عاشت ثورة أكتوبر*

مرتضى العبيدي
mortadha_labidi73@yahoo.fr

2017 / 12 / 15

تحيي الإنسانية التقدمية في العالم على مدار سنة 2017 الذكرى المائوية لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي فتحت أمام الطبقة العاملة وجميع شعوب العالم، وهي تعاني من ويلات حرب كونية مدمّرة، آفاقا جديدة للتحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي.
وقد تجمعت في الحين القوى الامبريالية والرجعية ـ بما فيها التي كانت تقاتل بعضها البعض خلال الحرب الأولى ـ لمحاصرة هذه البؤرة الثورية حتى لا يصل صداها إلى بقية العالم. لكن الطبقة العاملة الظافرة والمسلحة تمكنت من دحر تلك القوى الخارجية منها والداخلية وهزمتها شرّ هزيمة. فعندئذ نقلت البورجوازية العالمية المعركة على الصعيد الفكري والإيديولوجي وجندت آلاف الأقلام المرتزقة في حملة متواصلة للتشويه انطلقت سنة 1917ولم تخفت حتى اليوم، لكي تطفأ شعلة الحلم التي لاحت من روسيا القيصرية بالذات والتي بلغ بريقها إلى أقصى نقاط العالم.
ويتخذ إحياء هذه الذكرى أشكالا متعدّدة، منها التظاهرات الاحتفالية، ومنها الندوات الفكرية التي تسعى إلى استخلاص الدروس من هذه التجربة الفريدة والتي أعتبرها المؤرخون أعظم حدث عاشته البشرية في العصر الحديث إذ هي بيّنت بما لا يدع مجالا للشك:
ـ أن الرأسمالية لم تكن ولن تكون أرقى شكل اقتصادي واجتماعي بلغته البشرية، إذ هي حافظت على الجوهر الاستغلالي للأنظمة الاجتماعية ولأنماط الإنتاج التي سبقتها،
ـ أنه مع تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي بزعامة البورجوازية، فإن هذه الأخيرة لم تعد تلك الطبقة الثورية القادرة على إحداث التغيّرات الجوهرية بل إنها أصبحت أكبر معرقل لأي تحوّل جذري سيعصف بالضرورة بسلطتها، وبالتالي فإنه لم يعد بمقدورها إنجاز حتى المهمات التاريخية التي كانت ملقاة على عاتقها،
ـ أن الطبقة العاملة، بحكم موقعها المحوري في عملية الإنتاج، أصبحت هي القوة الوحيدة المخوّلة لإنجاز أيّ تحوّل جذري في العصر الحديث، وأنها مع بقية الطبقات المضطهَدة قادرة على الوصول إلى السلطة متى توفرت لها الشروط الموضوعية والذاتية وإقامة نظام جديد على أنقاض النظام الرأسمالي القائم على استغلال الإنسان للإنسان.
حدثت ثورة أكتوبر إذن في روسيا القيصرية، الإمبراطورية المتخلفة الممتدّة على سدس الكرة الأرضية في الوقت الذي كان الثوريون يراهنون على قيام الثورة الاشتراكية في أحد بلدان أوروبا الغربية المتطوّرة والتي بلغ فيها الاستغلال الرأسمالي أوجه، خالقا بذلك ظروفا موضوعية لانتفاض الطبقة العاملة ضدّ مستغليها، خاصة وأن الحركة الاشتراكية كانت قد أحرزت تقدما كبيرا في ذات البلدان.
لماذا روسيا إذن؟ وما الذي جعل الثورة تنجح في روسيا وليس في غيرها من البلدان الأكثر تطوّرا؟
إن كان تطوّر الظروف الموضوعية شرط أساسي لحدوث ثورة ما، فإن للعامل الذاتي دور لا يقل أهمية. وقد تميّزت روسيا عن غيرها من البلدان الأوروبية بتوفّر حركة اشتراكية ديمقراطية حيّة ومتجددة، نهلت من الفكر الاشتراكي العالمي، وعملت على تطويره وملاءمته مع الظروف الموضوعية للبلاد. إذ هي رفضت التعامل مع الماركسية كنص مقدّس قابل للتطبيق في كل زمان ومكان، بل هي أخذت من الماركسية روحها واستعملتها كمرشد للعمل في تحليل الأوضاع القائمة، ليس في روسيا فحسب، بل في العالم أيضا. فأغنت، بهذا الشكل، النظرية الماركسية وفتحت الباب للاستعمال الخلاق لها.
وقد عمل الشيوعيون الروس على صهر الحركة الاشتراكية بالحركة العمالية الناشئة لينبثق عن هذا التلاقي تنظيم اكتسب أحقيته من اعتراف الطبقة العاملة به كمعبّر عن مصالحها المباشرة والبعيدة، فالتفّت حوله لتحقيق هذا الإنجاز العظيم الذي فتح آفاقا رحبة أمام عمّال العالم وشعوبه. وهو العنصر الحاسم الذي جعل الثورة تنتصر في هذا البلد بالذات، بعدما اعتبر الحزب البلشفي أن روسيا سنة 1917 كانت تمثل الحلقة الأضعف في سلسلة البلدان الرأسمالية وأنه بإمكان الطبقة العاملة فيها، لا الإطاحة بالنظام الأوتوقراطي القيصري فحسب، بل وكذلك هزم البورجوازية التي حاولت إقامة نظام رأسمالي على شاكلة البلدان الأوروبية على أنقاضه.
وقد مكنت تجربة البناء الاشتراكي روسيا، في غضون بضع سنوات فحسب (ثلاث أو أربع عشريات) من الخروج من وضع البلد المتخلف وبلوغ مستوى من التطوّر لم يكن من الممكن بلوغه بأي طريق آخر. وهو ما مكّن الاتحاد السوفياتي وشعوبه من هزم الفاشية والنازية وتخليص البشرية من خطرها، مما سمح لعديد الشعوب الأخرى باختيار طريق الاشتراكية، فأقيمت أنظمة الديمقراطيات الشعبية على كامل بلدان أوروبا الشرقية، كما ساعد عديد الشعوب الآسيوية على الانتصار على الاستعمار وتبني الخيار الاشتراكي.
فثورة أكتوبر إذن التي مكّنت من إقامة الاشتراكية على سدس الكرة الأرضية غداة الحرب العالمية الأولى، فإنها فسحت المجال إلى تعميمها إلى ثلثي العالم غداة انتصار الاتحاد السوفياتي والشعوب المحبّة للسلام في الحرب العالمية الثانية.
لكن كل هذه الانتصارات والمكاسب، وغيرها كثير، لا ينبغي أن تخفي علينا ما رافق تجربة البناء الاشتراكي ـ وهي التجربة الأولى على أرض الواقع ـ من أخطاء ونقائص. فبدون فهمها وتفكيكها لا يمكن للقوى الاشتراكية أن تتقدم في طرح بدائلها لهذا النظام الرأسمالي البشع والذي يزيد بشاعة يوما بعد يوما، وهو يسعى إلى تجاوز أزماته الهيكلية والظرفية على حساب الشعوب بمحاولاته فرض السياسات النيوليبرالية المتوحشة عليها، وتأجيج سعير الحروب في كامل أرجاء المعمورة.
* افتتاحية مجلة "الفكرية" لشهر أكتوبر 2017



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن