية، ومعولة، لكي تبين طهارتها بسجن ذاتها بين أقفاص صدئة، وأحيانا كثيرة تخفي وجهها خلف مسمى الحجاب، ومدعى النقاب، وتتلصص على القلوب بدبدبات العيون الفواتر، لكي ترسل كلامها المقتضب في إشاراتها الخارقة، وأحيانا تتوارى وراء الأسماء المستعارة، والصور المغرية، لكي تظهر ما تضمره من فجوات، وعذابات، إذ كما تحب الجلاء، فإنها تصر على الخفاء، فإنها إلى جانب كدها الموصول برغبتها الجامحة، لم تكن إلا خادمة لأبالسة الكون، ومزوري الحقائق، وملفقي الأوهام، ومخدومة للقطيع الذين تسوقهم الشهوة إلى فقدان دولة العقل، ودائرة التفكير السوي في المجتمع الإنساني المتمدن، والمتحرر الأفكار، والأنظار.
ملاحظة، إن العاهرة التي أعنيها، ليست هي الأنثى، بل هي الأفعى التي صنعوها خادعة للإنسان، وهادمة لآماله في الحرية، والكرامة. وسواء كانت جسدا له جرم زماني، ومكاني، أو كانت فكرة تسري في الوجود البشري، وتحدد كثير من الأنماط والسياقات الثقافية، والفكرية. تحياتي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن