مشروع ميت

سمر المحمود
summer.rrr@hotmail.com

2018 / 8 / 15

في غرفة الاستقبال يصطف المرضى كعبيد للانتظار ومحجوب ساهما بالحجرة الواسعة، تكة الساعة التي طالما أرقته تزدار تضخما كأنما ابتلعت كل الأصوات وتركت الوجوه مخرسة بتجهم مقلق، جعل يطرق الأرض بقدميه دقة تلو الأخرى، كأنما سكنه هاجس الساعة
- محجوب هتفت الممرضة بصرامة دون أن تلتفت إليه
نهض متثاقلا مترددا وكأن الانسحاب خيار للحياة، كل ما حوله يوحي بالتواطؤ ونظرات المرضى تتعلق به كأنما تنعته بالجبان، حمحم متجها نحو الممر المؤدي لغرفة الطبيب الذي بدا كبرزخ ضيق بالكاد يتسع لقدميه وعند مقبض الباب تجمدت يداه – ماذا لو أظهرت الصور الشعاعية إنه مريض؟ أو ربما .. سليم؟ يخف حماسه لسبب لم يدرك كنه
يفتح الباب متهيئا لاستقبال حدث لا يد له فيه ما اشعره بسكينة أن قوة خفية تدخلت لتقرر مصيرا أضحى من رتابته
كابوسا مملا
- أهلا تفضل بابتسامة واجمة استقبله الطبيب الذي بدت ملامحه مغيبة وكأن غمامة تصدر صوتا نسويا رفيعا
لم ينبس ببنت شفة جل ما يحتاجه هو الحكم الذي صدر بحقه، بينما يترقب الطبيب الذي أخذ يرمش كأنما يغالب غباشة على عينيه وهو يتحدث عن مرض عضال حيث بدا جليا أنه معتادا على التعامل مع المرضى الآيلين للموت بطريقة تخلو من التراجيديا
أشاح محجوب بوجهه ليخفي خوفه وتطلع نحو عقرب الساعة يتابع دورته بكل حيوية متسائلا عن الساعة التي ستقتلع بها عيني الرحمة ليرقد جثة هامدة بلا حراك
- كم بقي لي من الوقت استفسر بصوت مخنوق كأنما يغالب دمعه
- لأكن صريحا معك ربما خمسة ربما ستة أشهرأو سبعة ليتابع بلهجة واعظة عن ما سماه الأمل وعدم اليأس من رحمة الله ، مكتفيا بوصف بعض الأدوية المهدئة مفسرا أن جلسات العلاج الكيميائي ما عادت مفيدة في مرحلته المتأخرة من السرطان

في الخارج لا شيء تغير، لاشيء يوحي بالتغير،الغمام التشريني يتابع سباحته متصارعا ليخطف وجه السماء والقمر يطل كل هنيهة بابتسامة مضيئة ظافرة، كأن التواطؤ ذاته طارده من فلك العيادة ليشعر بالضآلة (لا أحد توقف لينعيه) فجعل يمشي مسرعا مسابقا إياه كشبح يقطع أضواء الميناء كلما تخللها يطارده آخر بلا ظل .. ليغزوه جوع مؤلم شره لحياة انسابت في فتور، جوع حد اللهاث للقبض على عقرب الساعة حتى ينال من لحظاته الأخيرة كل ما اشتهاه، كل ما منعه جبنه من ارتكابه، ارتكاب الفرح ، جوع أن يعاجل الساعات ويلتهمها قبل أن تلتهمه في الليل أو في النهار أو ربما فجرا الوقت الرتيب للموت ، قرر أنه سيقضي ليله متشردا ما أشعره بغبطة تنفست مسامه حرية غير قابلة للمساومة فمذ توظف في إحدى الدوائر لم يسجل غيابا واحدا حتى انه أصبح مثار سخرية زملاء العمل كأنه استحال رجلا آليا ملقما ، الصباح للعمل والنهار للقيلولة والليل بقضيه بانتظار الصباح التالي ، اخذ يسير بسرعة ليحفز أفكاره التي أخذت تتوالد بحيوية مع خطواته الواسعة
- كم بقي لي من الوقت؟ خمسة أو ثلاثة أشهر أو ...ربما تسعة أشهر، لطالما تشاءمت من الأعداد الفردية فميلادي في السابع من حزيران من عام ما كان ينتهي بخمسة .. ربما سبعة .. محدثا نفسه
تنشق بعمق رائحة البحر المالحة وراودته راحة لحظية خلفت فراغا مبهما كأن مرضه حرره من حلم حرسه كنمر، المستقبل، الزواج وتأسيس أسرة: حسنا سأستقيل من الوظيفة وأقتات من القليل الذي ادخرت، وفكر بحسرة زفر معها نسيم البحر الذي غسل رئتيه، كم أخمد الحرائق في ملذاته، كم توارى خوفا من صديقة تصطاده، قضى عمره في خطة تتماشى مع حياته الوضيعة ومرتبه الزهيد. والآن .. أنا .. بينما عيناه تمشطان بعض المنازل والمخازن التي مازالت مضاءة، يقتحم أحدها مسرعا لشراء السجائر ومازح البائع قائلا: لا فرق أي نوع إنها المرة الأولى
وشلح نفسه على أقرب مقعد يطل على البحر وجعل ينفث سيجارته بلؤم وشراهة كأنما يتحدى سرطانه، فبدت أضواء السفن زائغة متهالكة تعبث بها ريح ناعمة كأن خدر النيكوتين سرى حتى عينيه بلذة مذهلة جعلته يلوم نفسه على ما أضاعه
- لكن؟ ردد -بضعة أشهر منحتني الحياة، سأودع نساء الأرض، سأشن معاركي الخاسرة والرابحة، قد أنضم لأي من المسيرات لأي من ....، سأندد، سأؤيد، سأعارض، أجامل .. أشتم، يضحك ساخرا: من يستوقف ميت فأنا ميت في كل الحالات
تنهد قليلا وأشعل سيجارة من أخرى محتضرة، وتابع محدثا نفسه: سأمنح عذريتي عذرا على التأخر ما أثار حميته ففرد كتفيه بطريقة رجولية ونهض قاصدا أقرب ملهى ليلي سمع عنه ... كان الغيم مازال يتصارع في السماء ليبتلع ما تبقى من سحابات دخانية صغيرة حتى بدت كالحة سوداء مكفهرة فوق ذاك الملهى الذي بدى بدوره كيقطينة مزينة للعيد بأضواء حمراء صفراء خضراء، صفن به قليلا وتخيل تلك المرأة تجمح نحوه على فراش قذر، لتلعقه بشراهة فشعر بغثيان وقال بصوت مرتفع: ربما في الغد .. أجل في الغد مفكرا أنه الآن في طور وضع الخطة البديلة .. لكنه لن يتردد في الغد وتابع مسيره دون وجهة محددة
أصبحت الحركة قليلة في الشارع توحي بانتصاف الليل، ينقبض صدره لذاك السكون مفكرا أنه في هذا الوقت البارح كان يغفو كأهبل غافل، أنا مريض صرخ .. ليبتلع صرخته الخواء فتدحرجت دمعة ساخنة حتى الأرض فجعل يرقب حذاءه الذي اشتراه العام الفائت وتذكر كيف مضى الأسبوع الأول محاولا لفت انتباه رفاق العمل، وكرر بلهجة مثابرة: أنا مريض ليسمعه أحد ما، ربما أنثى لتواسيه ليقول لها بلهجة شعرية: أفتقد لاستنادك المثير على صدري ، تخيل وتخيل .. خيالات تناطح خيالات، قرصان يعب الموج ولا يغرق، بطل جاب بقضيته الأرض وعاد بضريح إلى مهده المتعب .. تخيل ليله الأخير وربما صباحه الأخير
- يفضل الموت في النهار إن خيره الموت ستكون تلك رغبته الأخيرة .. ساعات مضت حين ابتلع السكون كل الأصوات إلا نبض قلبه المخيف كتكة عقرب الساعة
في اليوم الثاني كان محجوب قد اتجه مباشرة نحو عمله بعد أن قضى الليل متسكعا قرر ألا ينام بعد الآن .
***
إلى الطابق الخامس في المستشفى تم نقله ، يتمدد محجوب على السرير كآلة انتهت صلاحيتها ، عيون الممرضات البيضاء ترقبه بحزن أجفله ، تقترب منه ممرضة تلبس رداءا أبيضا تطعنه بنصل تسحب منه الدم كورود حمراء تمشي في صف عسكري عبر أنبوب بلاستيكي ، ذاك التواطؤ استحال شفقة تأكل من يدي الممرضة وكلماتها المواسية ، من وجنات عائلته المقطرة بالدمع ، لكن شفقته الأكبر كانت على وروده الحمراء مفكرا كم سيبقى طريح الفراش ، صوت ذاك العقرب يتضاءل ، يتلاشى ، كأنما هدأته الشفقة عليه أيضا ، صخب أقوى تناهي إلى مسمعه ، ضحكات الممرضات في البهو المجاور ، حركة الأطباء ، صراخ موت وصراخ حياة ، ذاك الضجيج كزخم الحياة وهو متكور كجنين في رحمها ، صوت يخاطبه :
مرحبا هنا تجتمع ملائكة السماء .. فكر في سره هل مت؟ وتلك الجنازة البيضاء جنازتي والكل متشح بالبياض وهل صار الأبيض لون العزاء لون المجرات حين توشك على الهلاك
محجوب .... أحد ما ينادي باسمه .. حول سريره يتحلق أهله .. يلمح وجه أخته المتغضن المنتحب لثانية تحمل طفلها الذي تعتري وجهه دهشة كأنما أبصر ضفدعا .. تنطفئ الصور، يغمغم ليت أحدا يخبره إن مازال حيا ..كم مضى على غيبوبته؟ لكن أحد لم يجبه
صباحات كثيرة مضت ومحجوب مستسلم للغيبوبة .. ذلك اليوم حين فتح عينيه كانت أشعة الشمس تتمدد لتعانق غرفته متسللة عبر شفوف الستارة، حملق طويلا في النافذة البعيدة محاولا النهوض ليقتلع ذاك النصل ليتابع خطته البديلة
ولكن فاجأته حورية صهباء صفراء حمراء لم يميز تمازج ضيائها، اقتربت منه حتى أنها قطعت أنفاسه، مررت يديها على جسده وتمددت فوقه، شرعت تشم أنفاسه وتلتقط لهاثه الملهوف المتخبط فاشرأبت في روحه رعشة حسناء، أخذت تلثمه لتزرع شبقها في روحه .. رائحتها آه .. تنهد .. رئة بحر
كرر محاولة النهوض لكنها بسطت قامتها قدميها يديها بشراسة حتى تغلغلت في مسامه كأنما تنافس سرطانه
رباه همهم مذعورا ليسألها من هي؟ بالكاد فتح فمه فامتصت لعابه وشعر بأنها تنتزع روحه كرداء سميك حتى غلبه النعاس نعاس شديد كمخمور .. وشرع يهذي: خمسة أشهر ربما سبعة
والأصوات تبتعد، وعقرب الساعة صامت، كأنما الشمس ابتلعتهم بكل ذاك الفضاء يتابع هذيانه يغالب نعاسه ليقف عند حقيقة ما .... خمسة أشهر، سبعة أشهر .... تك تك تك



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن