إشكالية التخلف في المجتمع العربي(2من4)

سعيد مضيه
madhiehs@ymail.com

2018 / 8 / 13

إشكالية التخلف الاجتماعي للمجتمع العربي (2من 4)
الأبوية المحدّثة
الدكتور هشام شرابي
النظام الأبوي ينطوي على خلخلة مهيمنة يستحيل على الأصولية احتواء مظاهرها. والنقد العلماني، النقيض السياسي – الثقافي للأصولية يعاني ازمتين :محدودية تأثيره السياسي (لافتقاره الى التنظيم السياسي) ومواجهته جماهيريا (دينيا) يناقضه قدرة الأصولية على قلب المفاهيم وتعبئة الجماهير ، حيث جرت هجمات واغتيالات لعلمانيين ، واستمدت الأصولية دعما سلطويا من النظام.
لم يتوافق الاتجاهان في التوصل الى تطوير خطاب نقدي وتحليلي أصيل ومستقل قادر على معالجة معضلات الهوية والتاريخ والغرب. إن البحث عن الهوية أو ترسيخها بنمطيها العلماني والأصولي قد جرى في فضاء سياسي – ثقافي تشابك فيه التاريخ والغرب على انهما قطبا الصراع، " فلجأ كل نمط منهما الى الانجذاب الى قطبه الذي يستلهمه مصداقيته على دعوته وتوفير اسس لرؤيته الهوية في الإسلام او القومية العربية(27) .
أثبتت الثورة الإيرانية إمكانية الإطاحة بالنظام الأبوي، ولا يستبعد الباحث إمكانية انتصارها في باكستان ومناطق اخرى. .
وبالطبع فإن محصلة الصراع بين العلمانية والأصولية" لن تتحدد بتاثير عناصره الداخلية فقط ؛ فلا شك أن هذه المحصلة "ستتأثر بالاتجاه الذي يسلكه التاريخ العالمي، أي بمواقف الدول الكبرى من هذه المنطقة الحيوية في العالم ، إضافة الى التطورات الناشئة في بلدان العالم الثالث."(30)
نقل الباحث عن ماركس قوله أن النظام الأبوي مرحلة تطور سبقت "التطور الكامل لأسس المجتمع الصناعي"، ويقصد بذلك الإقطاعية الأوروبية. في العصور الوسطى كانت الأرياف وليس المدن مشهدا لحركة التاريخ. "المدينة الآسيوية ظاهرة أبوية محددة كانت معسكرا ملكيا وليست بنيانا مدنيا؛ فإذا أراد المجتمع العربي أن يبقى ويستمر فلا بد من تغييره تغييراً جذرياً شاملاً ، عن طريق رؤيةٍ بعيدة المدى ونوعٍ من الممارسة الجماعية تتخلص من الأبوية رمزاً وسلطة وتنتهي بتحرير المرأة قولاً وفعلاً وبالمشاركة في صنع القرارات على جميع مستويات النشاط الاجتماعي العام.

في الفصل الثالث-التشكيلة الاجتماعية للأبوية المستحدثة – نظر شرابي إلى النظام الأبوي تسلسل تبدلات طرأت منذ عصر الجاهلية مرورا بالدول في العصر الوسيط ثم السيطرة العثمانية حتى القرن التاسع عشر.
البدوية التقليدية السابقة على الحداثة تبدي مقاومة عنيدة بوجه التغيير البنيوي. غدت الأمة الإسلامية قبيلة كبرى وحد الرسول الكريم القبائل وطوع الروابط الاجتماعية والنفسية ضمن بنية المجتمع الإسلامي(48). نشأ في عصر الإسلام نظام تشريعي قوي في مراحل مبكرة نسبيا(القرن السابع).غيّر الإسلام صلة القرابة ودعّم العلاقات الأبوية داخل أشكال اجتماعية / اقتصادية متقدمة. استمرت الرابطة القبلية في جميع التشكيلات الأبوية عصبوية تعادي الخارج. العلاقات العصبوية محددة في الداخل بالطاعة والتكافل ومع الخارج بالخوف من الانتقام.
متى استقرت القبيلة تصبح عرضة لاوضاع خارجية شتى – مناخية وجغرافية الخ. يتحكم بالمجتمع المدني نظام القرابة في الريف وا لقبيلة.

المجتمع البطركي يحبذ شيوع العائلة الموسعة (الأبوية). ويحد من انتشار الأسرة (الديمقراطية)." الأبوية كلية نفسانية /اجتماعية تنطوي على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي الى اقتصاد وثقافة واضحي المعالم . في ضوء هذا المنظور فإن أنجع السبل لفهم الأبوية هو الاقتراب منها من منطلق الحداثة ، أي نقيضها الجدلي، الذي حل مكانها تاريخيا(35).

تختلف الأبوية عن الحداثة وفق الجدول التالي:
المقولة الحداثة الأبوية

المعرفة فكر /عقل أسطورة معتقد
الحقيقة عملية /نقدية دينية /مجازية
اللغة تحليلية بيانية
السلطة ديمقراطية/اشتراكية سلطنة أبوية مستحدثة
العلاقات الاجتماعية أفقية عمودية
التشريع الاجتماعي طبقة عائلة ،عشيرة، طائفة

الحداثة مفهوم أوروبي محصلة عملية تاريخية زمن النهضة والإصلاح. تنظر الحداثة الى الحقيقة ملموسة وواقعية ، رفعت حجاب الوهم الديني والسياسي وكشفت جوهر العلاقات الاجتماعية؛ فأماطت اللثام عن خيارات وآمال جديدة ووفرت إمكانية تمرد. والحداثة مجتمع أصيل منفتح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ قواه علمانية ونمط تفكيره علماني . ومع ماركس وعلم الاجتماع الألماني توفر تفسير جدي للتاريخ والتغير التاريخي على انهما يستندان إلى أسس اجتماعية واقتصادية مادية(37).
تناول الشرابي الأبوية العربية انطلاقاً من تصور محدد لبنية سيكولوجية –اجتماعية من الوعي المنطوي على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي إلى اقتصاد وثقافة واضحة المعالم، شكلت القاسم المشترك لجميع المجتمعات العربية رغم اختلافها من حيث المظهر. "الحداثة البطريركية وعي منمط، يعتمد على مثقفين يحافظون على قيم النظام منعكس عن الخارج، تعوزه الاستقلالية والإبداع والنقد. والذي جعل من قيام الدولة امرا طبيعيا بالنسبة الى المجتمع الأبوي المستحدث هو أن تلك الدولة لم تكن غير السلطنة القديمة في ثوب حديث. فالخاصية المميزة للدولة ، مثل الاستثمار الشخصي (شرعا وجورا)بالسلطة الذي يتمثل في أداة الدولة القمعية القسرية، والذي يستمد شرعيته ليس من مصدر قانوني (دستوري أو حتى تقليدي) ولكن من موقع القوة والتفرد بها. في هذا الواقع يصبح الفرد العادي فاقدا لفعاليته ـ يتحول الى ذات بلا مواطنة، ويتجرد حتى من حقوقه الإنسانية والمدنية. ويفقد القدرة على التأثير في القرارات ذات العلاقة بمجتمعه الأوسع".(37)

الثورة البرجوازية ادخلت أكثر أشكال الحداثة دينامية –الهياج والحركة والتغيير المستمر . صاغ ماركس هذا المفهوم في البيان الشيوعي. الحداثة دينامية جدلية على مستوى الفكر وثورية على مستوى الممارسة (38). والحداثوية وعي بالحداثة رؤية ترمي الى تغيير الذات وتغيير العالم ، وتعبرعن نفسها ليس في "العقل" و"الثورة" وحسب ، بل ايضا في الفن والأدب والفلسفة.

الأبوية المستحدثة ظاهرة محلية ناجمة عن الاحتكاك بالغرب، في العصر الحدیث وأعادت إنتاج خطابھا التحدیثي في العصر الحدیث عن طریق اللغة والأدب. مفهوم محدّث دلالة على توفر عامل خارجي يؤثر في التطور الداخلي، بدفعه الى التحول. افراد محدَثين، نخبة محذثة او شريحة محدّثة، يتشوه التطور الذاتي ليتخذ شكلا لم يكتمل نضوجه. جميع المجتمعات الأبوية تفككت بتأثير الحضارة الأوروبية. والتنافر الداخلي والتبعية دفعا بهذه الحضارة الى اتخاذ أنماط مشوهة مختلفة عن النمو التحديثي(40).

تتميز البنية المستحدثة بغياب التقليدية الأصيلة وبالمقدار نفسه غياب الحداثة الحقة . الثقافة التحتية مع التنوع المحدّث شاعت على الأقل في صفوف المتعلمين في جامعات الغرب فنشأوا مثقفين محدّثين . " ليس للحداثة الأصيلة من عدو أشد بأسا من هذا التشكل الاجتماعي الذي يعاني انفصاما حضاريا(41). وكما أورد البرت حوراني فأن "تكون مشرقيا يعني أن لا تنتمي الى مجتمع معين ولا تملك ما هو في حوزتك . هذا واقع يتجسد في الضياع والادعاء والتشاؤم واليأس"(41). النماذج في نظر المثقف المحدّث اصنام ، محاكاة ، وامتثال. تنقل عن الحضارة الرأسمالية قشورها المهترئة، ولا تنفذ الى اللب. لا يؤخذ بالأفكار والممارسات والمؤسسات، عبر النقد؛ ولكن بالإشارة الى نموذج القومية العربية مرجعيتها أوروبية، وكذلك السياسة ببعديها العقائدي والعملي انعكاس للنماذج الأوروبية. والحداثوية في ظل الأبوية ممارسة صنمية ثابتة غير نقدية. هنا تبرز بشكل واضح الخاصية المشوهة والزائفة للحداثوية العربية " (42).

مع انتشار التعليم وتعاظم حجم المتعلمين في جهاز الدولة وفي المجتمع المدني نشأت مؤثرات اقتصادية أحدثت تغيرات طفيفة على مظهر العلاقة الأبوية دونما تغيير في جوهرية

1- مستوى تحصيل علمي فلم يعد المثقف يعتمد على الأب؛ ويضطر الأب للدخول في علاقة جديدة في المنزل ومع أفراد الأسرة.
2- الديمقراطية مساواة بدل الخضوع،
3- العائلة الحديثة تعتبر المراة المستفيد الأول ،حيث تحصل على قدر من الحرية ، شرط التحرر النسوي التعلم والعمل فيتحقق الاستقلال الاقتصادي.
برزت داعيتان لتحرر المرأة ناقشتا مختلف علاقات المرأة وقضاياها ، بما في ذلك مشكلة الجنس. إحداهما نوال السعداوي عالمة النفس المشهورة والأخرى فاطمة بنيس عالمة الاجتماع المغربية. انتهجت الاثنتان توجها عقلانيا مختلفا جذريا عن توجه الإصلاحيين المبكرين، الذي اعتمدوا المنهج البياني والسطحي. غير أن تحرر المرأة يظل قضية تربوية تمتد حقبة طويلة وتكافح المرأة من اجلها من المهد الى اللحد(54). المجتمع المدني غابة لا يحظى بالاحترام فيها إلا الأغنياء وذوو السلطة.

يمارس اليابانيون الطاعة داخل الإسرة وفي المجتمع الخارجي ، بينما العرب يمارسونها في الداخل (الأسرة والعشيرة والطائفة) ويعتبرون ما وراء ذلك معاديا. كان الوطن العربي حتى القرن التاسع عشر مؤلفا من تجمعات مدن متناثرة ومعزولة واحيانا مندثرة وقرى متخلفة وفلاحة فقيرة وبدو غزاة(55).

في الفصل الرابع – بنية الأبوية وعلاقاتها الاجتماعية- يرى الباحث ان الطبقية لا تستوعب موضوعة النظام الأبوي؛ فهو يناقش التشكيلة من منظور يصور التطور التاريخي للمجتمع الأبوي المستحدث ونشوءه ، إضافة الى استيعاب ديناميته الداخلية. المنظور الماركسي يرى نضوج قوى الإنتاج الحافز للتطور بصفته عملية ارتقاء واسعة، بفعل خاصية ثقافية لمجتمعات معينة. حين يغدو الواقع الاجتماعي اكثر تحديدا فإنه يظهر في مادية وتعقيد كاملين؛ لذا يتوجب على التحليل النقدي أن يكيف نفسه مع هذه المقاربة الأضيق في مواجهته ظواهر اجتماعية/ نفسانية وعبر استفادته من شروح ومقولات العلوم الاجتماعية المختلفة.، بخاصة علمي النفس والاجتماع(59).

حقا فقد أثرت الدراسات الإنسانية العربية الفكر العربي بمعطيات علمية شملت علوم النفسوعلم النفس السياسي وعلم النفس الاجتماعي والعلوم الاجتماعية ودراسات في التاريخ العربي وتاريخ فلسطين القديم. يتوجب القول في هذا السياق ان معطيات العلوم الإنسانية لم تدخل الثقافة الوطنية العربية ولم ترشد النشاط السياسي والاجتماعي أو الثقافي في المجتمع العربي. في ظل النظام الأبوي المستحدث حصل جمود سياسي وثقافي مضت الحركات السياسية في بيات طال عقودا متتالية. على سبيل المثال يعربد النظام العنصري في إسرائيل ويعلن الدولة القومية على نظام الأبارتهايد بحجج توراتية فندها علم التاريخ والأبحاث الأثرية في فلسطين. لم يرتفع حتى تاريخه صوت سياسي او ثقافي في الوسط العربي أوقياداته يتحدى ادعاء اليمين العنصري اليهودي مستندا إلى معطيات حديثة برزت خلال فترة البيات تؤكد بطلان حكايات "الوطن التاريخي لليهود" و أرض الميعاد" و" أرض إسرائيل" .في الماضي صدق المتعلمون حكايات التوراة وراودهم اقتناع بأن لليهود تاريخ بفلسطين يمكن أن يستأنفوه؛ غير ان الأبحاث الأركيولوجية دحضت هذا الزيف وبات لليهود في فلسطين فقط حق افقامة طبقا للقانون الدولي الحديث على قاعدة افقامة ردحا من الزمن. ليس المجتمع اليهودي بفلسطين إلا مجتمعا استيطانيا طارئا على فلسطين مثل المجتمعات الاستيطانية المندثرة في جنوب إفريقيا وموزمبيق والجزائر ، وهو يسعى لأن يتوطد مثل المجتمعات الاستيطانية في القارة الأميركية وأستراليا ونيوزيلنده، بعد أن يشرد أصحاب البلاد الحقيقيين او يجبرهم على الانزواء في معازل . هذه الحقائق لم توظف سياسيا في تحدي مفهوم الدولة اليهودية ولم توظف ثقافيا في حشد وتعبئة مقاومة شعبية حاشدة لنظام الابارتهايد الإسرائيليأ وإفشال نواياه.
يشير الباحث شرابي في الفصل الأول الى الانتفاضة الفلسطينية(1987) وحركة التغيير في المعسكر الاشتراكي، حدثان بارزان تحققا بعد ان فرغ من كتابه فلم يشر إليهما؛ لكنهما يمثلان، من وجهة نظره، نمطا جديدا يتميز عن الثورات والانقلابات التقليدية وصراع الأحزاب الإيديولوجية التي هيمنت على الساحة السياسية منذ بداية هذا القرن(العشرين).
إشكالية المقاومة الفلسطينية تمد جذروها في تربع الأبوية المستحدثة على قلب المجتمع، تفرض علاقة الولاء والخضوع، حيث المقرر هو إرادة ذوي النفوذ. يقتبس الباحث رؤية عالم النفس التحليلي اللبناني، علي زيعور ، أن "الذات منشاها اجتماعي، والتكوين الاجتماعي للنفس الذي لقي تحليلا دقيقا لدى المحلل النفسي الماركسي فيلهلم رايخ، رأى عملية التنشئة الاجتماعية تشترط مقدرته الداخلية على الوعي وتصوغ فهمه لنفسه وللآخرين"(61) . النفسانية العربية تنتج من التنشئة الاجتماعية في ظل العائلة الأبوية. التبعية ترتكز على الخضوع ؛ بينما الاستقلال الذاتي يرتكز على الاحترام المتبادل والعدالة والقانون لا يخدم المجتمع ؛ فهو خاضع لنزوات النظام الاجتماعي – السياسي القائم. يغدو الهدف من العقاب ليس الإصلاح ، وإنما استعادة حرية العلاقات الاجتماعية القائمة وحمايتها"(66). حيال هذا الواقع يغدو التآمر والتمرد بديلان للمعارضة الشرعية والنقاش العلني. موهبة الإبداع تكون الضحية؛ إذ يسري هذا التأثير على الجامعات والمدارس والمستشفيات ووكالات الحكومة والتجمعات الحرفية ، إضافة الى بيروقراطيات المؤسسة العسكرية والدولة والحزب "الثوري" . الأبوية المحدّثة (الأبوية المستحدثة ) هي السبب وراء كل محاولة يقوم بها المجتمع لردع الحداثة والحفاظ على الوضع القائم"(66).

العائلة هي أصل المجتمع الأبوي المستحدث ونموذجه؛ خاصة في علاقات التسلط والهيمنة والتبعية التي تنعكس في بنية العلاقات الاجتماعية .وسائل التربية المجتمعية لا تعد الفرد لأن يكافح ويقارع او يناقش؛ الأب اداة القمع الأساس والعقاب مصدر نفوذه. ومصدر كل ذلك خرافات تمنع التغيرات الاجتماعية. لم تتجذر العقلية العلمية في تفسير الظواهر ولم تنظم العقلانية نشاط الأفرد والجماعات؛ ومن ثم فالفشل عاقبة ومآل معظم الممارسات العملية، خاصة في قضايا المقاومة الوطنية. هكذا فالسمات الشخصية لا تصدر عن "طبيعة " جوهرية، بل عن سمات تعود الى الوضعية الاجتماعية.
وحتى سن السابعة يظل الطفل معتمدا على الأب؛ وفي غياب الأب يفقد قانون الطاعة فاعليته؛ وفي الحادية عشرة أو الثانية عشرة تصبح الطاعة دائمة حيث ينكفئ الفتى وتتمثل له صورة الأهل والسلطة. يدور في مواقف متناقضة يغدو الاحترام حينئذ أحاديا، في نظر بياجيه ، عالم النفس السويسري، أما الاحترام المتبادل فيولد في الطفل أخلاق الحرية والمساواة والعدالة.
القاعدة المرشدة ان النظام الحداثوي يحترم القوانين أكثر من احترام التبعية، ورغبة تغيير القوانين ليست خطيئة ، والتعديلات المدخلة على التشريعات تغدو موضع الموافقة والنقاش. ما رغب الباحث التوكيد عليه هو ان " هذا الانتقال لا يبدو كاملا في العائلة العربية المستحدثة ؛ فهذه العائلة تستمر في تغذية قيم التبعية ومواقفها" (64). وما خرج به رايخ يوجز المغزى الاجتماعي لهذه المعضلة :هذه العائلة تخلق الفرد الخائف أبدا من الحياة ومن السلطة. هكذا فانها تخلق من جديد إمكانية قيام حفنة من الأفراد ذوي النفوذ بتسلم السلطة وقيادة الجماهير، تعزز النظام الأبوي المركزي ، وتضمن استمرار النموذج الأولي للسلطة الأبوية. سلطة الأب وشيخ القبيلة والزعيم الديني ( وليس الزعيم القومي او الوطني)هي التي تحدد وجهة ولاء الفرد وموضوعه. يشعر الفرد بالانتماء الى نظام اجتماعي يمنحه الشعور بالأمان والحماية. اللجوء للدولة الأبوية لا يضمن الحماية والعدالة ؛ فالوعي المستحدث يخترق القوانين ويصادر الحقوق. في هذا المناخ يتم اللجوء إلى الواسطة . تقليد الواسطة يوفر بعض المرونة والحيوية. ينشئ الفرد اجتماعيا ويدربه على الشعور بالرضى لسيادة السلطة.

العائلة الأبوية نموذج تختزل فيه جميع سمات المجتمع الأبوي، فهما يقومان على التسلط والتبعية . نظام حكم فردي يمنع سريان ما يسمى العقد الاجتماعي. الأب يتولاه اليقين من أنه القادر وحده والعارف وحده ما يتوجب على أولاده أن يقوموا به، أن يتعلموه ويعرفوه حاضرًا ومستقبلاً. الأبوية هي القدرة المطلقة والسلطة الأكيدة التي تتخذ، آنذاك، القرارات التي تُلزم مستقبل أبنائها. مع ذلك فإن هذه الأبوية ليست معصومة من الخطأ، ولبعض قراراتها نتائج وخيمة على الأبناء ومستقبلهم. سلوك الأب أو موقفه، تنبع من حسن الإرادة، ومن اعتقاد أنه معصوم من الخطأ، هو سلوك يتّصف بالأبوي، يلحق أضرارا بالأبناء وقد يخمد جذوة الذكاء لديهم. في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع الأبوي" ، يشير شرابي الى ان "التعليم في نظر الأبوين هو التعليم الجامعي. فهما لا يعرفان ان أهم تعليم هو الذي يتلقاه الطفل في سني حياته الأولى، وان هذا التعليم بالذات يحدد نمو الطفل اللاحق برمته. لذا فعلى الأبوين أن يعرفا أنهما إذا أرادا ان يتيحا لطفلهما أفضل فرص النمو فان هذا يجب ان يحصل في سن مبكرة . ذلك ان طريقة المعاملة في سني الحياة الأولى هي التي تتحكم في نمو الشخصية فيما بعد". التربية البيتية في الصغر تحدث جروحا عميقة في النفس يصعب اكتشافها إن لم يكن ذلك مستحيلا ، لكنها عوامل تشويه في السلوك اللاحق. يجري التمويه على الاختلالات، خاصة الاختلالات النفسية والذهنية ، باعتبارها تلحق السمعة الرديئة بالأسرة، وقد تعطل علاقات المصاهرة.
التمويه الذي ينطلي على الصغار نتيجة التعسف في المعاملة يستحيل معرفة كنه العقَد المتشكلة عنه. هذه العواقب هي وخيمة من الصعب، لا بل من المستحيل تصحيح الأخطاء، والأولاد هم الذين يتحملون سلبياتها، طوال حياتهم. أحيانًا يندرج السلوك الأبوي، على كلَّ منظمة أو مؤسسة مثل المدرسة، يتخذ فيها أحد الأشخاص القرارات في سبيل الآخرين من دون العودة إلى إرادتهم. مما لا شك فيه أن هذه السلطة الأبوية، أكانت فردًا أم مؤسسة، أم المجتمع بحالته الواسعة، تستند إلى ثقافة مجتمعية ، هي مجموع أحوال السلوك والتصرف والتموضع والتفكير الخاصة بجماعة بشرية، تظهر بشكل اقتناعات عميقة تبدو قريبة إلى العقيدة. يحصل تفاعل بين الثقافة السائدة والتعليم.. تغذيةٌ وتغذيةٌ ارتجاعية. مجتمع الخدمات والاستيراد لا يعبأ بالبحث، يكتفي بالشهادة جواز مرور لوظيفة بيروقراطية تتوسل فرض الموقف بالأوامر دون إقناع؛ أو تسليك الأمور بما تيسر، بالفهلوة والشطارة.
وفي المجتمع القائم على الانتقام واعتماد القوة الذاتية بدل القانون لا يتورع الأب، أن يطلب من ولده أن ينتقم من رفيق له، يضربه أو يعتدى عليه، لا أن يحتكم إلى سلطة الإدارة المدرسية .
في الفصل الخامس –الجذور الاجتماعية التاريخية للأبوية المستحدثة- يوضح الباحث دور القرابة التي استمرت أساسا للعلاقات الاجتماعية العربية في إعاقة تطور الأرياف والمدن. مركزية الإقطاع ، كما يراها سمير أمين نوعا من التشكل الاجتماعي لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر ، وذلك نتيجة تأثير الارتباط التبعي بالامبريالية الأوروبية ونتيجة التشريعات الإصلاحية للدولة العثمانية فتشكلت بالنتيجة طبقة واسعة من الملاكين العقاريين.
وفي مجال الوعي برزت أدبيات الليبرالية العلمانية والإصلاح الديني الإسلامي ، احدثت تغيرات على الوعي الاجتماعي. تشكلت سلطنات حديثة ودول صغيرة حديثة، تبدلت أشكال السلطة السياسية العربية وأكثرها جوهرية نمط السلطة القبلية الأبوية في الجاهلية. نشأت عدة أنماط يجملها الباحث في ستة:
1- الأبوية القبلية في الجاهلية،
2- أنماط الحكم في الإسلام خلال الفترة من القرن السابع حتى الثالث عشر، سيطرة الهوية الدينية في العصر الوسيط وشهد المجتمع العربي حركة الرسول الكريم تجاوز هوية العائلة – العشيرة ، وأحل امة الإسلام بديلا لها،
3- سلطنات ذات حكم مطلق تشكلت منذ بدايات القرن الثاني عشر،على أنقاض انحلال الدولة التوسعية الواحدة وتفككها السريع،حيث سيطرت النخب التجارية .
4- الدولة العثمانية ،
5- رد فعل على الركود الاقتصادي إثر اكتشاف رأس الرجاء الصالح وانتقال طرق التجارة من العالم العربي، حدث تفكك سياسي- عسكري، وأدخلت التنظيمات العثمانية.
6- الحركة القومية العربية دعت لتجميع العرب تحت راية عقيدة علمانية في وطن واضح الحدود الجغرافية. خلال هذه المراحل برهنت القبيلة الأبوية عدم قابليتها للتغير وبقيت تركيبة أساسية في بنية الأمة بمعنييها الديني والعلماني. ظهر ادنى أنماط الهوية – العشيرة- على أنه حجر الأساس في بنية الإطار العالمي التي رمى الإسلام الى إقامتها. والمفهوم العلماني انطوى على البعدين الإسلامي والقبلي. بصدد الإقطاعية والنظام الأبوي تطورت البنية الأبوية خلال تطورها الاقتصادي – الاجتماعي الى تشكل قبلي / تجاري تميز بالتجارة البرية اكثر من تميزه بالإنتاج الزراعي المحض.
اعتبر سمير امين، على غرار ماركس ، أن التشكل اتخذ صفة نمط إنتاج "رافد وغير إقطاعي". ظهرت في وقت متأخر المِلكية الزراعية مصحوبة بنمط اقطاعي ، أي حين اندمج الشرق الأوسط بالسوق الرأسمالية العالمية ووقع تحت سيطرة الامبريالية المباشرة. وهذا ما يلقي الضوء على التطور المثير للأصولية العربية، ويطرح السؤال المركزي :كيف اختلف تطور الإقطاعية الأوروبية عن تطور النظام الأبوي في العالم العربي؟ وما هي نتائج الاختلاف؟ لم يتطور في العالم العربي نظام مدني يعرف القانون والقضاء النزيه.
هذا بينما تجاوزت الإقطاعية الأوروبية نظام القرابة وروابط الدم . "في اوروبا استبدلت الإقطاعية الروابط القائمة على القرابة والدم بروابط اجتماعية وسياسية ، في حين ان صلات القرابة في المجتمع الأبوي العربي بقيت الروابط الأساسية، واستمرت العائلة – العشيرة الوحدة الجوهرية للعلاقات الاجتماعية والسياسية. وفي حين تمكنت الإقطاعية في أوروبا الغربية من خلق سلطات محلية متزامنة مع السلطات المركزية ومراكز الإنتاج الزراعي، فان المدن في الوطن العربي لم تتطور ابدا الى بلدات مستقلة ، وبقيت دائما منعزلة عن القرية ، فنشأ هناك تنافر تاريخي بين المدينة والريف"(71).
النظامان العربي والاوروبي في القرون الوسطى ارتكزا على عدم المساواة؛ تماثل الفرسان والفلاحون في أوروبا ، حسب تعريف سمير امين المستند الى مقولات ماركس، مع تقسيم العمل بين التجار والمزارعين والمحاربين في الأرياف العربية. اما الفارق فيكمن في طريقة التعبير عن مفهوم السلطة في المنطقتين. رغم استغلال الفقراء واضطهادهم فإن النموذج الأوروبي قد أبرم ميثاق عقد اجتماعي ما يزال العرب يتوقون الى العيش في كنفه.
الحكم العربي استمد شرعيته من الحق الإلهي وليس من رضى الرعية؛ اعتبرت الثورة على الحاكم امرا غير مبرر مهما بلغ ظلمه ؛ غير ان القاعدة انتهكت مرارا؛ نفذ صبر المقهورين وانفجرت ثورات ام تفض الى تغيير سلطوية الحكم . فليس من أفق للانطلاق في عالم الحرية والمساواة.
خلال الحكم العثماني تدهور الاقتصاد العربي وكسدت التجارة ولم تتطور الحرف . بدل دعم التجارة لجا الحكم إلى مضايقة التجار، وتهديدهم ومضايقتهم. لم تتوفر ظروف ملائمة لتطور رأسمالية حداثية الى جانب النمط الرأسمالي التقليدي. جلبت الظاهرة انتباه مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع"، فرصد الحالة العربية حيث " يعلن الأمير نفسه مالكا للأرض ووريثا لرعاياه لا يصلح حال، تنشأ الدور للسكن فحسب، ولا تشق ترع ، ولا يستنبت شجر ، كل شيء يستمد من التربة ولكن لا يعود اليها شيء ، لا تحرث الأرض ، وتغدو الأرض بأسرها صحراء"(73).
نشأت طبقة شيوخ القبائل يقطنون المدن وليسوا من الأريستقراطية الزراعية الإقطاعية ، تعززت مواقعهم بفضل تشريع قوانين الملكية . فجأة وجد هؤلاء انفسهم ملاكين شرعيين لإقطاعيات واسعة كانت سابقا ملكية جماعية لأفراد العشيرة. هكذا تملك امير وادي الحوارث أرض القبيلة ورهنها لسداد تكاليف إسرافه السفيه، ثم بيعت بالمزاد العلني وكان الصندوق القومي اليهودي هو الفائز في ظل الانتداب البريطاني، بتملك الأراضي الشاسعة. وبمساعدة شرطة الانتداب تم طرد مزارعي وادي الحوارث من ديارهم. تغذت بنية الأبوية بزخم سياسي جديد ، والامبريالية عززت ايضا نفوذ شيوخ القبائل والعائلات التجارية والمثقفين ورجال الدين والأعيان المحليين، ووفرت لهم مكانة اجتماعية جديدة. في منتصف القرن العشرين برزت برجوازية وطنية واضحة المعالم حين انجز الاستقلال الوطني السياسي.





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن