الكهف الأفلاطوني الحديث والمعاصر *

احسان طالب
social.demo@gmail.com

2018 / 3 / 16

تحت ظلال عالم الاتصالات المدهش والمذهل فعلا ، يتحرك الفرد محاطا بما يشده على الدوام إلى التعلق الدائم بواحد أو أكثر من وسائل التعايش والتضايف الافتراضي ، لحدٍ يجعله منشغلا معظم الوقت بتلبية استغراقه بخضم العالم الآخر خشية غياب شيء ضروري أو مهم أو مثمر ، يكون حجبه عنه خسارة مادية وربما معنوية و الأشد خشية أن تكون خسارة روحية أو نفسية . يشتغل الجميع ويلتهي الكل عن دراية وعن انسياق لا واعي أيضا ، كهف أفلاطوني جديد مستحدث مختلف كل الاختلاف ، فالأضواء مبهرة والأصوات الموزونة والنشاز، الموسيقى والصخب ، السكينة والقلق ، الأشياء هنا لا عد ولا حصر لها ، والأفكار متراكمة فوق بعضها البعض تتزاحم بشدة وعنف ، مزيج فريد وغريب من الألوان واللوحات والصور والمشاهد والحكايات والألعاب يتداخل بأعجوبة يُبرز كل شيء ، يُعري كل الأشياء ، من يعاني من الحجب والستر والاختفاء ، من يبحث عن رغبات ومتع ، تجارة كتب بل مكتبات ، من يبحث عن حدث عن واقعة أو خبر ، قل كل الأخبار وكل الأحداث وكل الوقائع ، أي مجنون حبذ الخروج من ذلك الكهف الذي لا قاع له ولا حدود ولانهاية لاستطالته وعمقه وعرضه ؟ لدينا ما تريد وأكثر لدينا زيادة ، لدينا ما لم تحلم به ولا حتى ما ظننت أن بإمكانك الحصول عليه .
أبحث عن روحي وذاتي ، أفتش عن جوهرتي الثمينة ، إنسانيتي ، أجد من ذلك ظلال ، لا أدري حقيقة إلى أي حد تتوافق الظلال مع الواقع أو تتطابق مع وجودها ، أسأل عن قيمة وجودي ومكانته ، عن قدرتي على فهم ذلك الكم الهائل من المعلومات والمعطيات التي لا تتوقف ويتطلب مني استيعابها وحلها ، هناك بالتأكيد شيء ما ناقص ، أفتش في مكتبة لم أحلم يوما أن تكون بين يدي ، سأستحضر الكندي والفارابي وهيراقليطس و زينون ، وربما أعود أكثر من ذلك إلى أقصى حد يأخذني الزمن إليه ، وسأعرج بالإياب على أبي الوليد فله مكانة فريدة عندي ، لن أتوقف عند ديكارت وكانط وهيغل ، سيكون لي لقاء محقق من هوسرل وأساتذته وتلميذه الألمعي مارتن ، سيكون عسيرا ذكر كل من التقيتهم والأعسر شرح تفاصيل اللقاء أو المقابلة ، هناك شخص سيكون معي دائما ولن يفارقني بحلي و ترحالي ، يلازمني أين ما توقفت أو امتطيت آلة الزمن ، إنه ذاتي المفكر ، إنه ذاكرتي ، وما أحمل من تاريخ وما أعيش من حاضر ،لا يمكنني التخلص منها أو تركها ، قد أغفل عنها ، بيد أنها ستلكزني في عمق وجودي انتبه أنت بدوني لا وجود.
لا أحتاج لتأشيرة ، فكل الأمكنة التي أرغب بالوصول إليها سأصل ، الكائنة والتي كانت ، بما فيها تلك التي بادت أو باتت أطلالا كأطلال خولة ببرقة ثهمد ، حتى ولو لاحت كباقي الوشم في ظاهر اليد. أما تلك التي لم تكن سأستحضرها وأتطلع نحو من تقبع هناك بعيدة في جوف الزمن القادم ، مؤشراتها جلية وغزيرة ، لم أعرف سببا لسرعتها المفرطة ولا قبل لي بكشف الكثير من حجبها ، لي العذر وربما بعضه ، لكن لا عذر لي بعدم اللقاء بمن لم أعثر عليهم ولا بمن حرمتني اللغة من لقائهم ، عند كل الأركان هناك حيوات وأرواح فتية نضرة بعضها عمرها مئات السنين وبعضها قارب آلاف السنين ، لا تموت فهنا أمثالي كثر يمدونها برمق الحياة ويسقونها من مداد حبرهم وفكرهم . تجلس مع الجميع كما تجلس معي ، الفرق بمن يملك وعاء أكبر وأعرض بل وعاء أكثر مرونة وقدرة على الترتيب والتصنيف فيستوعب ما لا أقدر عليه أنا أو غيري أو كثيرون أمثالنا ، المهم ألا نحرم ممن يحب الاستحضار والجلب ، والأهم امتلاك ما يلزم للكشف والحفر والتنقيب ، فكنوزٌ وجواهر مخفية بفعل فاعل وأخرى مخفية بجهل جاهل وثالثة بقدرة متمكن مقتدر .
تمتطي مركبة مزودا بما تستطيع وما هو متاح ، وهو ليس بالقليل ، تمسك دليلك وخارطة طريقك تحدد البداية ومحطات التوقف والتزود وصولا لدار الضيافة مستقر الفكر ، تستوقفك عثرات وتقع دون قصد منك زلات وهنات ، فإذا ما استطعت بلوغ المُنى فأنت أهل له وإلا فأنت مسؤولا دون غيرك ، ما من إمكانية لأكثر مما تملك ولا تكليف فوق المستطاع ، وكل على قدره ، فمن اجتهد وأصاب فأجران ، تحمل ثقلا يكتنز خليطا من القديم والجديد تعرضه بقالب متجدد ، يغلب ظنك حصول الرضا من أصحاب الشأن وآخرون متعالون ينظرون من فوق فلا يرون إلا القليل ، وبعضهم يحجب الرؤيا فيخفي ما يرى آملا بتواري المشهد .
ليست كل الغايات المقصودة جلية ، وما تجلى قد لا يكون ما أريد له التجلي ، وفي كل المشاهد يبذل العارض جهده لبلوغ عقل المشاهد ورضاه ، والصورة ليست واحدة وليست هي تلك التي رسمتها بالتحديد ، فلكل عدسة بؤرتها ، ولكل عين بصيرتها ، فما قَصَد طرفة يوما أن يكون وجوديا وما قصد لبيد أن يكون مثاليا ، ولم يدر بخلد ابن عربي أن يقلده ألماني تفسح بينهما سبعة قرون ، وما خطر ببال فارس الظاهراتية مارتن أن يشابه العارف بالباطن ، فما قرأت في الكينونة والزمان إلا وأحسست بأني أقرأ في فصوص الحكم، ولا أدعي أني وعيت أيا منهما وإن كان المتأخر أقرب وأقل مشقة ، فشراحه كثر ولا وجل يعتريهم من إخراج أو تضليل.
في أخر منصة تقف فيها لإلقاء أخر مجموعة من أبيات قصيدة لم ولن تنتهي ، تكتشف بأنك على أعتاب موجة جديدة من التجلي والكشف لم تكن على استعداد لركوبها أو الانحناء أمامها أو الصمود في وجهها ، لك أن تختار ولك أن تحتار ، فإما المضي أو الصمود أو الانحناء ولن يكون القرار قرارك والرأي رأيك ، فكما تكتب القصيدة شاعرها يسبغ النص مؤلفه ، وما كل ما أراده يصل ، وما كل ما وصل أراده ، إنها سنة التأليف والتوليف والتصنيف ، وحكاية زرقاء اليمامة عن البصيرة وليست عن البصر ، وعن الحكمة وليست عن عجز السنين ، وعن النزير وسوء التقدير ، فما عجزت بنت اليمامة وما كل بصرها ، تلك العجوز التي تمتلك بصيرة الحكماء وبصر الفتيان اسمها الشائع حب الحكمة ، أو سمها كما سماها الشيخ الرئيس ، استكمال النفس البشرية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه على قدر طاقة البشرية.
إن الإنسان قارئا كان أم مؤلفا ليس مجردا عن وجدانه ولا ولاءاته النفسية والذهنية كسلطة داخلية ، كما أنه خاضع أو متأثر بسلطات خارجية لا تنتهي ، طبقا لتفنيد فوكو لحرية البحث الفلسفي ، كونه أي ذلك الإنسان باحث أم مستبصرا أم مجرد عابر سبيل مراقب من الداخل بإمكان فلسفي ومن الخارج بأشكال و أنواع السلطة ، فالحس المشترك سلطان وعقل مشترك ، يؤثر حتى بمن يؤثر فيه ، والتصور المشترك حكم مسبق وحدس قبلي يعيد صياغة تصورنا ويتدخل في صياغات حكمنا وأقيستنا ، وبمحاذاة ذلك كله فادعاؤنا الحرية يوجب المسؤولية ، وادعاؤنا العلم يوجب البيان . وادعاؤنا الحكمة يوجب التعقل .

* مقدمة الطبعة الأولى من كتابي : تأملات في الفينومينولوجيا والحقيقة والإنسان



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن