نماذج من تجاربى مع الثقافة المصرية السائدة (1)

طلعت رضوان
talatradwan@yahoo.com

2018 / 8 / 19

فى عام 1969 كنتُ قد بلغتُ سبعة وعشرين سنة. وهذا التاريخ محفور فى وجدانى كما النقش على جدران معابد أجدادى. والسبب فى ذلك أننى فى هذا العام، وغالبـًـا فى الشهر الذى وُلدتُ فيه (يوليو) والسبب بكائى المتواصل ولمدة دقائق.
عندما تذكــّـرتُ تاريخ مولدى (1942) انفجرتُ الدموع التى ظلــّـتْ محبوسة داخلى بعد وفاة والدى منذ عاميـْـن. واكتشفتُ أننى لم أبك – لا يوم الوفاة ولا بعدها. ولا أعرف السبب – حتى الآن – وقد تعديتُ سن السبعين من ست سنوات – وعندما أسأل نفسى لماذا لم أبك طوال عاميـْـن؟ لا يكون أمام عقلى إلاّ طرح الاحتمالات : هل لأنّ أبى مات وترك فى عنقى ستة أخوة وأخوات من زوجته التى تزوّجها بعد وفاة أمى، حيث لم أكمل رضاعتى؟ ولم تكن المُـشكلة فى تحمل مسئولية أخوتى ، وإنما فى إدارة محل البقالة، بينما تركيبى العقلى والنفسى لم يمنحانى (موهبة) التجارة.
وقد تأكــّـد هذا الاكتشاف عندما ربطته بعدد القصص القصيرة التى نشرتها لى بعض الصحف والمجلات. ولم أكن قد نشرتُ أى مقال، وإنْ كانت لى بعض المحاولات ولكن كنتُ أتحرج من تقديمها للنشر. ربما لصغر سنى وخشيتى من سخرية المسئولين عن النشر فى الصحف والمجلات ، لأنّ المقالات التى كتبتها كانت (سلسلة) تحت عنوان يبدأ بكلمة سيكلوجية (لم أكن قد تعرّفتُ على التعبير العلمى للمصطلح) ومن بين هذه المقالات : سيكلوجية التصفيق. وهذا المقال أوحى إلىّ به ما لاحظته أثناء العروض المسرحية التى كنتُ أشاهدها، فقد لاحظتُ أنّ جمهور الصالة يـُـصفقون بمجرد ظهور الممثل على خشبة المسرح فى بداية العرض ، لمجرد أنه من الممثلين المشهورين. أو يـُـصفقون فى المشاهد (الحماسية/ الخطابية) والتى ليس لها أية علاقة بالتطور الدرامى للأحداث . والمقال الثانى كان بعنوان (سيكلوجية الجمهور) فقد اكتشفتُ – خاصة فى المسرحيات الكوميدية – أنّ المُـشاهدين يضحكون بمجرّد أنْ يفتح الممثل فمه – وقبل أنْ يـُـكمل جملته الحوارية، حيث أنّ المشاهدين تنبـّـأوا بما سوف يقوله ، نتيجة السياق فى الحوار السابق ، حتى ولو كان ما سيقوله شديد التفاهة والسطحية، أى أنهم دخلوا المسرح وقد تهيــّـأتْ نفوسهم للضحك ، بغض النظر عن أسباب الضحك ، كما هو الوضع فى المسرحيات التى ينبع الضحك من المواقف ، ومن المفارقات ومجمل الخيوط التى كوّنت الموقف، خاصة التناقض بين آراء الشخصية والمسلك فى الحياة. وكل ذلك عكس المسرحيات التى تعتمد على (حركات) الممثل الجسدية أو التلاعب فى تغيير نبرات الصوت ، أو التلاعب بالألفاظ أو السخرية المتبادلة بين الممثلين ، دون أدنى علاقة بأحداث المسرحية، وأحيانــًـا لدرجة تبادل الضرب على خشبة المسرح. وفى هذه الفترة فكــّـرت فى كتابة مقال بعنوان سيكلوجية البكاء. ولم أكتبه. ولم أعرف لماذا لم أكتبه، بالرغم من امتلاكى - كما كنتُ أعتقد - لأسباب هذه الظاهرة النفسية.
هذه المقالات – التى لم تــٌـنشر وفــُــقدتْ منى – كانت بداية التعرف على خاصية من قدراتى العقلية : أى دقة الملاحظة، وهى الخاصية - كما اكتشفتُ بعد ذلك بعدة سنوات - التى يتولــّــد من داخلها (ملكة النقد) أو (موهبة الكتابة النقدية)
وعندما أراجع كتبى ودراساتى المنشورة (خاصة فى مجال الفكر) أكتشف أننى كنتُ أستخدم منهجـًـا (عفويـًـا) كان يفرض نفسه على عقلى أثناء الكتابة. هذا المنهج العفوى هو: (تجميع كافة عناصر الصورة الواحدة) بما فيها من تجانس أو تناقض.
وأعتقد أنّ هذا (المنهج العفوى) هو الذى أدخلنى فى مشكلات كثيرة مع المسئولين عن النشر فى مصر. لأننى كنتُ أكتب بلا أية تحفظات ودون أية نزعات أيديولوجية، ودون تبنى أى (مدرسة) فى الكتابة النقدية أو التاريخية. وعندما حاولتُ التعرف على أسباب غضب المسئولين عن النشر، وأسباب رفضهم نشر العديد من دراساتى، اكتشفتُ أنّ السبب يرجع إلى أنّ دراساتى اقتحمتْ (من وجهة نظر الثقافة السائدة) ما يـُـمكن تسميته (قدس أقداس) المنظومة السائدة، تلك المنظومة التى لا يجوز الخروج على خطوطها العامة، وأنّ تلك الخطوط تشمل (عدم المساس) بكتابات بعض المُـبدعين أو المُـفكرين.
كانت أول تجربة لى (عن دخولى قدس الأقداس المُـحرّم على غير المؤمنين به) بعد حصول الأديب الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل ، حيث تصادف وجودى فى مقر مجلة ثقافية يـُـصدرها أحد الأحزاب الرسمية، وهو الحزب الذى منح نفسه صفة (التقدمى الوحدوى) وكانت رئيسة تحرير المجلة الكاتبة الماركسية (ف. ن) التى سبق أنْ نشرتْ لى الكثير من الدراسات. وعندما دخلتُ مكتبها – ومعها بعض الأصدقاء – قالت لى أنها بصدد تجميع مقالات أو دراسات (عن الكتب المُـصادرة) لتظهر فى ملف خاص. فقلتُ لها إننى على وشك الانتهاء من كتابة دراسة عن (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ وهى الرواية التى اعترض الأزهر على نشرها.. وأنّ الدولة (المصرية) خضعتْ لرؤية الأزهر وتوجهاته المُـعادية لحرية الإبداع والفكر. وقلتُ لها إننى أتمنى إلغاء دور الأزهر فى فرض هذه الوصاية الكهنوتية.
رحـّـبتْ الأستاذة (ف. ن) بمساهمتى بدراستى فى الملف . فقلتُ لها (ولا أعرف لماذا – كما هى عادتى الساذجة عندما أكون صريحـًـا مع محدثى وأنبهه إلى موضع الاختلاف مع الثقافة السائدة) حيث قلتُ لها : إنّ دراستى تتناول ثلاثة محاور: الأول أنّ أولاد حارتنا ليستْ رواية، لأنها عبارة عن (تدوين ما سبق تدوينه فى كتب الديانة العبرية) عن قصة الخلق وطرد آدم وحواء من الجنة.. إلخ. المحور الثانى : أنها ضد شعبنا المصرى ، خاصة فى الفصل الذى تناول شخصية (جبل) الذى هو المقابل أو الموازى لشخصية النبى موسى ، والعداء لأجدادنا المصريين القدماء.. إلخ. والمحور الثالث : توضيح موقفى الثابت فى دفاعى عن حرية الإبداع ، ومُـطالبتى بالسماح بنشر (أولاد حارتنا) بالرغم من اختلافى مع محتواها ليكون القارىء (وحده) هو الوصى على نفسه ، وأنْ تكون الكلمة للنقد الأدبى وليس لأعضاء الكهنوت الدينى.
قالت لى الأستاذة (ف. ن) هذا حقك والمجلة تــُــرحب بك وبكتاباتك. بعد أسبوع أنهيتُ دراستى ومراجعتها وذهبتُ إلى مقر المجلة وسلــّـمتُ دراستى فشكرتنى الأستاذة رئيسة التحرير. وعندما صدرتْ المجلة وفيها الملف لم أجد دراستى ، بينما امتلأ الملف بالمقالات التقليدية عن (حرية الإبداع) إلخ. وشاءتْ المُـصادفة أنْ أرى الأستاذة (ف. ن) فى ندوة أدبية فسألتها عن سبب عدم نشر دراستى عن (أولاد حارتنا) قالت بعفوية وبسرعة : يا أستاذ طلعت.. إنت عاوز الأزهر يقفل لنا المجلة ؟ وهكذا اكتشفتُ حجم المأساة (وبالأدق حجم الكارثة) التى تشهدها الثقافة المصرية، فهذه المُـثقفة الماركسية الكبيرة نظرتْ للموضوع من زاوية ضيقة جدًا ، زاوية الحرص على استمرار صدور المجلة ، ولم تهتم باحترام المادة المكتوبة فى دراستى والموثقة بالمصادر. كما أنّ هذه الماركسية الكبيرة ينطبق عليها المأثور المصرى الشهير (فلان بيتوقع البلاء قبل وقوعه) بمعنى أنّ السيدة الماركسية الفاضلة توقــّـعتْ مصادرة المجلة ، بينما – وفق قانون الاحتمالات – لم تضع فى حـُـسبانها العكس ، أى أنّ الأزهر لن يـُـصادر المجلة.
000
وشاء قانون المصادفة أنْ يـُـنهى د. جابر عصفور إقامته فى لندن ويعود إلى مصر. فصدر قرار ليرأس تحرير مجلة فصول (وهى مجلة مُـتخصصة فى النقد الأدبى) وتصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب . وفى حوار بينى وبين صديق سألنى عن آخر كتاباتى ، فحكيتُ له ما حدث معى من رئيسة تحرير المجلة التى يـُـصدرها (الحزب التقدمى) فنصحنى أنْ أرسل دراستى لمجلة فصول. فقلتُ له : أنا لا أعرف رئيس التحرير، ولا أعرف اتجاهاته (غير أنه أقرب إلى فكر اليسار) وبالتالى فقد يرفض دراستى كما فعلتْ الأستاذة (ف. ن) فقال لى أنه يعرف مدير التحرير. وطلب منى نسخة من دراستى ووعد بتسليمها بنفسه لمجلة فصول. وبعد شهر- تقريبـًـا – صدرتْ المجلة، وكانت المُـفاجأة أنْ وجدتُ دراستى منشورة ، وبإخراج جيد ، ودون حذف كلمة واحدة أو التدخل فى النص الكامل كما كتبته عن (أولاد حاتنا) وهنا تكمن المُـفارقة : مجلة تصدر عن حزب (معارض) تخشى نشر دراستى ، بينما المجلة التى تصدر عن هيئة (حكومية) تنشر الدراسة. دراستى كانت بعنوان (أولاد حارتنا بين الإبداع الأدبى والنص الدينى – مجلة فصول – عدد ربيع 1992)
كانت تجربتى مع المجلة الأدبية/ النقدية التى يـُـصدرها حزب (معارض) من جهة و(تقدمى) من جهة ثانية ، هى التجربة الأولى من تجاربى مع الثقافة المصرية السائدة.
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن