ثلاث قصص قصيرة

عايدة نصرالله

2006 / 3 / 14

الدائرة
بعد أن ضجر السجانون من تجواله داخل الغرفة ليل نهار, وخبطات يديه على الحائط كلما هزته خاطرة مزعجة , قرر السجانون نقله الى سجن من نوع آخر ,والسجن الجديد عبارة عن دائرة خططت بخط أسود حيث لا تتسع الدائرة إلا لموقع قدميه.

الحركة الوحيدة التي يستطيع أن يقوم بها هي الجلوس والوقوف , والشرط أن لا يتبادل الكلام مع الحارس الذي سيكون مسؤول عن أكله وشربه ومراقبة قدميه إذا عبرت الحدود المرسومة على الأرض.

وقف السجين في وسط الدائرة محاذرا أن تخرج قدماه عن الخطوط السوداء. وقف الحارس مركزا عينيه على الحدود , نظر إلى السجين. السجين هادئ, ينظر تارة إلى أعلى وتارة إلى أسفل, وتارة تبدو نظراته مصوبة إلى البعيد البعيد. وقد بدأ يسترجع أيام طفولته " كانت أمي تحدثنا عن الغول وعن الأميرة الصامتة, عجيب من أين تعلمتها .عندما سألتها قالت:" سمعتها من جدك الله يرحمه , كان يقرأ كتب كثيرة , لم يكن ينام إلا والكتاب بين يديه", وأما أنا فعرفت بها بعد أن دخلت المدرسة , ما أجمل تلك الأيام وخاصة أيام الشتاء . كنا نتلفع ببطانيات الصوف على شكل دائرة أنا واخوتي الصغار . ولم يكن عندنا تلفزيون فكانت أمي إذا أرادت أن تغيظني - ويبتسم -تقول لنا : إذا لم تهدءوا لن أكمل الحكاية. نهدأ تحت أغطيتنا راجين إياها : أرجوك يا أمي , أكملي- ونمطها-" وبعدين"؟!

كم كانت أمي تتفنن في مقتنا وإغاظتنا فكانت تفوق هيتشكوك اليوم في أفلام الإثارة حيث كانت تقطع الحكاية في الوسط وعند النقطة الحساسة وتقول موجهة الكلام لأختي:" قومي اعملي لنا فنجان من الشاي " فتحتج أختي وتمتعض وعلى مضض تقول " لا تحدثيهم إلا عندما أعود فتجيبها أمي وبشائر النصر على وجهها. لا لن أتفوه بكلمة واحدة حتى تحضري الشاي . ونحن ننتظر بفارغ الصبر وبلذة وكأننا ننتظر أكلة لذيذة بعد جوع".

ضحك، اتسعت ضحكته . نظر إليه السجان باستغراب وبقهر :" ترى ما الذي يضحكة ؟!". ممنوع السؤال . كاد أن يسأله لولا أنه تدارك بأنه ممنوع من الكلام وكبت سؤاله في قلبه تمشيا مع الأوامر .
بعد ذلك تغيرت ملامح السجين إلى الكآبة, لاحظ السجان ذلك ولكن نظراته تركزت في حدود الدائرة السوداء والسجين ما زال يسترجع ذاكرته, وانتقل من ذكريات الطفولة مارا بكل صغيرة وكبيرة حتى أنه تذكر صديقة وائل الذي تخاصم معه وهما طفلان . وهذا وائل كان دائما يلبس بنطلونا أصغر من مقاسه وبلوزة أكبر من مقاسه, فكان منفوخ كديك الحبش ورجلاه طويلتان كالنعامة . وأما صندله المسكين كان دائما يتمنع على الدخول في رجله. أما سبب الخصام فهو أنه كان يلعب ووائل عندما كانا طفلين لعبة البنانير " الجورة" . فأصابت بنورته "الجورة" فصرخ به.

صرخ السجين. فزع السجان. ثم تذكر صديقا آخر . أخذ حبيبته منه ولم يصفح له . لقد أحبا فتاة واحدة ورغم أن الصديق لم يكن يعرف, إلا أنه أحس وكأن الأمر كان متعمدا, فغضب جدا, أحبها بجنون, والإنسان يحب مرة واحدة وبعدها يبدأ بالبحث عن الاكتمال ويلف ويدور ويدور بحثا عن هذا الاكتمال فلا يجد . اكتئب السجين حتى رغرغت عيناه بالدموع , بان وجهه حزينا والسجان يراقبه, ويكاد ينفجر قهرا من مرآه " ترى ,ماذا يفكر هذا اللعين , لا يتذمر أبدا , يبدو أن هذا السجن لم يهزه كفاية " ثم هزته قهقهة السجين الذي أزعجته, لكن السجين استمر بالقهقهة, وكاد أن يقع على ظهره , لولا أنه حاذر أن يعبر بجسده الخطوط السوداء فجلس ووضع رأسه بين يديه وأسند وجهه على ركبتيه والضحكات منفلتة إلى الخارج , فقد تذكر جارهم عندما قال مرة " الله غلط في حياته ثلاث مرات , ضحك الجميع لكلمة "في حياته " قال له الحاضرون: لماذا؟!,وما هي الأخطاء؟ قال :" الأولى يوم خلق الناس ألوانا، والثانية يوم خلق غني وفقير وأما الغلطة الثالثة يوم خلق "أبو السبع". وضحك الحاضرون للمقارنة, فالخطأ الأول والثاني مفهومان, أما خلق إنسان واحد يكون من أخطاء الله فهذا ما لم يستوعبه الجميع . ولكنه أجابهم لإطفاء دهشتهم وقال :هذا " أبو السبع" كذاب نصاب شاغل الناس كلهم بكذبه وبنصبه, أليس هذا خطأ.
وما زال السجين يضحك.

انتهى اليوم الأول , ونام السجين القرفصاء والسجان استبدل بآخر للسهر عليه وهو نائم , وفي اليوم الثاني كررت الحكاية وبدأ السجين بحكايات طفولته ثم مراهقته , لكنه استغنى عنها في اليوم الثالث فبدأ من نقطة النهاية " أنا هنا منذ ثلاثة أيام وسيحرروني لحسن سلوكي , فهنا لا يوجد حائط أضرب به ولا مساحة أتجول فيها, سأعود لغرفتي هناك ,آه ما أوسعها نسبة لهذه الدائرة.... ترى هل ما زالت تنتظرني , إنها تحبني كثيرا , قلت لها لا تنتظريني فأنا هنا زبون دائم , لكنها أصرت على الانتظار . وكم كانت تنهرني وتقول " دعك من هذه الطريق , دعك من الاحتجاج .وإن من يقول " لا" يتعب ولكن أنا ؟ كيف أقول نعم؟,لا لا " وبدأت "اللا" ترتفع وترتفع عبر الدائرة . نظر إليه السجان وعيناه تكادا تخرجان من مآقيهما, وتقدحان شررا فابتسم السجين لإغاظته واستمر بحواره" نعم لا, لا, طبعا لا , وأنا أذكر أنه منذ طفولتي وأنا أرفض الأشياء التي تفرض علي .حتى جسدي هذا يرفض الأشياء الغريبة وأذكر أن أمي حدثتني يوم ذهبت بي إلى صندوق المرضى لإعطائي حقنة تطعيم , "عنفصت ورفست" وركلت بكل عضو من جسمي, حتى تجمع الأطباء والممرضات وصراخي يملأ القاعات ( وأصبح جسده يتململ من جميع الجهات كرقصة إيقاعية على مسرح" وبعد كل الجهد استطاعوا غرزي بتلك الإبرة اللعينة ويومها رفضها جسمي وسخنت ومرضت مرضا لم أمرضه في حياتي .أف لتلك الإبرة , ومن يومها لم أذهب لطبيب .أمرض ,أقح وتكاد تقتلني القحة . ولكني لا أستسلم حتى أتغلب عليها , وتريدينني أن أقول لا ؟ حتى لو خسرت حبيبتي …. وبدأت سيمفونية بالصراخ لا..لا…لا ..حتى لم يعد السجان يطيق هذا الأمر, وخرج عن صمته صارخا به :
" ماذا يوجد في هذه الدائرة اللعينة , أريد أن أرى ما ذا يوجد في هذه الدائرة السوداء مما يجعلك تضحك وتبكي وتصرخ؟"
- أنصحك ألا تجرب ,فأنت لا تستطيع الدخول.
- لماذا؟! دعني أجرب .
أصر السجان على الدخول فقال له السجين.
- تفضل
دخل السجان .خمس دقائق مرت وعيناه مركزتان حول رجليه وحول الخطوط السوداء , عشر دقائق .أصبح يتنهد بينما عيناه مركزتان …. ساعة… عيناه …

لاحظ السجين أن السجان غاب عن الوجود وعيناه لا تبرحان البحلقة في الدائرة . إنتهز إنشغاله وهرب. بينما السجان ما زال ينظر الى الخطوط السوداء حتى يومنا هذا .
1991


" قرقر"


كانت لقيطة, أخذوها .. ربوها .. سموها قرقر, كبرت وولدت فيفي فوفو عاشت قرقر مع أولادها يغمرها حنو العائلة المحشورة في أحد أزقة المخيم . وفي أجواء السماء الرمادية وأصوات الرصاص, كانت قرقر وأولادها فيفي وفوفو خير مسلاة لرواد ورموز وديالا أطفال العائلة الذين لم يسعدوا بالألعاب التركيبية ولا بالدراجات الهوائية .

فيفي , فوفو وأمهم قرقر , قطط ذكية جدا, متأقلمة مع رواد ورموز وديالا, فهي تشاركهم اللعب بالخيطان الصوفية واللعب بالورد المزروع في الحوض الصغير في ساحة البيت السجين.

لكن فوفو وفيفي لم يسعدا مدة طويلة بأمهم قرقر, لأن هناك من اغتاظ من سعادة الأطفال, هناك من أزعجتهم البسمة على وجوههم, وأثار حقدهم ذلك الفرح الصغير في جو مشحون بقذف الحجارة حيث كانت هناك فرقة من الرجال الخضر احتلوا سطح بيت مقابل وجعلوا منه قنطرة "لاصطياد فرائسهم". وفي يوم بينما قرقر تتلقف الخيطان من يد رموز, وضحكات رواد وديالا ترافق فرحة القطة, وفوفو وفيفي تحومان مشاركات في اللعب , إذ برصاصة تخترق صدر "قرقر" لترديها قتيلة..

ذعر الأطفال, صرخوا, بكوا, تجمعوا حولها, وفي الحوض الصغير, حفروا حفرة صغيرة .. دفنوا قرقر .. قطفوا من أزهار الحديقة وغرسوها فوق " قبر الشهيدة قرقر"

أعين الجنود راقبت دفن " الشهيدة" بقهقهات استهزاء وتشف .
لكن رجلا أخضر احتقن وجهه واحمرت عيناه وأشاح بوجهه جانبا.

1989


" العريف"


منذ صغري وأنا أتباهى بجمال صوتي . وكنت وأنا في صف البستان وعمري خمس سنوات أتشاطر على أولاد صفي . فما أن أغني أغنية حتى تقول المعلمة " برافو يا شهير " وتطلب من الأولاد " صفقوا كف حامي لشهير " . كان التصفيق يدغدغني . ويجعلني أطير من الفرح .

لكن هذا الفرح لم يدم , فما إن أنهينا صف البستان حتى اختفت الأغاني والتصفيق اليومي وان كانوا يصفقون لي كلما تهجيت الأحرف بصوتي الرخيم بشكل صحيح إلا أن ذلك لم يكن يعطيني الشعور ذاته . كبرت أكثر وبدأ مشوار التعاسة حيث بدأت أمنية أخرى أعظم من أمنية الغناء والتهجئة تغزو خاطري - أصبحت أتمنى أن أكون عريفا . ولم تتحقق هذه الأمنية في المدرسة . ومن أين لها أن تتحقق وأنا مهدد وأي تهديد . فعندما كان المعلم يسأل " من يريد أن يكون عريفا " ؟ كنت أخجل .. لا .. بل كنت أرتعب وأنا أرى إصبع ابن جيراننا يرتفع . لم يكن أشطر مني , ولكنه كان يبطحني . ولهذا لم أكن أجرؤ على رفع إصبعي - خاصة عندما هددني مرة " إسمع يا شهير . إذا رفعت إصبعك للعرافة فسأبطحك " بأورجيك " . وهو عندما كان يقول كان يفعل . وأنا كنت أدرى " بقتلاته " . فكان الشلوط منه يكفي أن أنام في الفراش يومين أو ثلاثة. ولكني مع هذا كنت أسعد ببعض الفرح في درس النشيد حيث نلت التصفيق مرة في الأسبوع . لكن مسألة العرافة هذه ظلت تغريني - أن أقف في الصف خاصة وأنني كنت أطول طالب في الصف وشعري أملس جميل يغطي جزءا من جبيني ويتهدل على واحدة من عيني .

كنت أتخيل نفسي عريفا وأرد شعري الى الوراء .. وبلغ بي التخيل حد الخروج من الخيال الى الواقع , حيث حزمت أمري مرة أخرى وقلت " يجب أن أتحدى ابن جيراننا عاصم هذا وأرفع إصبعي ".
وما أن نفذت حتى " بحرني " عاصم " بحرة" ما زالت آثارها في نفسي . لكن المعلم فرح لي وقال " أنت يا شهير , اليوم عريف ".
فقلت له بذل ظاهر على وجهي " لا يا أستاذ أنا أتنازل عن العرافة اليوم " .
- ولماذا إذن رفعت إصبعك - ثم أنت ولد شاطر لماذا تتردد
- ولكن يا معلمي…
- ولكن ماذا ؟!
- فجأة شعرت أن رأسي يؤلمني .
- حسنا يا شهير . اجلس .
وجلست بذل والألم يأكلني و" بحرة " عاصم تلاحقني وأصبحت أتوجس شرا منه . وضرب الوسواس أطنابه في قلبي فأحسست أنني على وشك التبول . سألت المعلم الإذن بالخروج - سمح لي . خرجت من الصف وإذا ببعض ما أحسست به قد سبقني في الوصول إلى سروالي قبل الوصول إلى المرحاض .
1991



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن