خطاب ثانِ إلى غسان سلامة.... تصاعد الشعور بخيبة الأمل والإحباط

حسين سالم مرجين
mrginhussein@yahoo.com

2018 / 5 / 24

السيد الأستاذ الدكتور / غسان سلامة - مبعوث الأمم المتحدة بليبيا
لقد شرحت لكم في خطاب سابق الكيفية التي وصلت إليها الأمور في ليبيا من حالات تمزق وصراع، كما عبرتُ لكم عن الحاجة إلى ربط بعض الأحداث الحالية بعلم التاريخ؛ بهدف تشخيصها وتفسيرها وصولاً إلى معرفة حقائقها ومضمونها، فالبحث عن الأحداث الحالية ( حسب وجهة نظري ) مرتبط إلى حد كبير بمعرفة الأحداث التي وقعت في الماضي، كما أنني أود الاعتراف لكم بأن الحقائق التي سردتها لكم في خطابي السابق، إضافة إلى التي سأسردها لكم حاليًا؛ إنما هي مبنية على رؤيتي لها، وهذا يعني وجود رؤية أخرى لأشخاص آخرين، وهذا لا يعني أن أولئك الأشخاص مخطئون، وأنا هو الصواب؛ لكنه يعني أن الأحداث والمواقف في ليبيا تمتلك أكثر من بُعد، وأكثر من زاوية، وتختلف رؤية كل باحث باختلاف الموقع، والزمان، والمكان إزاء تلك الأحدث والمواقف، كما أن الاقتراب من الحقائق مرتبط بمدى تحري الدقة والموضوعية، والابتعاد عن الاجتهادات الشخصية، والاقتراب أكثر من مختلف زوايا الأحدث والمواقف، وإعطاؤها بعدها المجتمعي.
ولست بهذا أنتقص من جهد أي باحث، ولا أدعي أن ما كتبت هو الحقيقة المصفاة، إنما فقط أقرر أنني أحاول لأنفي عن نفسي أية نوازع شخصية، ومحاولًا أن أنصف الأحداث والمواقف لتكون الحقائق كلها أمامكم بكل خباياها كما هي دون طلاء، ودون التفات لإنصاف أشخاص، أو مدن، أو قبائل، فالأمر قد تجاوز كل ذلك. فالأحداث والمواقف لمست كل الليبيين، ومن ثم فإننا جميعاً ومهما فعلنا أو ادعينا ، سوف يُحاسبنا التاريخ عن ذلك، وقبل ذلك ستُحاسبنا الأجيال القادمة.
السيد الأستاذ الدكتور / غسان سلامة :
لقد أوضحت لكم في الخطاب السابق بضرورة تغيير الوجوه القديمة المستهلكة، وأكاد أجزم بأنكم تأكدتم من صحة ما ذكرته لكم، ولعلك سيادة الدكتور لمستم الحاجة إلى الجلوس والتفاوض مباشرة مع من يمتلكون زمام القوة والسيطرة، سواء على مستوى القبائل، أم المدن، أم الجماعات المسلحة، وليس مع الوكلاء الذين لا يمتلكون سواء البوح بما يُطلب منهم، كما تبين لكم أهمية التفاوض مع الأطراف المتصارعة بشكل جماعي مباشر، وليس بشكل منفرد، كـون الشخصية الليبية في حالة التفاوض المنفرد ستكون شخصية لوامة، أما في التفاوض الجماعي ستكون هناك شخصية مغايرة، هي الشخـصيـة السَّمِحـة المعـطاءة، التي تتجنب أن يُلصق بها أي شر أو بلاء قد يلحق بالوطن.
كما طرحت عليكم بعض المفاتيح التي رأيت أنها ربما تقود نحو معالجة الحالة الليبية، وها أنذا اليوم أخطابكم مرة أخرى عن ليبيا.
السيد الأستاذ الدكتور / غسان سلامة
إن السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه منذ سنوات، هو : إلى أين تتجه ليبيا؟
ولأننا لا نزال بحاجة إلى إجابات واضحة ومحددة لذلك التساؤل، فإننا بحاجة إلى مراجعة وتقويم السنوات السبع من عمر الحراك المجتمعي في ليبيا، والذي بدأ أوائل 2011م، ونود هنا أن نذكركم بكلمات الزعيم الليبي بشير السعداوي (والذي كان قائمقام قضاء جزين بلبنان، الذي توفي في بيروت في 17يناير 1957م) منذ حوالي تسعين عامًا حين وجه رسالة إلى الشعب الليبي آنذاك؛ وربما هي الأقرب في وصف حال الشعب الليبي الآن، حيث قال : " ما لي أري كلكمتكم مشتتة، وشملكم متفرقًا، كيف تنامون والوطن ساهر قلق متوجع، ...إن الأمر عظيم والمصيبة دهماء إنكم على شفا جرف هار" ،
وربما تذكرون ـ يا سيادة الدكتور – أنني قلت لكم بأن الحاصل في ليبيا بدايات 2011م ليس بثورة، إنما هو حراك مجتمعي، لا يستند إلى أي مرجعية فكرية، كما أنه يفتقر إلى وجود قيادة سياسية، كما أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الحراك هو مطالبة الشعب الليبي بإحقاق حقوقه الإنسانية في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فالنظام السياسي السابق وهو من ساهم في انفجار ذلك الحراك المجتمعي، نتيجة للاستبداد والظلم والضغط والحرمان، "فتفشي الظلم البين مؤذن بخراب العمران"، كما يقول ابن خلدون، فالرعية إذا خُدمت خَـدمت وإذا ضُربت شَرِست، فكانت سنوات النظام السياسي الاربعين ونيفًا أقرب إلى ريح صرصر فيه إعصار، جعلت المواطن الليبي كل ساعة في شأن، وبالتالي اقترن وجود تلك الأسباب مع حالة من تعميق الوعي المجتمعي، وإدراك ما يدور من حولها في العالم، وإدراك حقوقها، كـل ذلك ساهم في كشف عورات النظام السياسي، وظهور آثار ضعفه، وانحلاله وشيخوخته، فكان من الحتمي أن يكون ذلك الانفجار، بعد أن بلغت الأمور مـداها ونضجـت ظروفها كافة ، دون أغـفال الـدور الخارجي، كونه المُيسر لـذلك الحراك المجتمعي، وليس المنشئ لها.
وأستأذنكم سيادة الدكتور في الانتقال بكم إلى سنة 2014م، وهي نقلة أخرى في الحديث، لكنها قريبة وليست بعيدة، ثم أنها متصلة وليست منفصلة عن أحداث ومواقف 2011م، حيث حلت الكارثة الكبرى بليبيا في تلك السنة عندما حدثت الحرب الأهلية، حين تدافعت المدن والقبائل تقاتل بعضها بعضاً من أجل الزعامة والموارد الاقتصادية، مما ساهم في تصاعد الشعور المجتمعي بالمرارة وخيبة الأمل، وطغى على ما بقي من دور وعطر للحراك المجتمعي الذي كان بالفعل ملكية مشاعة للجميع، ولعل من أهم نتائج تلك الحرب زيادة إدراك وفهم الليبيين لدور العامل الخارجي، وأهميته في المسالة الليبية.
سيادة الأستاذ الدكتور/ غسان سلامة :
إذا أذنتم– فإنني أريد أن أروي لكم طرفاً من وقائع تلك الأيام السوداء في تاريخ ليبيا، حيث أسرد لكم واقعة تبين لكم كيف أدرك كل الليبيين وفهموا أهمية الدور الخارجي في المسألة الليبية، فخلال الحرب اللعينة 2014م، والقصف ليلاً نهارًا بكل أنواع الأسلحة الموجودة بمخازن الجيش الليبي ( المنهار)، طُلبت الولايات المتحدة الأمريكية من أطراف النزاع الليبية في ساعة متأخرة من الليل وقفاً فورياً لإطلاق النار، حيث كانت المعارك آنذاك على أشدها، والسبب هو خروج السفيرة الأمريكية من منزلها الموجود بطريق المطار إلى طريق الشط حيث مطار معيتيقة، وبالفعل توقف كل شيء بالإشارة الأمريكية عن الحركة، فلم يَعد يُسمع سواء أزيز الطائرات الأمريكية (التي كانت تراقب تلك المعارك عن كثب) التي سُمح لها باختراق مجالنا الوطني، ولتعلن في دقائق معدودة وقف لإطلاق النار إلى حين خروج السفيرة الامريكية، لتعود الحرب مرة أخرى بعد مغادرة السفيرة الأمريكية مباشرة، فتبين للشعب الليبي آنذاك مدى ضعف تلك الأطراف وهشاشتها.
وفَهمت ليبيا كلها معنى تلك الإشارة الأمريكية، وانتظرنا وطال الانتظار!
سيادة الدكتور- غسان سلامة :
أستأذنكم مرة أخرى أن يتسع لي صدركم وصبركم للانتقال بكم لشرح مقولة تقول : إن مؤسسة القبيلة في ليبيا كانت ومازالت أقوى من مؤسسات الدولة أو السلطة (كلاهما واحد)، لأني أريد وضع بعض النقاط علي بعض الحروف حتي لا يكون هناك التباس تتشابك وتختلط به الأمور، فسقوط النظام السياسي العام 2011م، كان يعني بالضرورة سقوط مؤسسات وأجهزة الدولة، ففي العام 2011م حدثت فجوة بين النظام السياسي( السلطة )، ومؤسسة القبيلة نتيجة لوقوف مؤسسة القبيلة مع الحراك المجتمعي، ولأن المجتمع القبلي كان ولا يزال أقوى من السلطة ومؤسساتها، فكانت الغلبة لمؤسسة القبيلة على السلطة ومؤسساتها– مما ساهم في النهاية إلى سقوط حكم القذافي، وسقوط مؤسسات وأجهزة الدولة، دون أن ننكر هنا الدور الخارجي من دعم ومساندة في عملية سقوط النظام السياسي، بعد تأكد العامل الخارجي من وجود حالات التنسيق بين قوى الحراك المجتمعي ومؤسسة القبيلة، ولعل لجوء نظام القذافي إلى القبائل في محاولة القضاء على الحراك المجتمعي بعد فشل الأجهزة الأمنية، يُبين لنا قوة مؤسسة القبيلة، وهنا أريد التأكيد على كون النظام السياسي السابق قد أخفق في بناء وترسيخ مؤسسات وأجهزة الدولة بعيداً عن الوعي القبلي، وهذا الأمر ليس بالجديد، فالنظام الملكي السابق هو أيضًا لم يستطع بناء مؤسسات وأجهزة دولة قوية، لذلك كان يتم الالتجاء في كثير من الأحيان إلى مؤسسة القبيلة في نزع فتيل بعض الحركات الاحتجاجية، وهنا ربما نتذكر الاحتجاجات الكبرى عام 1964،وإخفاق مؤسسات الدولة آنذاك في إنهائها، فتم الالتجاء مباشرة إلى مؤسسة القبيلة.
ولقد أثبتت الأحداث والمواقف خلال مرحلة ما بعد 2014م، صدق تلك المقولة، كون المجتمع القبلي أقوى من مؤسسات الدولة، حيث استطاعت هذه المؤسسة في مرحلة الحرب الأهلية 2014م أن تحيط بالسلطة الجديدة سواء في المنطقة الشرقية أم في المنطقة الغربية حتى تمر أزمة سقوط السلطة والدولة، فكانت تلك اللحظات مشحونة بالخطر على ليبيا الوطن، فتخطى اعتبار دواعي الوحدة والسلامة الوطنية غيرها من الاعتبارات، ولعل ذلك استفز الوعي المجتمع القبلي، وذلك بغية تفادي الفتنة والفوضى وانقسام الوطن.
ومع تسابق الأحداث والمواقف، ها نحن ذا بعد سنوات من تلك الحرب نجد قبائل ومدن وأشخاص الأمس الذين أشعلوا نيران تلك الحرب (اللعينة)، يجلسون اليوم ويوقعون مواثيق التعايش السلمي، وكأن شيئاً لم يكن، وهذا يؤكد ما طرحناها عليكم سابقًا، كون المجتمع القبلي أقوى من مؤسسات الدولة، كما يؤكد أيضا تمكن الليبيون بعد كل حرب من الحروب الأهلية من تغليب لغة الحوار والاجتماع، ويؤكدون بأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم ، فحركة التاريخ في ليبيا تبين لنا أن الليبيين قد يتقاتلون أحياناً، وربما يغضبون أحيانًا أخرى، وربما يعتبون، لكنهم تحت كل الظروف لا يسمحون، ولا يقدرون على السماح بتقسيم ليبيا، فذلك أكثر مما يحتملون !
السيد الدكتور ربما قد اتضحت أمامك اتصال الأحداث والمواقف حتى وإن بدا بعضها بعيدا أو بدا غريبا، فالمشهد في ليبيا اليوم بعد سبع سنوات من الحراك المجتمعي أصبح يتصاعد فيه الشعور بخيبة الأمل والإحباط ، فالظروف المعيشية تزداد صعوبة يوماً بعد يوم، مع الغلاء وارتفاع الأسعار، مع حالات عدم الاستقرار الأمني وانتشار عمليات القتل والسرقة والخطف والنهب، والاعتصامات في المدارس والجامعات والمصارف، كل ذلك مع وجود حكومتين؛ شرقية وغربية.
السيد الدكتور- غسان سلامة :
إن محاولة الإجابة عن التساؤل المطروح في بداية هذا الخطاب ، وهو: إلى أين تتجه ليبيا؟
ربما يقود نحو تقليل من حالات الإحباط وخيبة الأمل التي طالت الجميع، وبالتالي فإنكم إذا حددتم ما العمل، وما هي الخطة؟ سوف يسهل عليكم بعدها أن يتقرر ما الذي يتعين عليكم أن تفعلوه، وفي اعتقادي توجد تحديات تتطلب جهداً كبيراً من أجل الولوج إلى إجابة للسؤال المطروح، ولعل أهمها:
 ما هو المطلوب الذي يُراد تحقيقه ؟
 من الرجل – أو الرجال الذين يقدرون على تحقيق ذلك المطلوب؟
 ما موقف المؤسسة (القبيلة) من المطلوب، ولمن يُراد اختياره لتحقيق المطلوب؟
 هل يمكن الحصول على دعم ومساندة دولية لتحقيق المطلوب، وعلى من يتم اختياره لتحقيق ذلك؟

وأخيرًا فإن السعي نحو تجاوز هذه التحديات، يتطلب أولاً وقبل كل شيء توضيح معالم الخطة المقبلة، والتي يجب أن تضع في نصب أعينها تحقيق الاستقرار الأمني في أسرع وقت، والذي ينبغي أن تنعم به كل المناطق والمدن الليبية، على أن يكون ذلك في إطار توحيد الحكومات في ليبيا بعيداً عن قوة وسيطرة الجماعات المسلحة، ودعم مؤسستي الشرطة والجيش كونهما صمام الأمان للبلاد، فصناديق الاقتراع تحتاج إلى مؤسسات دولة قوية لتحمي نتائجها، كما ينبغي التأكيد لكم بأن الشعب الليبي على درجة عالية من الوعي والبصيرة، جعلته ينتفض ضد الدكتاتورية والاستبداد عندما أتيحت له فرصة مشاركة، ولعلنا نتذكر كلمات -عبدالرحمن عزام- أول أمين للجامعة العربية، والذي عاصر وشارك الشعب الليبي جهاده ضد الطليان حين قال: " معرفتي الطويلة بوطنية الشعب الليبي تجعلني واثقا كل الثقة بأنه سوف يبرهن للعالم على جدارته بتحقيق ما يضعه فيه من آمال.

ودعائي إلى الله أن يحمي ليبيا ويوفق خطواتكم نحو تحقيق ذلك.... اللهم اني قد بلغت اللهم فاشهد.

.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن