المكان والمقدس في ديوان -لا أريد أن يعرفني أحد- خليل إبراهيم حسونة

رائد الحواري
read_111@hotmail.com

2018 / 3 / 28

المكان والمقدس في ديوان
"لا أريد أن يعرفني أحد"
خليل إبراهيم حسونة
القرآن الكريم
تخصيب النص يأتي بأكثر من طريقة، منها التناص مع الكتب السماوية، الشاعر يخصب نصه الشعري بأكثر من موضع وبأكثر من شكل، منها اقتباس آيات كاملة كما هو الحال في هذا المقطع:
"الحالمين
العابدين..
"والتين والزيتون . وطور سنين
وهذا البلد الأمين.."
الشاعر يختار آية قرآنية ليؤكد على أهمية الجغرافيا الفلسطينية، وفي ذات الوقت يخدم جمالية النص الشعري، وكلنا يعلم أن الشاعر/الكاتب عندما يستخدم تناص ما، فإنه يدعوا المتلقين للتقدم من هذا التناص والتعرف عليه مباشرة، وهذه الدعوة تأتينا بطريقة غير مباشرة، فالشاعر يقربنا من القرآن الكريم من خلال هذه الآية.
وهناك تناص يأتي من خلال اجزاء من آية، كما هو الحال في هذا المقطع:
"في القدس حكايات..
تمد لسانها .. فتلعلع الأغنيات
بما ينبغي..
تشم رائحة ترنو لسدرة المنتهى
والدنيا مرشوشة بالمزن" ص32.
الشاعر يقدمنا من آية أخرى لها علاقة بفلسطين، فعندما اسرى بالرسول الكريم إلى السماء وتحدث مع الله "عند سدرة المنتهى" هذا ما جاء في سورة النجم، وكأنه الشاعر بهذا التناص يريدنا أن نهتم بالجانب الديني لقدس، لفلسطين، أضافة إلى الجانب الوطني، من هنا نجده يخبرنا عن الحكايات والأغاني التي تلعلع في القدس.
وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المستخدمة سنجدها بمجملها بيضاء، فمكانة القدس الدينية والوطنية أضفت اللغة الناعمة والسلسة على بقية المقاطع، وإذا ما أضفنا الفكرة الهادئة التي تحملها المقاطع، نكون نص مطلق البياض، تنسجم فيه الألفاظ والفكرة.
ونجده في مقطع آخر يقول:
".. هي الأرض
قاب قوسين وأدنى من الجلجلة..
يشد نابه..
طواحين الهواء ملتمة أنهارها بجزيرة الآهات..
تدخلني لحاظ البنفسج بأكثر من نافلة تكبر
عند الظهيرة.." ص77، الشاعر يركز على قدسية الأرض، منها نجده يستحضر الآيات القرآنية التي تخدم هذا الأمر، فيقدمنا من سورة النجم مرة أخرى ويجعل الأرض الفلسطينية هي المكان الأهم دينيا، ليس للمسلمين فحسب بل للمسيحيين أيضا، لهذا جمع بين الآية القرآنية وبين الجلجلة التي تعرض لها المسيح.
التوراة
ايضا الشاعر يستخدم العهد القديم في ديوانه، لكن هذا التناص جاء مغاير تماما لذاك التناص مع القرآن الكريم، فإذا كان تناصه مع القرآن الكريم جاء ليخدم فكرة قدسية الأرض، وجاءت الآيات بمعاني وألفاظ جميلة وناعمة، مثل التين والزيتون، وسدرة المنتهى، فإنها هنا جاءت بمعنى مؤلم وقاسي وبألفاظ سوداء:
"هم الغرابيب البغاة..
مع وشوشات "راحاب" تنادوا..
لدق أبواب "أريحا" بأسواط يوشع
ولهفة الإصحاح.." ص58،
نجد الألفاظ السوداء في "الغرابيب، البغاة، لدق، بأسواط، يوشع" كل هذه الالفاظ قاتمة، حتى نجد الشاعر يستخدم شخصية توراتية في غاية القسوة إلا وهو "يوشع بن نون" الذي حرق مدينة "أريحا" حسب النص التوراتي، من هنا يجمع الشاعر بين المضمون القاسي والألفاظ السوداء، وكأنه يقول بأن العهد القديم كتاب فيه قتل ووحشية، ولا يدعو للسلام والمحبة، لهذا نجد الألفاظ قاسية الفكرة سوداء قاتمة.
ونجده في موضع آخر يقم لنا صورة شعرية مقرونه بالعهد القديم:
"وتعانق امرأة..
لم تفك أحلامها.. رغم الغرق..
وهي ترى كيف سرق أشواقها "يوشع"
بما افترى وسرق" ص 67، صورة التشبث بالحلم، بالحياة السوية، رغم الخراب والقتل الذي احدثه "يوشع" ومن هم على شاكلته.
والجميل في هذا المقطع أن الشاعر بدأه ب"وتعانق امرأة" وهذا يعطي فكرة جميلة، والألفاظ أيضا جاءت ناعمة "تعانق، امرأة" لكن ما جاء بعدها من ألفاظ بمجمله أسود، إذا ما استثنينا "تفك، أحلامها" من هنا يأتي الأثر الذي يحدثه المقطع في المتلقي، فهو يبدأ بمشهد والفاظ جميلة، ثم تأتي الألفاظ والمعاني السوداء والمؤلمة، وهنا يكون وقع الأبيات على القارئ مزدوج، فيأتي من خلال المضمون العام الذي يطرحه الشاعر، ويأتي أيضا من خلال ترتيب الألفاظ.
العهد الجديد
هناك بعض التناص مع العهد الجديد يستخدمه الشاعر ليشير إلى حالة الظلم والألم الذي تعرضا له كلا من "يوحنا والمسيح" ومن هم على شاكلتهما من أمته، من شعبه:
"والنائحات تدثر النائحان..
كل واحدة تزع صوتها... على رأس جبل..
عيونها الناعسات..
حجارتها تلفح ثغر "سالومي"
وأرادف بعض الراقصات .. يتلوى على المشاجب..
فيئهن..
وما في القلوب وسق" ص69،
التناقض بين النواح الذي جاء في المقدمة وبين الرقص الذي تمثله "سالومي" يعطينا صورة المساحة الشاسعة التي تفصل بين النواح والفرح، فهناك "جبل، حجارة" فالتلاقي بين النواح والرقص شبه مستحيل، فالمعنى الذي يقدمه الشاعر جاء مؤكد أيضا من خلال الألفاظ، وكان الشاعر في العقل الباطن يشير إلى وجود عالمين/حدثين/فعلين/ منفصلين بينما "جبل وحجارة" لا يمكن لهما أن يلتقيا/يجتمعا.
يقدم لنا السيد المسيح بهذه الطريقة:
"والمسيح..
في ظلمة الليل البهيم..
يشعل المصباح..
فأغني:
خذ مكاني يا صديقي إن سقطت
أو التقطني..!!" ص76، نجد ما لحق بلفظ "المسيح" جاء بصورة سوداء "ظلمة، الليل، البهيم" ومع كل هذا السواد والقتامة إلا أننا نجده "يشعل المصباح" فالشاعر يربط بين الألم والجلجلة التي تعرض لها المسيح مع العطاء والضياء الذي نشره ليس في فلسطين فحسب، بل في العالم أجمع، من هنا يكمل لنا الفكرة من خلال الاستشهاد بما قام به المسيح من تضحية في سبيل البشرية، فهو يدعوا رفاقه أن يأخذوا مكانه في بعد سقوطه.
والجميل في المقطع الأخير أنه جاء بتناص مع قصيدة المعركة ل"معين بسيسو" وأيضا في قصيدة "مديح الظل العالي" لمحمود درويش" وكأنه بهذا الجمع بين القصيدتين يدعونا لنتقرب منهما، لنحصل على مزيد من المعنويات والإرادة.
ونتوقف هنا قليلا عند التناص مع القرآن الكريم والكتاب لمقدس، فالشاعر عندما استحضر القرآن الكريم جعل اللغة والألفاظ ناعمة وسلسة، بينما في استحضاره للكتاب المقدس نجد الألفاظ والمعاني جاءت سوداء وقاتمة، وهذا يشير إلى أن الشاعر يميل إلى معتقده الديني الإسلامي، على حساب المعتقدات الدينية الأخرى.
المكان
الفلسطيني يهتم بالمكان بشكل دائما، لأنه يمثل العنصر الأهم في صراعه مع المحتل الذي يسعى للسيطرة على الأرض وتهويدها وطرد من عليها وتغريبهم، ومن ثمة تذويبهم في المحيط الخارجي.
الشاعر يستخدم المكان في اكثر من حالة، الأولى يقرنه بالإنسان مباشرة كما هو الحال في هذا المقطع:
"امرأة غزية ب "حجر الديك"
تمسد الأرض برضاب أديمها ..والبدن..
فتموء البطاح.." ص28، فالشاعر يتعمد على اقران المكان بالإنسان، ومن ثمة تكملة المشهد الذي جاء بألفاظ ناعمة رغم قسوة المضمون والفكرة التي يحملها.
ويقول في موضع آخر:
"ينادي..
أطفال غزة..
تصرخ الأمهات.
"على هذه الأرض
ما يستحق الحياة..؟!" ص64، أيضا نجد الشاعر يربط "غزة" بالأطفال.
أما الطريقة الثانية التي يستحضر فيها المكان فجاءت بهذا الشكل:
"... ثغاوه لون الأمسيات
في القدس ..حكايا .. ومنايا..
بانتظار القيامة..
والرجال الذين قاموا ..يكسرون القيود..
يعرفون كيف الرمال لأحلامها .. تجلجل بالوتر" ص18، الشاعر يتحدث عن المكان بأكثر من طريقة، الأولى بصفته المجردة، ومن ثمة يدخل العنصر الإنساني إليه، على النقيض من حديثه عن "غزة" التي قدم الوجود الإنساني فيها على المكان، وهذا يشير بطريقة ما إلى انحياز الشاعر لغزة، ليس لأنها مسقط رأسه فحسب، بل للواقع المأساوي الذي يتعرض له الإنسان فيها.
ونجد الصفة المقدسة مسيحيا، من خلال استحضار جلجلة المسيح وقيامته في المدينة المقدسة، فالشاعر يربط "القدس" بالمعاناة التي سيأتي بعدها الخلاص والفرح، من هنا أنهى المقطع بالرجال الذي يكسرون القيد.
ونجده في موضع آخر يتحدث عن القدس بهذا الشكل:
"في القدس ... ألم .. وعشق ..وآه..
في القدس ... قمر يرسم على صخرة الأقصى
متون هواه.." ص29، الحديث عن القدس جاء بصفتها الدينية الإسلامية، ومع هذا نجد الفعل الإنساني جاء لاحق من خلال الألم والعشق. فهنا الشاعر يتحدث عن أفعال ومشاعر إنسانية تصدر في المدينة، لكن من يقومون بها هم مغيبون، لا نعرف جنسهم، هل هم رجال أم نساء، صغار أم كبار، لكنهم حاضرون من خلال افعالهم ومشاعرهم، بينما عند تحدث عن غزة حدد لنا النوع وطبيعة الشخص، من خلال المرأة والطفل.
والملفت للنظر أن الشاعر أعطا القدس مكانتها وأهميتها بالنسبة للمسيحي وبالنسبة للمسلم، وكأنه أراد بهذا ان يؤكد على الحياة المدنية التي تتمتع بها القدس الفلسطينية، والتي لا تفرق بين اتباع هذا الدين أو ذاك.
والطريقة الثالثة التي تناول بها المكان فجاءت بهذا الشكل:
"أبو جوشن المضري
يعبئ الأرض خلافا .. وصداعا..
منذ أريحا .. ويطلق الاحتراب..
والأم في اليرموك..
تقدم لأطفالها.
بنسغ العذاب..
والذين غابت رياحهم في الرياح..
رفاتهم ساطعة ..تظل سائحة..
بسنغ النخيل .. وزيوت عكا..
والعيون المليحة..
عروق يافا .. وكل سؤال...."ص72و73، الشاعر يستخدم هذا الشكل الجديد والذي يقدم فيه الإنسان الدخيل بصورته الشريرة، ثم يذكر المكان "أريحا، مخيم اليرموك، عكا، يافا، وكلها أماكن يتواجد فيها الفلسطيني.
لكن إذا ما توقفنا عند هذه الامكنة سنجدها كالتالي: "أريحا" جاءت بصفتها التاريخية، ولهذا استخدم "منذ أريحا" وعلى حضورها كأول مدينة انشأها الإنسان على الأرض، واليرموك جاء بصفة الحاضر الآن، والذي يمثل الألم، لكن عكا ويافا جاءت بصفة الأمل والمستقبل، لهذا اعطاهما صفات ناعمة وجميلة وخصبة، الزيتون، النخيل، والعيون المليحة.
الشاعر لم يركز على المكان الفلسطيني فحسب، بل نجده يحدثنا عن أمكنة أخرى، مهمة لنا ونحن جزءا منها:
"بسمة تئن من وجع..
تشربها لهفتان..
في القدس .. أحلام للذين قضوا...وأخر للغرام..
واحدة في القلب..
وثانية في القرى .. والمدن..
"بعيون الشام"..
الفرات يجري في اليمن .. أشجانه في انزياح
أمنيات معلقة ذوائبها .. مربوطة،
بنجوم الفنن.." ص29و30، بهذا الجغرافيا الشاسعة يجد الفلسطيني ذاته، فهو ينتمي ومتعلق بها، كما تعلقه بالقدس، لهذا نجده يتألم لما يجري في أرض الفرات واليمن والشام، وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المستخدمة في هذه المقاطع نجدها: "يجري، أشجانه، انزياح، أمنيات، معلقة، ذوائبها، مربوطة" فالفعل "يجري"، يفيد التقدم بسرعة نحو الحبيب/الهدف، "وانزياح" يفيد الميل نحو الشيء، والمقصود هنا الشيء الذي نحبه/نريده، ولفظ "مربوطة" يفيد العلاقة الوثيقة بين الحبيبين، الإنسان والأرض، أما بقية الألفاظ فهي مشاعر إنسانية متعلقة ومتربطة بالمكان، وهذا ما يأنسنها، ويجعلها والإنسان شيء واحد.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن