أدلة عقلية في سبيل الله

سعود سالم
Saoudsalem@sfr.fr

2018 / 2 / 9

الأدلة الفلسفية على وجود الله
٢ - الله مدعو للدفاع عن نفسه
ويمكن إعتبار أرسطو من أوائل اللذين حاولوا التفكير عقليا في الله والدين والحياة الروحية عموما ومحاولة التلفيق بين العقل والدين. أرسطو في كتاب “الطَّبيعة” و“ما بعد الطَّبيعة” تخيل صورة إله بقيت حاضرة في ذهن العديد من الفلاسفة لمدَّة طويلة، إنَّه إله دافع ومحرك، إله القوة الأولى، يعطي للعالم الدّفعة المحركة التي تعطيه الحركة. فالألوهيّة، عند أرسطو، تحرّك العالم وفي نفس الوقت تبقى ساكنة. فالأشياء لا تنشأ من العدم، بل يأتي بعضها من بعض. وإذا كان العالم بمادَّته قديم أي موجود منذ الأزل، فإنَّ حدوث الأشياء فيه لأول مرة يحتاج إلى أسباب. هذه الأسباب عند أرسطو أربعة : الهيولى، الصُّورة، الحركة، الغاية. فالحركة من المقوّمات الضَّروريَّة لحدوث الأشياء، وبالتَّالي كان لكلّ جسم محرّك يخرجه من القوّة إلى الفعل، وبالتالي، كان لابدّ أن يكون لهذا العالم بجملته محرّك عام أولي، بيد أنَّ هذا المحرّك الّذي يحرّك العالم كلّه، على خلاف محرّك الجسم مثلا، غير متَّصل بالمادّة أو الهيولى. إنَّه صورة مطلقة عقلية، تدرك بالعقل وحده، هو يحرّك العالم بعقله من غير أن يتحرَّك أو يقوم بأي جهد. لكن كيف يحرّك الإله الأرسطيّ العالم من غير أن يتحرَّك وبدون أن يبدل أي مجهود؟ السبب أنه يجذب الأشياء إليه كالمغناطيس، لأنه منتهى الغايات، فكلّ الأشياء في العالم تصبو وتتشوق إليه وتتحرّك نحوه وتنجذب إلى كماله، كما الفراشة إلى ضوء النار. وهكذا نفهم دليل وجود الله عند أرسطو: إذا كان كلّ متحرّك يتحرّك بغيره، فوجب أن يكون لهذا العالم بجملته محرّك. الحركة تحتاج إلى محرك، الحركة والمحرك متزامنان، كلّ محرك إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ثابتاً، كل موجود جسمي هو متغير ومتحرك، التسلسل والدور في الأمور المترتبة غير المتناهية مستحيل، ولا بد من إيقاف السلسلة المنطقية، النتيجة: تنتهي سلسلة الحركات إلى محرك أول غير متحرك، وهو الله. وهذا المنطق سنجده فيما بعد عند العديد من الفلاسفة الذين اتخذوا نفس المنهج للتدليل على وجود قوة أولية كونت العالم. ففي القرن الثَّالث عشر ميلادي قدَّم القديس توما الأكويني Saint Thomas Aquinas وهو لاهوتي كاثوليكي إيطالي من أكبر فلاسفة العصور الوسطى في كتابه “خلاصة اللاَّهوت” خمسة براهين على وجود الله مستقاة أغلبها من فلسفة أرسطو: دليل الحركة، دليل العلة الفاعلة، دليل الواجب، دليل التفاوت، ودليل الغائية. وتاريخ اللاهوت والفلسفة يعج بالأدلة على وجود الله، نذكر البعض منها هنا، مع التأكيد في نفس الوقت بأن الهدف والغاية من هذه الرياضة الفكرية ليس قضية وجود الله أو عدمه، فأغلب هؤلاء الفلاسفة كانوا يؤمنون بوجود الله، وإنما الهدف هو معرفة ما إذا كان العقل قادر على الوصول إلى ضرورة وجود هذا الكائن بدون اللجوء إلى الإيمان أو إلى الوحي والكتب المقدسة.
ومن هذه الأدلة، ما يسمى بدليل "السبب الأول" cause argument، ويسمى أيضا "الحجة الكونية" “the cosmological argument. وتسعى حجة السبب الأول إلى إثبات وجود الله من حقيقة وجود الكون. جاء الكون إلى حيز الوجود في لحظة ما في الماضي البعيد، ولا شيء يمكن أن يأتي إلى حيز الوجود من العدم ولا شيء يأتي من لا شيء.. فالعالم والكون هو الدليل على وجود السبب الأول أو العلة الأولى في تكوين الكون. وهو يشبه دليل أرسطو وهو أيضا دليل بعدي.
 الدليل الغائي : قال به  سقراط وأفلاطون والعديد من الفلاسفة ورجال الدين، ومضمونه أن لكل شيء في الطبيعة غرضا، لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود موجود غير مادي، متعال يتجاوز الطبيعة وينظم كل الظواهر على نحو منسجم، ويسمى حجة التصميم the argument from design، ويسمى أيضا "حجة تيليولوجية أو غائيّة" the teleological argument. والحجة من التصميم تسعى لإثبات وجود الله من حقيقة أن الكون منظم بالطريقة التي هي عليه وليس بأية طريقة أخرى، ليسمح بوجود الحياة وسير الكون بطريقة منتظمة ودائمة. ذلك أن الكون يمكن أن يكون مختلفا والقوانين الطبيعية التي نعرفها يمكن أن تكون قوانين أخرى، وترتيب الكواكب والمجرات يمكن أن يكون مغايرا تماما لما نعرفه اليوم، غير أن وجود الكون كما هو عليه دليل على وجود الله الذي صممه بهذه الطريقة بالذات وليس بغيرها لغاية معينة ومحددة، وهي خلق الحياة، ولا مجال للصدفة في هذا الأمر لأن الله يأخذ في الإعتبار الإنسان وضرورته ليسكن الأرض..
وهناك دليل آخر يسمى الحجة الأخلاقية the moral argument، التي تسعى لإثبات وجود الله من حقيقة أن هناك قوانين أخلاقية متواجدة فطريا عند كل البشر مثل لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب، لا تحسد، لا تكره إلى آخر القائمة. لا يمكن لهذه القوانين والأوامر الأخلاقية أن توجد أوتوماتيكيا أو أن يكتشفها الإنسان لوحده من التجربة. من هو إذا هذا الذي يأمرنا أن تتصرف أخلاقيا ؟ للإجابة على هذا السؤال، نحن بحاجة فقط للنظر في الطبيعة الضرورية للأخلاق وعموميتها بين كل البشر. وهكذا، فإن وجود قوانين أخلاقية، يدل على وجود كائن أكبر من أي إنسان وسلطة تتجاوز سلطة الإنسان وهذا الكائن هو الذي وضع في قلوب البشر الرحمة والصدق والحب والعدالة. وقد أكد كانط هذا الدليل، وهو الذي أثبت استحالة  البرهنة نظريا وبواسطة العقل النظري على وجود الله ، ولكن يمكن البرهنة على وجوده من ناحية أخلاقيه أي بواسطة العقل العملي، إذ يرى أن للإنسان شعور فطرى بالعدالة، والعدالة تقتضى أن يكون هناك حساب نهائي لحياة الإنسان وأعماله، لذا لابد من وجود يوم القيامة، يعاقب فيه كل بما فعلت يداه من شرور وحسنات. وبالتالي لابد من وجود اله يوجد هذا اليوم وينظم المحاكمة ويحاسب فيه الناس ويحقق العدالة.
وأهم هذه الأدلة على الإطلاق هو الدليل الوجودي أو الأنطولوجي والذي قوضه كانط تقويضا كاملا في كتابه نقد العقل المطلق والذي سنعالجه بالتفصيل فيما بعد، وقد  وضعه القديس أنسيلم St Anselm of Canterbury وهو فيلسوف من القرن الحادي عشر1093 - 1109، لاهوتي ورئيس أساقفة كانتربري، ومضمونه: انه  لا شك أن كل إنسان مهما كانت درجه ذكائه وثقافته وأصله، يستشعر في عقله ضرورة أن يكون هناك كائن، لا يمكن التفكير فيما أكبر منه. وفكرة الكبر هنا بمعنى الكمال تظل ناقصة ما لم يوجد لها مقابل عيني في الخارج، ولكي تكون هذه الفكرة كاملة لابد وأن يكون هناك موجود في الخارج غاية في الكمال لا يوجد من هو أكمل منه ليساندها. وهذا الوجود الأكمل على الإطلاق هو الذي نطلق عليه اسم الله. هذا الدليل ليس بالدَّليل البَعديّ كدليل أرسطو، وإنّما هو دليل قبليّ، بمعنى أنَّه دليل مستقلٌّ عن كلّ خبرة وكلّ انطباعات الحواس جميعًا. ويقوم هذا الدَّليل على أنَّ فكرة الله موجودة في ذهن كلّ إنسان كأنها مطبوعة من قبل قوة غريبة. وسمي بالدَّليل الأنطولوجيّ بعد ديكارت. وتحدَّث القديس أنسلم عن هذا الدَّليل في القسم الثَّاني من كتابه بروسلوجيون Proslogion معلّقًا على عبارة جاءت في المزامير: “قال الأحمق في قلبه ليس يوجد إله”. فكيف يقول الأحمق لا يوجد إله، ومن أين جائته فكرة الإله إذا ؟ وهل فكرة الله مطبوعة في قلبه دون أن يدري ؟ هنا يرى القدّيس أنسلم أنَّه حتّى الأحمق يدرك بصورة ما بأنَّ هناك شيء عظيم إسمه الله موجود في الفهم، وحين ينكر الأحمق وجود الله فإنَّه لا يدرك التناقض الذي يرتكبه، لأنَّ الأحمق أو أي إنسان آخر لا يستطيع أن يتصوَّر الموجود الأعظم، ويلفظ في قلبه اسمه حتى دون أن يعي أنَّه يتلفّظه ويتصوُّره، لايمكن أن يحدث ذلك ولا يكون الله موجودًا في العقل وفي الواقع أيضًا. وقد تعرض هذا الدَّليل لانتقادات حادّة من طرف رجل دين معاصر للقدّيس أنسلم، وهو الرَّاهب جونيلون Gaunilon الّذي أكد بأنَّ ليس كلّ ما يمكن أن يتصوَّره الذّهن بموجود حقيقة، فنحن قد نتخيّل الكثير من الأشياء الّتي لا وجود لها في الواقع ولا يمكنها أن توجد. وردّ القدّيس أنسلم على اعتراضات الرَّاهب بالقول: من الصَّحيح أنَّه ليس كلّ ما نتخيّله يمكن أن يوجد، إلاَّ أنَّ هناك استثناءً واحدًا وهو حالة الكائن الّذي لا يمكن أن يتصوّر أعظم منه أي الله.
ومن أدله إثبات وجود الله في الفلسفة الاسلاميه والمشتقة أغلبها من أرسطو والفلسفة اليونانية عموما، ومنها دليل الإمكان والوجوب : وقال به  ابن سينا ، ويتكون من مقدمات ثلاث هي: المقدمة الأولى: إنّ موجودات هذا العالم ممكنة الوجود، وهي ذاتاً لا تقتضي الوجود؛ إذ لو كان واحد منها واجب الوجود لتم إثبات المطلوب. المقدمة الثانية: كل ممكن الوجود فهو محتاج في وجوده إلى علّة تمنحه الوجود. المقدمة الثالثة: استحالة الدور والتسلسل في العلل .النتيجة: إنّ كلّ واحد من موجودات هذا العالم، الممكنة الوجود حسب الفرض، يحتاج إلى العلّة الفاعلية، ويستحيل أن تمتد سلسلة العلل إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أيضاً الدور؛ إذن لابدّ أن تنتهي سلسلة العلل من ناحية البدء إلى علّة ليست محتاجة إلى علّة، وهي التي نسميها واجب الوجود، وهو المطلوب. وهناك أدلة عديدة من المدارس الكلامية والتي تستند كثيرا على الدين ذاته لإثبات مقدماتها. دليل الخلق والاختراع:  ومضمونه إن وجود المخلوقات بعد العدم دليل على وجود الخالق، وذلك لافتقار المخلوق إلى الخالق، ويستنجدون بالقرآن حيث يقول: ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)، ويرتكز  هذا الدليل على فكرتين بديهيتين الأولى: حدوث المخلوقات ، وهذا معلوم بالمشاهدة في آحاد الحيوان والنبات ، وبالضرورة العقلية في سائر المخلوقات، لأﻧﻬا مسخرة، والمسخر مخترع من قبل غيره ضرورة. والثانية : حاجة المحدَث إلى محدِث : وهذه الفكرة معلومة بضرورة العقل، فالمحدَث لابد له من محدِث لا يفتقر إلى غيره، وهو الله. ثم هناك دليل العناية:  ومضمونه أن ما في الوجود من مظاهر العناية بالمخلوقات عامة، والإنسان خاصة، هو دليل على وجود الخالق. ويدخل في هذا الدليل كثير من صور الاستدلال، منها : دلالة لإتقان: فكل مخلوق يحمل من كمال الإتقان ما يدل على وجود خالقه وكمال ذاته وصفاته، قال الله ( صنع الله الذي َأتقنَ كُلَّ شيء). دلالة التناسق : فالعالم كله يخضع لسنن كونية متناسقة ، ثمرﺗﻬا الاتساق بين المخلوقات، والاتساق مع وجود الإنسان ، قال القرآن ( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ).
أما حركات الدعاية الإسلامية المعاصرة فهي من الفقر الفكري والنظري لدرجة تبعث عى الرثاء ومع ذلك يواصلون ليل نهار محاولة تعمية المواطنين وإقناعهم بوجود إلههم العظيم، وأدلتهم، حسب ما ورد في أحد مواقعهم تنقسم إلى: أدلة الفطرة: دلالة الفطرة على وجود الله أقوى من كل دليل لمن لم تجتله الشياطين، فالفطرة السليمة تشهد بوجود الله ولا يمكن أن يعدل عن هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين ، ومن اجتالته الشياطين فقد يمنع هذا الدليل. ثم الأدلة الحسية: القائمة على وجود الحوادث الكونية، وذلك أن العالم من حولنا لابد وأن تحصل فيه حوادث فمن أول تلك الحوادث حادثة الخلق، خلق الأشياء، كل الأشياء من شجر وحجر وبشر وأرض وسماء وبحار وأنهار، وكل هذه الحوادث لا بد لها من خالق وهو الله. وأخيرا الأدلة الشرعية، جميع الشرائع دالة على وجود الخالق وعلى كمال علمه وحكمته ورحمته لأن هذه الشرائع لابد لها من مشرع والمشرع هو الله.
لا شك أن كل هذه المحاولات اليائسة، والبائسة لإثبات وجود الله، باستثناء الدليل الأنطولوجي الذي سنعالجه بالتفصيل فيما بعد، لا تتجاوز دليل الإعرابي الذي ذكرناه في أحد المواضيع السابقة والذي سئل كيف عرف الله فأجاب قائلا : "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العزيز الخبير. فلله ما أحسنه من استدلال وما أعجبه من منطق وبيان"، وهناك رواية أخرى تقول: البَعْرةُ تَدُلُّ على البعير، والخَطْوُ يَدلُّ على المسِير، سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، أفلا يدلُّ ذلك على اللَّطيف الخبير ؟! ولعلّنا من هنا نستطيع أن نفهم ثورة كانط الميتافيزيقيّة في القرن الثَّامن عشر، حيث أدرك أنَّ كل هذه الجدالات البيزنطية من أجل إثبات وجود الله عديمة الجدوى، ذلك لأنَّ العقل الإنساني مبني بطريقة يستحيل فيها التفكير أو فهم الحقائق الّتي لا توجد في المكان والزَّمان، والله من هذه المفاهيم أو التصورات الفكرية الّتي يستحيل أن يعالجها العقل أو المنطق أو البديهة. كانط كان من المؤمنين بالله، إلا أنه يوعز الإيمان إلى الضمير أو شيء من هذا القبيل، ولا يعتمد فيه على البراهين العقلية التي تستمد من الظواهر الطبيعة ومن الإدراك الحسي المباشر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن