حرب الأسئلة «السؤال المناسب»

سليم صفي الدين
selim.safieldin@gmail.com

2018 / 7 / 14

على غير حال كثير من المصريين، نشأت فى أسرة ثرية جدا، لم أطلب شيئا يوما وتأخر إحضاره لى، أتذكر جيدا عندما أعجبنى "بيرفيوم" لسائح فرنسى فى دهب، فى أثناء وجودى هناك، فسألته باللغة الفرنسية، فأنا أتكلم ثلاث لغات، الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وذلك بحكم دراستى الأجنبية، وعندما لم أجده فى مصر، طلبته من أبى، فأحضره لى من خلال شركة شحن فرنسية!

رغم دراستى الأجنبية، أعشق العربية التى كان لجدىّ الفضل الأكبر فى ارتفاع مستواى بها؛ كان (على روحه السلام) يشرح لى قواعدها بنفسه، فقد كان أستاذا للغة العربية بجامعة الأزهر، ودائما ما كان يقول لى: "اللغة العربية أم اللغات، وهى لغة الدين، لن تجد أجمل من تعبيرات وتراكيب اللغة العربية". لذلك أكتب بها الآن، وربما لأننى مشتاق إلى جدى الذى فارق الحياة فى غفلة من الزمن، بعدما غبت عنه شهرين فى أوروبا، تحديدا بريطانيا، بعدما أقنعت أبى بقبول منحة من جامعة كامبريدج، وبما أنه يثق بى أعطانى ما أريد فورا، وسافرت، والحقيقة أننى ذهبت إلى هناك من أجل صديقة بريطانية، ذهبت فقط من أجلها، بعدما تقابلنا فى دهب، وقضيت معها أجمل يومين.

لم أكن أعلم أن الحزن سيكون حليفى بعد هذه الزيارة، نمت يومها بجواره على السرير، بعدما قال لى: "يا واد انت واحشنى، حتنام جنبى النهار ده، ولا خلاص كبرت على جدو!". وليتنى لم أنم، فقد قمت يومها مبكرا على غير عادتى، ولم يقم جدى كعادته، ذهب لأوقظه، فوجدته قد نام للأبد.

من وقتها وأنا لست على ما يرام، لم أعد أسافر، ولا أترك غرفتى، أذهب إلى شركة أبى السياحية فى شرم الشيخ، أنخرط فى العمل لعدة أيام متواصلة، حتى أنهار تماما، فأحصل على مهدئ يساعدنى على النوم، لأنام عدة أيام دون أن أتحرك إلا فى محيط غرفتى بالشاليه، ولا آكل إلا عندما يصرخ جسمى من الجوع، وعندما أقوم أعود إلى العمل، وهكذا. فى أحد هذه الأيام القاسية، بينما أشرب الفودكا وأدخن المارلبورو، قلبت فى صورى أنا وجدّى، كنت أشرب بشراهة، وأبكى دون صوت، تذكرت جدى حينما كان يعلمنى الدين، ويقول لى دوما: "لما تحتاج أى حاجة، قول يا رب!".

جدىّ بحكم دراسته كان متدينا جدا، لكنه كان صوفيا، يحب الناس، ويحب الحب نفسه، كلمنى كثيرا عن ابن عربى وشمس التبريزى، وحكى لى حكايات الدراويش. قمت من مقعدى مسرعا، فانكفأت على وجهى بفعل السُكْر، زحفتُ على يدىّ وركبتىّ حتى دخلت الحمام، رفعت جسدى بصعوبة بالغة حتى ارتميت فى "البانيو"، فتحت الماء البارد يطفئ حرارة جسدى الملتهب بفعل حرارة يونيو والفودكا، قمت منه بعد نحو ساعة، توضأت وصليت لله، صرخت وبكيت وانهرت، حكيت فى صلاتى كل شىء، عن جدى، وصديقتى البريطانية، والروسية التى أنجبت منى وسافرتْ حتى لا أرى نجلى، والمصريات اللاتى عرفتهن. أمى كانت تتصل بى دوما، وأبى كان يتتبعنى كمخبر مكلف بمراقبتى، وكانا حزينين علىَّ، ولكن تغيرت الحال بعد هاتين الركعتين، بدأت فى الصلاة والصوم، وكلما تعبت توجهت إلى الله: "دبر لى أمورى، أنقذنى، طيب خاطرى...".

كل هذا حدث وأنا لا أدرى أننى أفعل كل شىء بنفسى، أبى بعلاقاته دبر لى أمورى، راحتى النفسية سببها طبيبى النفسى الذى زرته بعدما ألحت أمى علىَّ وهى تبكى، فوافقت لأجلها، وكان لطبيبى عامل السحر فى أن أتحسن وأكون على ما يرام، حدث هذا بالتزامن مع صلاتى وتقربى لله، فقلت فى نفسى إن هذا فعل الإله، وشفاء الصلاة، وإن هذا الهدوء من نبع القرآن.

جاء عيد الأضحى، فقررت للمرة الأولى أن أوزع الأضاحى بنفسى، كى أحصل على الثواب كاملا، ذبح أبى نحو 5 عجول وعددا من الخراف، أخذت جزءا منها فى سيارتى، ونزلت منطقتى القطامية والسيدة، وهناك وجدت عالَما لم أكن أعرف عنه شيئًا، جوعى وموتى يحيون فقط لأن قلوبهم تنبض، أقصى أمانيهم لقمة العيش، وجدت الفقر، والذل، والعطش، الناس كانوا يتمسحون بى كى أعطيهم لحوما ومالا! كرهت نفسى، وكرهت هذا المنظر المؤلم.

رجعت فيلّا المقطم وأنا منهار، كنّا دائما نقضى العطلات الرسمية الكبيرة هناك، دخلت دون أن أكلم أحدا، صعدت على السلالم إلى الدور الثانى مهرولا، أمى نظرت إلىّ بلهفة ثم قالت لأبى: "قلت لك بلاش، ابنك عمره ما شاف المناظر دى!". لا أعرف ماذا كانت تقصد أمى بكلمة "المناظر"، هل هو تعالٍ أم خوف علىَّ من صدمة ما رأيت؟

دخلت غرفتى وأغلقت الباب من الداخل، لا أريد أحدا، أريد فقط أن أفهم. طرقت أمى على الباب، قلت من الداخل: "مش عايز أكلم حد، أرجوكِ يا ماما سيبينى، وإلا أروح شاليه شرم دلوقتى". فردّت بهلع من الخارج: "لأ، لأ، خليك براحتك".

قمت من مقعدى وتوضأت، وبدأت فى الصلاة، وفى الوقت الذى أسجد وأدعو الله للفقراء، وجدتنى أقول: "لماذا لم تفعل لهم شيئا؟! أولست أنت يا ربُ من يطعم النمل فى الحجر؟! إنت سايبهم ليه؟"، ثم قمت من سجودى دون سلام، ورميت سجادة الصلاة بيدى اليسرى بعيدا، وبدأت حرب الأسئلة: لماذا أبى غنى وغيره فقير؟ وما ذنب من وُلِد لأب فقير؟ كنت أصاحب وأقيم علاقات كاملة، ولى ابن لم أره حتى الآن، لم أشعر يوما بما يقولون إنه زنا! اليوم دخل علىَّ هذا المفهوم الغريب المتخلف، إذا كنّا اثنين واتفقنا على علاقة فيما بيننا، فما شأن الإله بنا؟ وأى إله هذا الذى ينشغل بعلاقة عشق بين اثنين، ولا ينشغل ببطون الجوعى؟! المساجد والمعابد مشيدة فى كل مكان بتكييفات وسِجاد مصروف عليها الملايين فى كل أنحاء الجمهورية، والناس يموتون من البرد، وضربات الشمس، والجوع، كل هذه البيوت لله، بينما الفقراء لا بيوت لهم!

آه، أين أنت يا جدىّ، صرخت بكل ما فىَّ: "آآآه". فصرخت أمى من الخارج: "افتح يا آدم، ماتتعبنيش يا ابنى، حرام عليك". فتحت الباب، وجدتُ أمى بحجابها الذى ارتدته منذ سنة واحدة، بعدما أقنعها مولانا عمرو خالد بأن شعرها عورة؛ شكلها منذ ارتدته أصبح كبيرا، للمرة الأولى أمد يدى على أمى، وضعت يدى على رأسها بقوة، ونزعت قطعت القماش: "من إمتى شعرك عورة يا ماما؟ عمرو خالد جاى بدين جديد، ولا هو بيفهم أكتر من ربنا؟!"، ثم نزلت مسرعا، ودموعى تنسال منى، وأمى تتمتم بكلامٍ غير مفهوم.


كبت سيارتى إلى جراج التحرير، وذهبت إلى السيدة مترجلا، أنظر إلى الناس وهم يهرولون ناحية كل سيارة فارهة تقف لتلقى إليهم أى كسرة الخبز! كلوا يوما وادعوا لنا، وجوعوا باقى العام وسوف ننساكم، سوف نحضر فقط من أجل أن نشعر بغنانا وسلطتنا عليكم. أى عدل، وأى رحمة، وأى صدقة؟!

دخلت مقام السيدة نفسية، وجدت الناس ملتفين حول المقام، يقبلون الحديد والخشب، يبكون ويدعون ويتضرعون، الواقف والجالس والمتشبث بالسور الحديدى حتى لا يسقط، الباكى والمبتسم والحزين، كل الأشكال هنا، كل الطبقات أيضا موجودة، جلست أمام المقام أشاهد فى حالة من الذهول، وأسمع باستغرب واستهجان دعوات الناس (يا ستنا عايزة البنت تتجوز.. يا رب سايق عليك حبيبتك زينب وحبيبك النبى اهدِى لى ابنى.. يا رب افرجها ببركة آل البيت...).

آه، راحتى ليست هنا وسط هؤلاء المجاذيب، سِتُّكم ماتت، وليس لها من الأمر شىء، وآل البيت أناس عاديون، والنبى رجل ورحل، والله.. الله، ماذا عن الله؟ هل هو موجود؟ وإن كان موجودا، فلماذا يترك كل هذا الظلم والكره والألم؟ لماذا بطون الناس خاوية يا من ترزق النمل فى الحجر؟ صرخ صوت مجذوب بجوارى، كأنه كان يسمع صراع أفكارى وحرب الأسئلة: "موجوووود، لكن اسأل نفسك الأول، هو بيتدخل فى حياتنا ولا لأ؟ لو تدخل يقع الظلم، يمكن، ولو رفع إيده تتم الرسالة وعدل الاختبار، جايز، روح واسأل نفسك، قبل ما تسأل الموجود!". تذكرت وقتها قصص جدىّ عن المجاذيب.

صدمنى الرجل المهلل الثياب كثيف اللحية المطلية بلون الماس. لا أنسى ما قاله لى، ولا أنسى شكله، كان مميزا جدا، ذا وجه أحمر، وعينين زرقاوين، لا أعرف لماذا شعرت أنه من المجتمعات المخملية، وترك كل شىء وجاء هنا عند الموجود الذى يعتقد فيه.

رجعت إلى سيارتى، وبها ذهبت إلى الطبيب النفسى الذى تعجب جدا من إصرارى على زيارته، وعندما شعر أننى منهار دعانى إلى منزله بمنطقة المهندسين. دخلت شقته الأنيقة جدا، والمهندمة إلى درجة غير عادية، تشعر كأن كل شىء أعد فيها بالمسطرة والحسابات الرقمية، حتى تناسق الألوان، لم أر له مثيلا من قبل. جلست على شيزلونج فى حجرة مكتبه وأمامى بار بنى اللون، كنت منحنيا واضعا يدىّ على ركبتىّ. قال لى: "استرخى"، فأجبت: "مش عايز"، قال: "زى ما تحب، ممكن أفهم بقى فى إيه لكل الدوشة دى؟". أجبت باستهجان: "دوشة!". قال: "أيوه، إنت كويس يا آدم، لكن مشكلتك إنك مش لاقى نفسك، مش عارف انت مين، وده اللى حذرتك منه بسبب تقلباتك السريعة، وأفكارك المتصارعة.. إنت بتاخد العلاج؟"، كنت سارحا فأجبت: "هاه!"، فقال: "ركز معايا أرجوك، بتاخد العلاج يا آدم؟"، قلت: "لأ"، قام من مقعده، وذهب إلى البار، صب كأسين من النبيذ، قدم لىّ واحدة، وأخذ الأخرى، كان يرتدى بنطالا أزرق وتيشيرت أبيض، ورمانى بسؤال: "هى الخمور حلال ولا حرام؟"، نظرت إليه متعجبا، فأكمل كلامه: "ظلم الناس أشد حرمة ولا الخمور؟"، لم أجب، فأتبع: "طيب وظلم النفس؟!".

"لازم تعبر عن مشاعرك، سيجموند فرويد فى كتابه تفسير الأحلام قال: المشاعر غير المعبر عنها تؤدى إلى مشكلات. وده يوضح أسباب الشعور بالتحسن فى كل مرة صليت فيها أو زرتنى، لأنك تعبر عن مشاعرك وانفعالاتك، وده للأسف حل مؤقت مش دائم".

"يا آدم انت تايه"، لازم تتكلم وتخرج اللى جواك.. أشعل سيجارة وهو يكلمنى، وأهداها لى كى أدخنها. تعجبت من طريقته المختلفة تماما عن كل مرة، وأكمل وهو أمامى مباشرة، وعيناى فى عينيه: "الله لو موجود، يهمه إنك تكون موجود، قادر، صانع، تكون قوى، ولو مش موجود فإنت لازم تتحلى بالصفات دى يا آدم، المشكلة فيك، إنت الوجود، التقى بنفسك الأول، دور على السؤال المناسب، وبعدين سهل تجاوب على كل الأسئلة، إنت السؤال الصعب، السؤال الأهم على وجه الإطلاق".

قمت من مقعدى، ابتسم الطبيب ومد يده إلىَّ، ابتسمت ابتسامة عريضة جدا، وسلمت عليه بحفاوة وخرجت، أنا السؤال الأهم، أنا السؤال الصعب، أنا مين؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن