الأخلاق والسياسه

سومر الياس
revelatorstorm@hotmail.com

2017 / 12 / 12


إن دراسة العلاقة الجدلية بين الأخلاق والسياسة مسألة في غاية الأهمية لعلماء السياسة في العصر الحديث، فمن جهة أولى إن ما يحكم أي اتجاه أو مبدأ أو قرار سياسي ومهما كان خطيرا هو في نهاية المطاف رؤية أو قناعه أخلاقية تقف خلفه، ومن جهة أخرى فأنه لا يمكن إهمال أن المصالح السياسية ومن ورائها المطامع المالية للأفراد والجماعات والطوائف الدينية، تلعب دورا أساسيا في صياغة أخلاق هؤلاء الأفراد والطوائف ومهما كانت تلك الأخلاق خسيسة وغير مبرره.

عبثا فتشت في جوجل عن أبحاث بالعربية لعلاقة الأخلاق بالسياسة، وفشلت في إيجاد مراجع أكاديمية جيده حول الموضوع، فأغلب المطروح ذو مرجع ديني بدائي بسيط ولا يمت بصله للنظريات الأخلاقية والسياسية الحديثة، والتي أنتجها الفكر الإنساني بعد عصر التنوير، ولم أجد شيئا مهما يتعلق بذلك المنهج الذي ينتهجه الأكاديميون اليوم في دراستهم لتلك العلاقة من خلال ربط السياسة بمجملها بالأخلاق المعيارية ( normative ethics )، وكانت دهشتي كبيره عندما لاحظت بأن كثيرا من المصطلحات الأخلاقية لازالت غير معربه أساسا، أو معربه بشكل غامض ومبهم لا يدل على معناها الحقيقي، وقد يكون ذلك لقصور في الأفق الفلسفي العربي والذي تنقص قاموسه الكثير من المفردات والمصطلحات، وهو ما سأحاول التغلب عليه هنا بوضع المصطلح الإنجليزي في سياقه بين قوسين لكي أترك للقارئ مجال البحث والترجمة عن أصول المعنى للمفاهيم ولكي لا أحتكره لنفسي. والملاحظة الأساسية في أغلب ما صادفني هي أنه لازال ينظر الى السياسة والأخلاق في مجتمعاتنا كعالمين منفصلين تماما، ولا تزال الأخلاق تفهم كمساله شخصيه جدا أو كقضية نزاهة تخص الحاكم او صاحب القرار وليس كمساله ترتكز عليها السياسة برمتها علما وفلسفه وممارسه، لقد صادفتني شطحات كثيره من قبيل أن معيار الأخلاق الحقيقي هو في إتباع نهج السلف الصالح، أو أنه من المستحيل على السياسي الناجح أن يكون أخلاقيا وإن عليه أن يكون مكيافيليا حذقا وما الى ذلك من سطحيات صبيانية وحماقات كثيرة.

وقبل أن أبدأ أحب أن أوضح للقارئ العزيز أن جوهر أي فعل أخلاقي فكري يجب أن ينطلق بداية من الصدق مع النفس ومن النزاهة الفكرية، فإذا لم تكن أخي القارئ من هذا النوع من الناس فلا أعتقد أن مقالا عن الأخلاق وعلاقتها بالسياسة سيكون أكثر من مضيعه للوقت بالنسبة لك.



مقدمه

يمتلئ عالم السياسة اليوم بقضايا وأسئلة أخلاقية خطيره، أمور من قبيل العبث بالجينات البشرية، وجينات الحيوانات والنباتات، الإجهاض، الإستنساخ، الأبحاث البيولوجية والكيميائية والنووية.... وإن سؤالا واحدا من قبيل: هل يحق لدوله ديمقراطية استخدام القوة العسكرية أو أي وسيلة ضغط لتغيير الحكم في دوله ديكتاتوريه أخرى؟ قد يجعلنا ندرك أهمية وحيوية العلاقة بين السياسة والأخلاق، كما أن مراقبة قيام دوله كداعش في عصرنا، والتي قامت أساسا على قناعات أخلاقية لجموع من البشر حول الطريقة التي يجب أن يحيا بها الناس في القرن الواحد والعشرين وما رافق ذلك من قتل وتشنيع وسادية ونشدان غامض للموت قد يعطي فكره واضحة عن خطورة العلاقة بين الأخلاق والسياسة.

إن كلمة أخلاق في اللغات الأوروبية عموما، (ethics) بالإنجليزية و(ethique) بالفرنسية و(Ethik) بالألمانية و(etica ) بالإيطالية الخ، تعود جميعها الى الجذر اليوناني (ethos)، والمصطلح السابق فهمه الإغريق بأنه مجموعة العادات والتقاليد والقيم التي يتوارثها الأفراد في مجتمعاتهم، تلك القيم التي يمكن اعتبارها مفيدة للصالح الاجتماعي ولبقاء الجماعة البشرية وحفظها. والأخلاق بالمفهوم الفلسفي النظري تتمحور حول جملة أسئلة من قبيل، ما هو الخير وما هو الشر؟، كيف لنا أن نحكم على أفعالنا بأنها جيده أو أنها سيئة؟ ما هو الصالح وما هو الطالح؟ كيف لنا أن نحيا حياة نموذجيه وأين تكمن الفضيلة؟ .......

على عكس الشعوب العربية والإسلامية التي اكتفت عبر تاريخها بالنموذج الأخلاقي الديني للخير والشر والموحى به من السماء، كنموذج كامل صالح لكل زمان ومكان، لقد كان هناك سؤالا مؤرقا في الغرب حول النموذج المثالي لما يجب أن تكون عليه الأمور والأشياء في كمالها، إن جوهر تطور الفكر الأخلاقي ومن ثم السياسي في الغرب كان قائما على التفكير الفلسفي المستمر والمضنى لمحاولة تغير ما هو كائن (what is ) الى ما هو واجب أن يكون (what ought to be) في مسيرة بشريه لا تكل ولا تمل نحو الكمال.

لقد شغل بال الفلاسفة الغربيين أسئلة أخلاقية من قبيل: كيف يجب أن ننظم أنفسنا بشكل أفضل مما نحن عليه؟ ما هو الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في حياة الفرد؟ هل تنظيم الحياة يجب أن يعطي الأولوية لخير الفرد أم لخير الجماعة؟ ما هي المعايير الواجبة لتكون السلطة في دولة ما شرعيه أو لا تكون؟ وطالما وجدنا أنفسنا نطرح مثل هكذا أسئلة معياريه على أنفسنا في عالم السياسة فإننا بذلك نكون قد استندنا على الأخلاق المعيارية لأننا بذلك نحاول أن نقرر المعيار المثالي لما يجب أن تكون عليه الأمور في سياق ممارسه سياسية أو اجتماعية ما.

بالطبع وضمن سياق تاريخي تطوري كان هناك تغيرات جذريه في فهم علاقة الأخلاق بالسياسة، أكثر من ذلك أنه وفي كل التاريخ الغربي لم يكن هناك إجابه واحده نموذجيه وكافيه وشافيه حول متى يكون الفعل السياسي أخلاقيا ومتى لا يكون؟ فمثلا ركز الفلاسفة الإغريق كأفلاطون وأرسطو على دور الدولة الفاضلة في أنتاج مواطنين أخلاقيين لكنهما اختلفا حول فيما أذا كان علينا أن نركز على الفضيلة كنظريه مجرده كما أعتقد أفلاطون أو على الفضيلة كممارسه عمليه كما إعتقد أرسطو، وكذلك الحال في العصور الوسطى فقد اتفق كلا من أوغسطينوس والأكويني مثلا على وجوب خضوع السلطة السياسية للحكمة لألهيه حتى يقال عن تلك السلطة أنها فاضله، فيما اختلف الاثنان حول حجم وطبيعة الدور الأخلاقي الذي يجب أن تلعبه تلك الدولة الخاضعة لله وحكمته.

عموما، يمكن اعتبار أن الفكر السياسي الحديث قد ابتدأ في القرن السادس عشر مع نيكولا ميكيافيلي وتوماس هوبس واستمر الى القرن الثامن والتاسع عشر مع جون لوك وروسو وديفيد هيوم وعمانوئيل كانت وهيجل، أفق سياسي جديد في عصر جديد سقط فيه الإيمان والاتكال على عوالم ما وراء النجوم كمصدر وحيد للأخلاق، وأصبح العقل الحر فيه هو ما يجب أن يعول عليه، ومنه فهوالقيمة العليا للبشرية، أفق أصبحت فيه قدرة الإنسان على أن يقرر مصيره باستقلالية بواسطة ذلك العقل الحر هي الخير والفضيلة والأخلاق.

لقد استبدلت كلا من المفاهيم الأخلاقية الإغريقية حول الدولة الفاضلة، والمفاهيم الأخلاقية المسيحية حول دولة الحكمة الإلهية، بفضيله واحده هي العقل الذي يقدس سيادته وحريته واستقلاليته، وما تلك الدول الحديثة التي تقدس سيادتها واستقلاليتها وحريتها اليوم الا منعكس صريح لذلك العقل الحر والسيد والمستقل في الفرد ونتيجة حتمية له.

ولقد نشأ هذا التقديس للعقل الحر من مبدأ بديهي وهو أن ذلك العقل هو الشيء الوحيد الذي يميزنا عن الحيوانات، وبالتالي فهو الشيء الأثمن والأهم الذي نملكه في هذا العالم، وباعتبار إن كل إنسان لديه قدره كامنه على أن يستخدم ذلك العقل فبالتالي إن كل إنسان سيكون لديه ميلا طبيعيا نحو الفضيلة، إذا ما كان لتلك الفضيلة أسبابا ومبررات عقلانية مقنعه، إن المفكرين المعاصرين الذين اتبعوا هذا الفكر والذي أصبح تقليدا مثل هوبس ولوك وكأنط قد اتفقوا بإن العقل هو السلطة الوحيدة التي يمكن أن يعول عليها في المسألة الأخلاقية والسياسية، فكما أنه واحد زائد واحد يساوي اثنان لأن عقلك يقول لك ذلك سواء كنت سنيا أو شيعيا أو مسيحيا أو بوذيا، فكذلك الحال بالنسبة للأخلاق والسياسة، عندما نقرر لأنفسنا ما هو صالح وما هو طالح استنادا الى عقلنا السببي وبمعزل عن أي سلطه إلهيه أوغير إلهيه فإننا بذلك نتصرف بأقصى طريقه أخلاقية ممكنه، وبالتالي فإن العقل هو الحق وهو الفضيلة والصلاح، والعقلانية هي الشرعية الوحيدة لأفعالنا السياسية والأخلاقية، و لقد عبرت العقلانية عن نفسها في العالم السياسي الحديث بثلاثة مدارس أخلاقية، تشتق منها كل حركة في العالم السياسي وكل فعل وكل فكره، وهي ما تشكل الفروع الأساسية الثلاثة للأخلاق المعيارية.

المدرسة الأولى تنظر الى الأخلاق كمنفعة اجتماعيه (utilitarian ethics)، والمدرسة الثانية تنظر الى الأخلاق كفضائل متباينة تنتجها الطوائف و الجماعات البشرية المختلفة (virtue ethics)، والثالثة تنظر الى الأخلاق كواجب عقلاني أو كقوانين كونيه يفرضها العقل الحر (rule- based ethics ) أو ( deontology)، وفيما يلي سنسلط الضوء على تلك المدارس ودورها في صناعة القرارات والمواقف السياسية وكل على حدى.



الأخلاق كمنفعة اجتماعيه (utilitarian ethics)

أن أحد مظاهر عقلنة الأخلاق هو الإقرار بأن أفعال الناس تقاس بنتائجها وعواقبها وليس بأي شيء آخر، فلكي نحكم على أخلاقية أو شرعية أي فكر أو فعل سياسي علينا أن ندرس نتائجه فقط، أو المنفعة المرجوة من عواقبه (consequentialism)، فالفعل الصالح هو ما ينفع الناس ويزيد في سعادتهم والفعل الطالح هو ما يسبب الأذى والألم لهم.

رواد النظرية النفعية أغلبهم إنجليز مثل جيرمي بنتام وجون ستيوارت ميل وأميركيين مثل وليم جيمس... إن المعنى الوحيد للخير هو السعادة والمعنى الوحيد للشر هو الألم، هذا ما قاله بنتام، واعتبر بنتام كذلك أن المبادئ الأخلاقية النفعية يمكن تطبيقها حتى على قوانين الجرائم حيث يجب ألا تتم محاسبة الناس الا إذا نجم عن أفعالها أذى للآخرين، وفي ذات الوقت وكوسيلة للردع يجب أن يكون العقاب مؤلما للجاني بدرجه أكثر مما حققه من جرمه من نفع.

إن منفعيا إنجليزيا آخرا هو جون ستيوارت ميل، والذي اشتهر عنه أنه مصلح اجتماعي أكثر منه فيلسوف خصوصا فيما يتعلق بحقوق الأقليات، اعتبر أنه لكي نعرف ماذا علينا أن نفعل في عالم السياسة والقانون علينا أن نعرف وبمنطق حسابي أيا هي تلك الأفعال التي تسبب خيرا أعظما لأكبر مجموعه ممكنه من الناس. وكجميع المنفعيين اعتبر أن جوهر العقلانية السياسية هو حسابات عقلانية لنتائج أفعالنا وعواقبها، وفيما إذا كانت ستسبب الألم أوالسعادة للناس، ومن هنا فقط نستطيع أن نحكم على آرائنا وقراراتنا وأفعالنا السياسية إذا كانت أخلاقية أم لا. وفيما إذا كانت تلك القوانين والتشريعات التي تحكمنا شرعية أم لا.




الأخلاق كفضيله تنتجها الطوائف والجماعات البشرية (virtue ethics)

تنطلق هذه المدرسة الأخلاقية من الإنسان الفاضل نفسه وليس من أفعاله، وتنظر الى الفضيلة كمنتج اجتماعي يكتسب أهميته من معنى الحياة الإنسانية نفسها ومن غايتها.... أننا حيوانات عاقله، ولذلك نحن نبحث دائما عن حياة جيده، ولا حياة جيده من دون أخلاق، فمن هنا يجب علينا أن نكون أخلاقيين، لكن المشكلة أن لكل منا بيئته الخاصة ومجتمعه الخاص وطائفته الخاصة وثقافته الخاصة وبالتالي سوف يكون لكل منا نموذجه الخاص للخير والفضيلة والأخلاق لأن لكل منا غايته الخاصة، إن التركيز هنا يكون على الشخص الأخلاقي كنموذج منتج للأفعال وليس على الأفعال نفسها كما يفعل المنفعي، فعلى حين تسأل المدرسة الأخلاقية النفعية الإنسان : ما هي عواقب أفعالك ؟وما هو حجم الألم والسعادة التي ستنتج عنها ؟ تسأل هذه المدرسة الأخلاقية عن نوع الشخص الذي سيرتكب مثل تلك الأفعال وطبيعة الخبرات التي راكمها والقيم التي ورثها من الجماعة التي ينتمي اليها كطائفته الدينية مثلا، وفيما إذا كان يتصرف عن قناعة بما يفعل أم لا، وعن موقع هذا الشخص ضمن ثقافه معينه وحضارة معينه، أي باختصار إن هذه المدرسة تركز على أخلاق الجماعات البشرية المتنوعة والطوائف المختلفة ضمن مجتمع ما أو ضمن سياق عالمي.

تعتبر الكوميو نيتاريه ( communitarianism) الامتداد الحداثي لمدرسة الفضيلة (virtue ethics) التي ابتكرها أرسطو قديما، ويؤمن أتباع هذه المدرسة ان نماذج الخير هي في نهاية المطاف منتج ثقافي، فكل طائفه معينه من البشر لديها مفاهيم مختلفة للخير والشر وكل طائفه ستنتج أفرادا بطرائق مختلفة، وقد نجد جذورا لهذه المدرسة الأخلاقية الحديثة لدى هيجل أيضا والذي أقر بأن الاخلاق الفردية هي منتج اجتماعي، وقد اتبع كل من تشارلز تايلور والكسندر ماكلنتاير هذا الاتجاه الهيجلي، حيث أكدا أن أي مبدأ عقلاني للعدالة يميز بين ما هو جيد أخلاقيا وما هو شر، هو في النهاية مبدأ مشتق من أفكار موروثه بخصوص معنى وغاية هذه الحياة.

لقد أكد تايلور على سبيل المثال أنه لا يمكن لأي محاكمه أخلاقية لتصرفات السياسيين أن تكون عقلانية تماما لأنها منتج لموروثها الثقافي الطائفي، وأقترح كمخرج أن تقوم الطوائف المختلفة بالبحث عن أرضيه مشتركه للمفاهيم ولمبادئ العدالة في مجتمعها الأكبر، واقترح أن يتم صهر تلك الأفاق الأخلاقية المختلفة للطوائف في أفق أخلاقي جديد، أي محاولة أنتاج ما هو مشترك بين الطوائف المتباينة الأخلاق، وبالطبع هذا لا يمكن أن يتم إلا إذا فتحت جميع تلك الطوائف جميع التابوهات المغلقة للنقاش وفتحت جميع الابواب على مشراعيها لحرية نقد قيمها الأخلاقية الموروثة .

أي وباختصار إن عقلانية النفعي تبتدأ بتقييم كل قانون وكل سياسة أخلاقيا من حيث نتائجها ومنافعها على الأفراد، بينما عقلانية الكوميو نيتاري أو الطائفي (إن جازت الترجمة) تبتدأ من الإقرار بأن الأفراد ليسوا سوى منتج طائفي لطوائفهم المختلفة ولكل منهم خيره الخاص. وما العقلانية سوى أن نبحث عن أرضيه مشتركه بين هؤلاء للوصول رؤية أخلاقية مشتركه جديده وبالتالي الى قوانين عادله.



الأخلاق كواجب وقوانين يفرضها العقل الحر(Deontology)

تعتبر هذه المدرسة من أكثر المدارس الأخلاقية تأثيرا في عالم السياسة اليوم، وهي تركز على القوانين والمبادئ التي تحكم تصرفاتنا، بدلا من التركيز على عواقب الأفعال أو نوعية البيئة الاجتماعية التي انتجت تلك الأفعال، أن السؤال الوحيد الذي يسأله الديونطولوجي لنفسه ليعين فيما إذا كان الفعل أخلاقيا ام لا هو: هل يمكن فهم هذا الفعل بشكل عقلاني أم لا؟ وكان عمانوئيل كانط هو أول من وضع كل تلك الثقة بالعقل البشري بعد أن فقد أي أمل بالوصول الى أي حقيقة مطلقه حول جوهر وطبيعة الله في كتابه نقد العقل النظري، وبعد أن جرد جميع منافسيه اللاهوتيين من كل أسلحتهم المعرفية والقائلة بأن تلك الثقة يجب أن توضع في لاهوت بشري يشرح طبيعة الله.

إن الفعل الأخلاقي هو في إتباع القانون الذي ينتجه الإنسان العاقل، والقانون الذي ينتجه الإنسان العاقل هو القانون الذي يمكن أن يكون قانونا كونيا بدون أن يناقض نفسه، فمثلا أن تسرق هو فعل غير أخلاقي لأن قانون السرقة يناقض نفسه إذا ما جعل قانونا كونيا، وسيؤدي الى خراب أي تنظيم اجتماعي، وكذلك أن تقتل المخالف لك بالعقيدة الدينية مثلا، فهو فعل غير أخلاقي لأنه قانون يناقض نفسه، فلو جعلنا هذا الفعل فعلا كونيا وقتل كل إنسان مخالفيه بالأيمان لماتت جميع البشر، ومن هنا يكون هذا الفعل غير أخلاقي، ان تميز الدولة بين مواطنيها على أساس عقائدي هو فعل غير أخلاقي لأن ذلك يخرق قانون المساواة بين الناس، والمساواة قانونا أخلاقيا كونيا لا يناقض نفسه، وهكذا، أن هذه المدرسة الأخلاقية تركز على الفردية لأنه وحسب كانط الأخلاق الحقيقية لا تنبع إلا من العقل الحر نفسه، أنه ليس أخلاقيا ذلك الذي لم يستمع لصوت عقله الصادق النابع من داخله هو وإتبع عوضا عن ذلك أخلاق أبيه وأجداده وطائفته الدينية أو حتى أي معايير ثقافيه أخرى موروثه. إن العقلانية الديونطولوجية تفسر لنا بجلاء عدم الارتياح الذي نشعر به عندما يقرر الآخرون لنا ماذا يجب علينا أن نفعل، كما تفسر بنفس القدر من الجلاء تلك الثورات التي تقوم بها الشعوب على من ينتهك سيادتها وقرارها الوطني وصوت عقلها الحر.

أن العقد الاجتماعي نفسه يمكن اشتقاقه من تلك الديونطولوجية، إذ إنها عقلانية أخلاقية محضه تلك التي تجعلنا أن نتنازل عن جزء من حرياتنا كحرية السرقة وحرية القتل عند الغضب وحرية كراهية المخالف لنا بالطائفة مثلا وما الى ذلك من حريات مدمره لنا من أجل أن نتمتع بحقوق وحريات أوسع وأشمل من أهمها أن نعيش بسلام وأمان في عقد اجتماعي يؤمن لنا ولنسلنا من بعدنا النماء والرفاه والتطور.

ويعتبر يورغن هابرماس وجون راول من أهم اتباع الديونطولوجيه أو تلك المدرسة الأخلاقية الكانطيه في العصر الحديث، وقد عدل هابرماس مؤخرا نظرية كانط عن العقلانية، فصحيح أننا جميعا عقلانيين ولكن ليس من الضروري أن يتشارك الجميع في نفس الأفكار السياسية والاهتمامات نتيجة لتلك العقلانية، فعندما تؤثر أفعالنا في الآخرين لا يكفي أن نعتمد على عقولنا فقط لنكون أخلاقيين ولكن يجب أن نتشارك مع هؤلاء الآخرين، بمعنى أن القرارات الأخلاقية أو الشرعية في الدولة هي فقط تلك القرارات التي يتشارك في مناقشتها بعقلانية فيها كل من سيخضع لها ولتأثيراتها.

أما جون راوول فقط اختار طريقا آخرا لفهم الأخلاقية السياسية الديونطولوجيه وطريق العدالة، حيث أعتبر أنه على السياسي عموما أن ينظر الى العالم من وراء حجاب، أسماه راوول حجاب الجهل، فكسياسي عليك أن تجهل إذا كنت غنيا أو فقيرا، معاقا أو ذو بنية صحيحه، رجلا أو امرأة، سنيا أو شيعيا، مسلما أو مسيحيا وحينها فقط تستطيع أن تسن قانونا أخلاقيا، أن قوما يتجاهلون البنيه الاجتماعية التي ينتمون اليها ومراكزهم المالية وجنسهم ولونهم وطوائفهم الدينية التي أنتجتهم هم وحدهم القادرون على أن يفهموا ماذا تعني السياسة الأخلاقية وماذا تعني كلمة مساواة وكلمة حريه وكلمة عدالة اجتماعيه.

لقد طور كل من راوول وهابرماس إجراءات ووسائل متباينة ومختلفة لفهم الفضيلة الأخلاقية في عالم السياسة ولكنهما اشتركا معا في التركيز على الإجراء أكثر من التركيز على الناتج كما يفعل المنفعي والطائفي، أن السؤال الأهم بالنسبة للإثنين كان: كيف يمكن فهم تصرفات الافراد والدول بعقلانية؟ وكيف يمكن لتلك العقلانية أن تكون عالميه وكونيه في الوقت ذاته.

التحديات المعاصرة

لقد تغير اليوم سؤال الأخلاق الأساسي حول: كيف يجب علينا أن نحيا في هذا العصر الحديث؟ نحو سؤال حول : ماذا سيكون حال البشرية بعد هذا العصر الحديث؟ فإلى أين ستقودنا تلك الحداثة ؟ هذا هو ما يشغل بال فلاسفة السياسة اليوم، وكان ذلك نتيجة طبيعية للتسارع الغريب للتاريخ، في الواقع يفهم معظم الفلاسفة السياسيون المعاصرون هذا العصر العجيب والمعتل كأزمه للحداثة أو ككارثه للعقلانية نفسها وبكل ما تحويه من أخلاقيات، وايمان مطلق بالعقل و وعود بالحرية، والسبب الحقيقي لأزمة الحداثة كما تفهم اليوم هو تغول التكنولوجيا وقدرتها الفائقة على مراكمة رأس المال وتزايد التفاوت الطبقي والاجتماعي بين البشر نتيجة لذلك التراكم، أضف الى ذلك الضغط من تلك الأصوات التي لطالما كانت مهمشه عبر ذلك التاريخ الطويل، كصوت المرأة والأقليات العرقية والطائفية، والمثليين والمعاقين والفقراء، والمسحوقين من مواطني تلك الدول الذين خرجوا من نير الاستعمار في القرن الماضي ليجدوا انفسهم اليوم مشردين وتائهين ومعلقين على الصليب في غياهب وأصقاع هذا العالم.

لقد تجرأ جان فرانسوا ليوتارد ووصف الأزمة بأنها آخر أيام الحداثة، ولكن وعلى الرغم من ذلك فلازال من المبكر التكهن بطبيعة الاتجاهات الأخلاقية المابعد حداثيه والتي سيقدر لها أن تحكم التاريخ والفكر السياسي، وهل سيكون هناك فعلا انهيارا للعقل والحداثة أم أنه سيكون هناك حداثه أكثر تزمتا؟ إلا أن الواضح والمؤكد حتى الآن أن هناك تحديات راديكالية لا يستهان بها تواجه تلك الأخلاقيات، أن سؤلا خطيرا حول فيما إذا كان هذا العقل الحر وبعد كل تلك التجارب المريرة لازال مؤهلا لأن يجعلنا مسؤولين بما فيه الكفاية عمن يختلفون عنا لهو قادر على جعل كل أكاديمي يرتجف خوفا مما بين يديه من كل هذا الإرث السياسي الأخلاقي العقلاني.... ربما العقود القادمة ستكون حاسمة في الإجابة عن هكذا سؤال.



المراجع:


1) ETHICS, article by Stella Gaon, from Critical Concepts, an introduction to politics, University of Alberta
2) Ethics and Politics, by Marianne Talbot, University of Oxford





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن