العقل والإيمان رؤية نقدية من منظور بنيوي

زياد بوزيان
zanooon.ziad@gmail.com

2018 / 8 / 19

عندما يتفرّج علينا "الله" ؛ الخالق المدبر لشؤون هذا الكون ، فإنه لا يمكن أن ترتسم في ذهن أي عقل بشري فينا كيف يمكنه أن يفعل ذلك؟ مُنصت لنا ، مستغربا ناقما ، متجهما في وجوهنا ، شفوقا رحيماﹰ، ضاحكا علينا..لا يمكن تصور ذلك ، لأن ذلك متجاوز لقدرة العقل ، بينما بإمكاننا تصور ذلك تصور "وجود" لا تصور" كيفي إطلاقي " ؛ تصوّر مُقاس على مدى قدرة العقل البشري في إدراك العالم والطبيعة من حوله ، إدراكا بنيويا لا إدراكا متفيزيقيا ، فالمصنوع يقتضي صانعاﹰ والكينونة تقتضي عدماﹰ والنور ظلاماﹰ والإبهام معنى والذكر أنثى وهكذا.. إذن لا يتنافى هذا الإدراك الذي مصدره العقل بالايمان الذي مصدره القلب : أي الايمان بجارحة القلب فقط للاستدلال على وجود الله ، حتى وإن كان المُبلّغ بوجود الله بشرا مثل باقي البشر و يفعل ذلك بطرق لا يستوعبها العقل والعلم ، وهي الوحي وما إلى غير ذلك من اللاّمدركات التي هي خارج استيعاب طاقة الإنسان العقلية ؛ منغصا قوة الادراك فينا. إذن لا إختلاف بين العاطفة/ الإيمان والعقل بل أن هذه الصفة الإنسانية الفطرية في الانسان(الارتباط البنيوي للقلب بالعقل) مستمدة من صفة الكون في كينونته البنيوية ، فالعقل والايمان يكادان يكونان وجهان لعُملة واحدة تقوى بقوة أحدهما ، وتضعف بضعفه ، وهذا ما نود الاستفاضة فيه بخاصة للفئتين اللتين تدعيان ﺑ"المتطرفين الإسلاميين" و "الملاحدة و الشيوعيين" المتمادين في تطرفهم ، في تجاهلهم معرفيا ﻟ" قَفا العُملة : الايمان" باعتبارهم هم وجههَ ؛ فهم أنفسهم لم يكونوا ليكونوا لولا وجود الاستبداد الديني أي لولا شكلاﹰ من أشكال الايمان المتطرف ؟! فما أحوج العقل إليهم ؛ مقابلةً للارهابيين السلفيين المتطرفين بعصبية ، تنم عن إستعداءا حتى لِأنفسهم ، بالآخرين الملاحدة وهم "وجه العُملة : العقلانية " ضاربين بها دون وعي عرض الحائط ، ليت شعري وهل تمكن العلم اليوم من إثبات باليقين العلمي القاطع من أن الدّيانات السماوية خرافة! هل تمكن من ذلك؟، حتى يستطيع أحد أن يقول ويدّعي بغير وجه حق بل قد عجز عجزا ذريعا في إثبات بطلان سماوية/وحي القرآن.

تعطي النظرية البنيوية هاهنا تفسيرا للكون ينجلي معها كل سديم كما تنجح في إقصاء الفكرين الأصولي الإسلامي (كان موجود في الديانات الأخرى لكنه إنتفى) والشيوعي الإلحادي المتهافتان على إلغاء بعضهما البعض معا دون وعي! لعلّي أكون وجدت في مداخلة تعليقية من أحد القراء حول مقال سابق لي في موقع "الحوار المتمدن" ينفي فيها نفسه وذاته من حيث أراد إثبات وجوده الشيوعي ، بالرغم من أنه لم يقل أنا شيوعياﹰ غير أني أهتديت إلى أنه شيوعي ؛

ــ أولاﹰ بنفيه لوجود الإسلام المعتدل وهذا يعني أنه ليس مسيحيا ، حيث المسيحية كانت نفسها دينا متعصبا وأصبحت دينا سمحاﹰ ، ففي القرون الوسطى كان قداسة البابا يسوس بالدين المسيحي كنظام الخُميني دون وجود نص ما يخوله ذلك في الإنجيل ، إلاّ سلطته الدينية والاجتماعية وبعد ثورة الحداثة التي فصلت الكنيسة عن الدولة أصبحت المسيحية ديناﹰ معتدلاﹰ يسترضى الناس، أما الإسلام فكذلك هو في الحقيقة إسلامين : إسلام معتدل يلقى قبولا عاما وإسلام سياسي (دين ودولة) لا يسترضي جميع الناس بل يسترضي فقط الإرهابيين ، كانت خلاياه نائمة قبل هزيمة أكتوبر المدوية بين العرب وإسرائيل عام 1967 ولم تقم أي ثورة ضده مثلما حدث مع المسيحية حتى أحداث هجومات 11 سبتمبر 2001 ، والهجوم على البرجين النيويوركيين وكان ما كان إثره من تشنج وإحتقان بين الغرب والمجتمع الإسلامي، أقدمت على إثرها مجموعة غربية بإيعاز من منظمة حوار الأديان ، ضمت علماء و رجالات دين من الفاتيكان ومثقفين وسياسيين وحقوقيين بارزين من تقديم وثيقة/لائحة للمسلمين تطالبهم فيها بضرورة تعديل بعض آيات القرآن ، التي قالت أنها لا تناسب الإسلام ﻛ "دين سماوي" وهم يقصدون بها الآيات التي تحض على العنصرية وكراهية الآخر المختلف ـــ هذه الآيات التي طرحت إشكالا مع الآخر وجعلته كافرا ، إنها الآيات المتشابهات أو هي القرآن المتشابه الذي يقبل تأويلا والذي قُسم المسلمين من جرائه إلى مذاهب سنية وفرق عقائدية ـــ بالمختصر المفيد أرادو إدخال الإسلام إلى المجتمع الدولي وقطع الطريق أمام الإرهاب الأصولي السلفي، بتحويل الإسلام إلى دين معتدل معقول التطبيق على البشر ، غير أن هذه " التوصية أو الاقتراح " لم يتم تطبيقه لأن : أولاﹰ معظم الدول الإسلامية هي دولاﹰ دينية دستوريا وليست علمانية ، و ثانيا غياب المجتمع المدني فيها حتى ولو كانت هناك من دول عربية علمانية كتركيا وتونس و أندنوسيا وماليزيا إلاّ أنّ هناك سلطة تسمى سلطة المجتمع الديني ، وسلطة الحاكم الذي يرعى ويصون سلطة المجتمع الديني ، أي أن التجربة الدينية تصبح عامة وهي في حماية تعاضدية مصلحية بين المجتمع والحاكم وليست تجربة فردية حرة مستقلة عن الحاكم والسياسة ، وهي الأقوى ، تسندهما قوة تشبه قوة السّحر في جبروتها تلك التي تُعتبر الحصن والجدار الثاني إن تم إختراق الجدار الأول ألا وهي سماحة الصوفية ؛ بحيث عندما تصر على رد القرآن إلى الله لا أحد بمقدوره الإعتراض، فهو كلام الله الذي لا يقبل التعديل بسلطة رادعة هي سلطة المجتمع.

ـــ وثانيا ، لماذا تصوّر هذا القارئ أن فترة الجاهلية هي المنبت الخصب التي ولد في كنفها الإسلام ، لتحتضنه وتربيه وتهيّئه كي يخرُج كدين يدعو للجهالة والتقوقع متسما باللامساواة والجبرية ، ثم بعد قرون متسما بالعنف الوحشي القذر الغير مبرر؟ لو لم يكن يعاصره ويعايشه في العراق وسوريا وتونس وأفغانستان وكل رقعة إسلام مضطربة ، ظنا منه (القارئ) لمّا مدحت جودة الشعر الجاهلي أن الأمر ينطبق كذلك على الجوانب الاقتصادية و السياسية ، غير أن الأمر فيه اختلاف فالاسلام لم يخرج من عباءة التراث الجاهلي وإنما وُلد على أنقاضه ــــ المتردي أخلاقيا اجتماعيا وسياسيا وحتى اقتصاديا بالنسبة لأصحاب محمد من المسلمين بدءا بجماعة دار الآرقم التي توسعت إلى جماعة تضم الأنصار والمهاجرين وقد ذاقت ذرعا بحربة المحتمع " الجاهلي" كما بذيق الإخوان بالعلمانيين اليوم، لكنه(التراث الجاهلي)هو غير ذلك بالنسبة لغير المسلمين ، صحيح كان النظام فيه نظاما رأسمالياﹰ احتكاريا لا إنسانيا يأكل فيه القوي الضعيف لكنه كان حافل بالتعددية : دينية (مئات الآلهة كانت تعبد في شبه الجزيرة العربية بينما لم يعرف الشرق الأوسط كله سوى بعض الآلهة التي تعد على أصابع اليد) وفكرية: مجالس الأدب ، أعياد مكرسة لأساطير وثقافات ، طقوس المجوس واليهود ، رهبان والقساوسة، الملحدون وثنيون ، سوق عكاظ .. ، فالنظام السياسي القبلي في الجاهلية لم يقف أمام حرية التدين والرأي وممارسة الحياة ، كان عصرا الزّهو بالنسبة للمرأة و غلمان الأشراف وشيوخ القبائل وساداتها ، حتى أن شعره الراقي فنياﹰ بأضعاف المرات عن ما قيل في العصر الإسلامي الطويل كله ، والذي وصلنا منه الكثير طارقاﹰ كل مناحي الحياة ، يكشف بخصائص جمالية في منتهى الرّوعة عن حرية جنسية وطقوسية ومواسم الاحتفال وتكريس ونبيذ وغيرها من مظاهر الحرية التي لا نجدها حتى في أيامنا ، أتدعو كل هذا قذارة؟! فهل حقاﹰ تراث الشرق الأوسط اليوم خرج عن الجاهلية؟ أليس هذا ما تريدونه أنتم معشر الشيوعيين؟ ، هذا كله كان موجودا في الجاهلية ولكن الإسلام عبّه وفرغه من محتواه الحقيقي ثم تجاوزه ملصقاﹰ به كل الأوصاف السيئة ليكتب له العيش على حسابه ، فتراث الشرق الأوسط العفن ودخانه الحالك كما تقول نبت على أنقاض الجاهلية وليس من رحمها ــــ ولد من رحم دار الأرقم و غار حراء ــــ و"الجاهلية "هي التسمية التي ألصقها الإسلام بعصر زاهي كان سائدا قبل سنة 620 ميلادية في كل مناحي الحياة بخاصة في الأدب ولما نقدت الحداثة الغربية اليوم تراث الشرق نقدت فيه روح الإسلام المفارق للطبيعة ولم تنقد فيه روح تلك الفترة التي أسماها الإسلام " الجاهلية" المتناغمة مع الطبيعة؛ ونقدت ثقافة الاكراه والاضطهاد وثقافة القتل والقمع ، التي اضطلع بها المجتمع الإسلامي واستقبلت تلكم الحداثة على أراضيها في السوربون وكامبردج وييل شلة من المفكرين والنخب العربية العلمانية على أمل أن يعودوا إلى أوطانهم ويساهمو في التحرر من الفقر والتخلف ، بيد أن حكومات مجتمعاتهم الدينية أعاقت عملهم على محدوديته حتى ظهور الإسلام السياسي بعنفه الهمجي بداية من التسعينيات وصولاﹰإلى محن الربيع العربي وتداعياته المؤلمة التي أيقظت الضمائر الحية ، فتناسل عددهم وزاد ، ونحن قُلنا سيتوالدون ولم نقل قد توالدوا ففكرهم النخبوي مازال في مرحلة المخاض حتى يكون بمقدوره انتاج فكر وابداع يُنهض ويبعث همم وقرائح من بعد سبات طويل ، فالحرب سبب ذلك التوالد في كل من سورية واليمن مازالت مشتعلة.

على ذِكر التوالد المفرط للمفكرين والكتاب العرب العلمانيين الحداثيين وتناسلهم بعد وصول أحداث الربيع العربي لنهاياتها والتي أرادت بالعرب استنئنافاً لسباتهم ، الذين يقول القارئ أنهم لم يقدموا شيئا! فلينظر إلى المواقع الاجتماعية والمدونات وقنوات اليوتيوب[*] نتيجة فضاء الحرية والأمان المتاحين ، كم استقطبت من أعداد ضخمة منهم ؟ طالعين بأفكارا نيّرة لم يكن ليطلع بها الوطنيين الرجعيين والإسلاميين بالتراكم والتقادم ، ونتيجة سياسة الاقصاء والتهميش الذي ضُرب عليهم من التيارين السالفين الذكر لعقود طويلة! كأنهم بعد أحداث الربيع العربي قد فُكُوا من عِقال ليدلوا بأفكارهم الحداثية والعلمانية الإستنارية ـــ التهميش على أساس القناعة الفكرية خاصية تميز العرب دون غيرهم ، فلينظر على سبيل المثال كم من كاتب مصري أو ممثل مصري عندما يريد أن يشمت في الفنانين المسيحيين ويمدح غيرهم يروي النادرة التي أضحى جميع الفنانين يحفظونها وهي: وجود فرق كبير بين عبد الوهاب المسيري وإدوارد الخراط وبين عادل إمام ومحمد صبحي مع أن الواقع يبين عكس ذلك تماما ــــ فما أفسد بنية المجتمع العربي هو التطرف والشذوذ الفكري والاستقطاب الحاد القائم على الإلغاء والاقصاء بتوظيف الاسلام السياسي والفكر المتطرف المُقصي للآخر المحتقر له ، وهما في ذلك سواء بسواء في جهالتهم عامهون.

غير أن التقابل البنيوي الذي ما برحت تؤكده التجربة العلمانية الاستنارية العربية التي جوبهت بالتيار الإسلامي المتطرف لا تعدو من أن تكون تجلٍ من تجليات المنظومة الفكرية العربية الراهنة فبين الميتقزيقيا/الايمان والعلم/العقلانية وبين الفكرة المجردة السديم والقوة الايحائية للغة ينجلي المعنى ويتضح، بل يتسق بيت الكون كله وينتظم وليس بيت عالمنا العربي اليوم فحسب. فسنّة الله في خلقِه أن يرى كلٌ من وجهته وزاويته ما يرى ، مُختلفاﹰ عن وجهة الآخر، فلو أراد غير ذلك لفسدت..وسيظل يراقب ، والإنسانية تجتهد تؤول وتعقلن ، تفك وتعقد.. بل تبحث عنه وعن كينونتها بناصية العلم المحمول طوعا أو كرهاﹰ من إحدى جوانبه على الإعتقاد.

[*] - سنهتم في مقالاتنا القادمة بحول الله بهذا الموضوع بخاصة مع أولئك الذين أنشأوا مواقعا إلكترونية ليدخلوا مباشرة عن نقص فاضح في التجربة والكفاءة المعرفية و الأكاديمية إلى موضوعات حساسة وعصية كالذي نحن بصدده ، أي نقد الفكر الديني وما أدراك ما نقد الفكر الديني! وهو ما ينطبق على أغلب أقلام موقع صحيفة المثقف وموقع قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي وموقع الحقيقة السوري وموقع مدونة جيرون.حسام الدين درويش على سبيل المثال لا الحصر. ما بال القارئ لا يأبه بهؤلاء وأولئك الفيالق من المفكرين الحداثيين الإستناريين من أحفاد أدونيس الذين إمتلأت بهم مواقع الانترنت ولا يهتم إلاّ بأولئك الذين يثيرون جدلا يعزوهم طموح الشهرة وتكوين المجد الإعلامي لا غير! لهؤلاء نقول أن "ركاكة القرآن" أمر مستبعد جدا بل وعصي على التحليل والأخذ بيسر والمتابعة على غير المتمكنين باقتدار وخبرة : ذلك أن خاصية التفقه في اللغة العربية بسياقاتها الاجتماعية عند الأعراب وأقحاحها وعلماء التراث الإسلامي شيء مفروغ منه ؛ فبالنسبة لأخطاء القرآن النحوية المزعومة نقول لكم هيهات ، عليكم بالتريث، لئلا يصيبنكم عمى الذين من قبلكم. أما بالنسبة لتأويل القرآن المتشابه وفهمه فهما مختلف فالأمر ها هنا متاح للمتخصصين وحدهم وهو سبيل لإنعتاق العرب والمسلمين من الركون والتخلف...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن