منجز غناسيقي استثنائي بنكهة عراقية لعائلة البصري يتألق في سماء أمستردام

تيسير عبدالجبار الآلوسي
tayseer54@hotmail.com

2017 / 11 / 6

بعد تحضيرات جرت طوال الأشهر والأسابيع المنصرمة، انطلق في سماء أمستردام الحفل الغناسيقي الاستثنائي بكل ما تعنيه الكلمة؛ انطلق حفل غناسيقي بنكهة عراقية أصيلة، جرى لأول مرة بهذه الضخامة والمشاركة المبهرة المميزة، في أكبر قاعات مسرح الميوزك خباوmuziekgebouw بمساهمات لـ(أوركسترا برومينادا Het Promenade Orkest وخماسي الآلات الموسيقية العربية Iraaks/Syrisch Ensemble وبرفقة كورال هوفد ستاد hoofdstadkoor ... مائة منشدة ومنشد خلف المتألقة حمامة البصرة المهاجرة تطوف فضاءات أوروبا والعالم بحنجرتها بيدر البصري تجسد تأليفا وتوزيعا موسيقيا للموسيقار الدكتور حميد البصري وللمبدع القادم من تكريم موسيقي مشهود جرى له في القاهرة ودار الأوبرا الفنان رعد البصري ومعهما قامة الإبداع الفنان نديم البصري...

ساعة من السياحة الروحانية الجمالية في ائتلاف بين حناجر الكورال التي تدربت طويلا على الكلمة العربية وحنجرة متألقة للمبدعة بيدر البصري زهرة الرازقي وسط أزاهير التوليب الهولندية، بقيادة الفنان المايسترو مارتن فان در برُخ وبمساهمات بهية لمارينا خلف ولعرض شامخ بتلوينات أداء مسرحي يحيلنا لحناجر قامات المسرح العراقي الكبيرة بمنجزه، إنه فنان الألق والإبداع سمر قحطان الذي لم يكن مجرد لحظة عارضة للربط بين حلقة وأخرى بل أضفى بأدائه نكهة وإيقاعا ملموساً سواء جمالياً في عرضه الصوتي أم دلاليا مضمونيا في وجوده المكاني المحسوس وإسقاطات فقرته وما حملته من رسائل، تكاملت مع رسالة الاحتفالية...

الخماسي في الآلات العربية، وصلت رسالته كأنها إطلالة شمس وسط الكواكب الأوركسترالية وقد أصغى جمهور مرهف الحس خبيره لأداء باهر متألق لتلك الآلات، حتى لحظة امتلأت القاعة بتصفيق حار ينبع من روح التلقي والتفاعل لجمهور لم يترك مقعداً خالياً..

كنا نتابع آلة القانون بأنامل الساحر جميل الأسدي مع رق المبدع لطيف العبيدي وناي الرمضاني وعود لامس القلوب لمحمد العيسى بجانب دربوكا بدر أمير...

عنوان هذا المنجز الفني، اُختير له"طير الذهب The Golden Bird" بكل ما تضمنه من إيحاءات ومعانٍ لرسالة من أجل السلام. نعم كانت ومازالت فنانتنا البهية تنشد للسلام المفقود في العراق والمنطقة.. وتلك هي الرسالة التي استطاعت عائلة البصري أن تقدم لنا روائعها فيها...

أما طائر الذهب فقد جاءت من نصوص عميقة الجذور في المشهد الحضاري المدني التنويري للعراقيين ومن مؤلفين مبدعين معروفين.. إنها قصائد عن ((الحرب وما خلفته من حزن وأسى.. وعن الحياة وما تتمسك به من أمل ومثابرة وعمل لتحقيق ذياك الأمل، أمل السلام ولعل هذا المنجز الغناسيقي احد أبرز تلك الرسائل القيمية السامية جماليا مضمونيا...

بعد افتتاحية رخيمة كخمائل متلونة تُدخلنا في اجواء طقسية من عصر الأسطورة الأقدم وتستند إلى توظيف أوركسترالي مميز، يصدح الكورال بموسيقا رعد خلف وتوزيعه والكلمة التي تُنشدها هي رسائل تدين الزيف السياسي لإسقاطات قدسية كاذبة وتعود إلى الروحي الأصيل لصلاة الإنسان وتعبده بعيداً عن الدجل.. هنا الجمال والبهاء ينسلان عميقا في وجدان المتلقي عبر رسائل تسمعها الأرواح قبل الآذان المصغية...

ومن أجل ذلك نجد الاختيار في التسلسل لأغنية الأجمل مندمجة بالأداء الكورالي ومساهمته خلف السوبران البصري ايضا باشتغال المبدع رعد.. لمسات جمالية تغادر حكاية الأجمل امرأة موصوفة إلى خيال لجمال كلي يُقدَّم بوحدة وجودية مع الكينونة الإنسانية.. من هنا تتعالق الصور وتتحد لتمنحنا فضاء الوطن الآخذ جمالياته من ذياك الوصف وتهادي الكلمات بتوزيعات متبادلة بين السوبران والكورال.. لعلها تجربة غناسيقية ملهمة لاتحاد نغمين وجملتين لحنيتين باختلاف هويتهما، لتقدما لنا صورة جمالية بفسلفة الوحدة في التنوع وجماليته..

في النقلة الثالثة يتابع رعد خلف جماليات الأسطورة السومرية في جلجامش ما قبل 47 قرناً في هو الذي رأى وطبعا الإشارة ذكية بعد أن يُقدَّم العراق بجماليات وصفية بأغنية الأجمل ينظر في تاريخه القديم وفي وجوده ومنجزه الإبداعي وواقعية تأسيسه مهد التراث الإنساني وتحديدا في معاني اختيار هو الذي رأى.. هذه المرة أوركستراليا يكون صوت الكورال كما أنشودة معبد سومري وطقوسه الباقية في الروح مترسخة بقيمها الجمالية التي يستدعيها بتآليفه الموسيقية.

أما السوبران صولو في قصيدة مهمة لكفاح الخوص فيؤلفها المميز رعد تاركا لحنجرة الحمامة البصرية أن تتألق بانفراد في إشراقات صوتية وحيدة جنسها، أنها تضع أفضل الطاقات التعبيرية بأدائها مانحة كل حرف وليس كل كلمة معنى ودلالة من الآهات الحزينة والمشرقة ومن الرسائل الضمنية التي تذهب من الروح معبِّراً جماليا إلى الروح متلقٍ جماليٍّ يبحث عن المعاني وسط الحس الإنساني الأسمى يتألق بهاء نوعيا ولا أجمل! ويحسن رعد خلف اغتنام الفرصة ليطلق لحنجرة البصرية مكامن قوتها وجودة أدائها الإبداعي فيما تحسن التألق بيدر مبدعة هنا في تقديم أفضل لمسات الإبداع الصوتي يعالج الصوت اللغوي ويضعه في مغلفات رسائل جماليات غناسيقية ندرما وجدناها أو سمعناها في التاريخ الغنائي إلا عند حالات إلهام إبداعية متفردة نادرة...

نصل مرحلة جديدة في هذا العمل لحظة انتقالة موسيقية تحس بروعة ومعنى اتحاد اللحنين الشرقي والأداء الأوركسترالي ومن تلحين المويسقار حميد البصري تطوف حنجرة الحمامة البصرية في سماء الروحانيات الصوفية متناغمة مع طقوس المعابد الإنسانية المنعتقة من الجدران.. بلى هي تلك التي تملأ فضاء الوجود حوارا صوفيا هو بغنى عن التعريف بأولياته، ولكننا هنا نمسك بطابع الجملة اللحنية وتنوعات تفرعات أغصان الأداء فيها ومستويات ذلك بحنجرة الشابة المتألقة هذه المرة.. ما يمنح المنجز هنا صورته البهية توزيعا موسيقيا ذكيا ينتبه إلى كل تلك التنوعات ليفرض تقسيماته بين الكورال والسوبران إن الذكاء الإبداعي الألمع تحصده هنا كيفية التوظيف من مبدعين مهمين هما نديم خلف ومارينا .. تلك قراءتهما التي استطاعت الجمع بين روحانيات الحلاج الصوفية وتقسيم اللحن بين الأداء الأوركسترالي وصوت الكورال وبين حنجرة بيدر بطريقة رهيفة كأنك تشاهد لوحة من مويجات البحر تمخر عبابها سفينة تتناغم وموسيقا تلاطمها بضابط موجِّه..

وأنت لا تحس بفواصل في الانتقالات النوعية لتصل جملة لحنية كانت الأكثر إبهارا في التعبير عن تقديم الجملة اللحنية العربية وسط فعل أوركسترالي آخر مختلف مع حال من توحيد التراثي الشعبي والكلاسي في اللحن العربي.. إنه اتحاد التأليف الموسيقي للموسيقار البصري مع توزيعات متألقة للرائع المتألق نديم ومعه المتألقة مارينا خلف.. لقد اضفيا لمسة استثنائية ربما لا تتكرر في إبراز تلك الجملة اللحنية في لحظة صدق فني في التعبير والتجسيد بلا تأثير على المسار الطقسي العام للأداء واستمرارية اللون العام.. إنها تذكرة بوطن الجمال والإبداع بوطن الإنسان العراقي إنسانا كما مجتمعات الإنسانية وتألق عصرنا بجمالياته...

فيطل علينا الشاعر فارس حرّام بزهرة الحرب بسوبران صولو بيدر وتلويناته الاستثنائية المدهشة تتحد بالآلات المنبعثة صوت روح إنساني جريح..

هنا تأتي لحظة احتاجت الأمسية فيها لصوت مسرحي قوي عميق ينبعث من وجدان الجراحات العراقية، جراحات الحروب العبثية، جراحات الوطن جسد امرأة تمزقه سكاكين الغدر، جراحات مازالت فاغرة بأصوات ضحاياها؛ فيكون حضور الفنان المسرحي سمر قحطان هديرا أوركستراليا بالتمام والكمال تلونات أشرنا إلى أنها أعادتنا لأصوات أساطين مسرح عراقي اعتنى بالمدرسة الصوتية وأدوارها.. بالعربية أنشد شكسبيريا كلاسيا فخامة الكلمة في قصيدة تتداعى من وسط الجراحات والتهابها.. تلك اللحظة المسرحية أضفت كثيرا ووحدت بين حلقات ما أنشده الكورال وعزفته آلات عمل أوركسترالي كبير وما صدحت به حنجرة بيدر البصري...

تلك هي الوحدة الجمالية المبهرة واللحظة التي كان ينبغي ألا تكون حبيسة جدران صالة غصت بجمهور ملأ المقاعد كاملة بالتمام بل كان ينبغي أن تعنى فضائيات عراقية وعربية بنقلها مباشرة غلى ملايين المتطلعين لمثل هذه الرسائل التي بها نكافح الإرهاب وأشكال العنف والحروب العبثية الهمجية لنعيد نشر السلام وقيم التسامح...

أما قمة الاحتفالية طائر الذهب فيعود ليجمع تأليف الموسيقار الدكتور حميد البصري وتوزيع الفنان المتألق نديم والفنانة الرائعة المميزة مارينا في توزيعات ستظل درسا موسيقيا نوعيا وتصدح حمامة البصرة المتألقة اليوم بحضور استثنائي طاغ ومميز بجماليات إبداعه، تصدح بقصيدة الشاعر جاسم الولائي.. وتتناغم مع الكورال تلوينات تساهم بها في قفلة استثنائية لا تُنسى أصوات أخرى مثل كايي من Kaiyi Min وإيما براون أما المايسترو مارتن فإن في حالة هيام خاص بهذي الاحتفالية عزف بروحه، بقلبه، بانفعالاته وإيماءات متألقة نقل فيها وجداً ومشاعر إنسانية من عميق التعبيرات لأوركستراه وكوراله، ولم تكن عصا القيادة ترتفع وتنخفض بيده بل بتمايل وهفهفة الروح تطير في فضاء العرض المبهر...

أين الإعلام العراقي والعربي من هذا المنجز؟ أين الصحافة والصحافيين المعنية بنقله وتغطيته وعرض باقات زهور يستحقها؟ اين جمهور الجالية العربية والعراقية بتنوعات أطيافها؟ هل لم يحصلوا على تذاكر العرض لسرعة نفادها؟ أين الفضائيات ومنتجي الفنون الغناسيقية؟

اسئلة أضعها سريعا بعد هذه العجالة التي كنتُ أتمنى أن أمتلك وقتا وظرفا صحيا مؤاتيا لكتابة تفاصيل تخص كل آلة موسيقية وكل لمسة وكل جملة لحنية ومفردات توزيع وتنقلات بين المقامات اللحنية وأشكال الجمع بين التنوعات الجمالية ..

إنَّ طائر الذهب ستظل في الذاكرة الهولندية بخاصة مع تعلقيات وتداخلات متخصصة كبيرة أطلقها عدد من الحضور ومن المتخصصين وهي حدث نوعي بقيمه الجمالية، باستثنائية المنجز باستثنائية تلك العائلة الموسيقية ومنجزها الذي بات عالمي الحضور..

تستحقون التكريم الأبهى والأسمى وطنيا عربيا أوروبيا عالميا وإلى ملتقى معكم بمنجزات فخمة كما داب منجزكم عبر خمسين عاما من العطاء منذ أولى أغنيات شوقية العطار وحتى آخر عطاءاتها قبيل مدة قصيرة..

نتطلع إلى تواصل وإياكم ومثل هذه الأعمال التي تكفينا فخرا بأنها تذكرة التمدن والتنوير العراقي وسط مجتمعات التحضر والتألق والتقدم...

وباسمي وباسم الحضور الذي حمّلني مسؤولية التحية وباسم مؤسسات الثقافة المهجرية مؤسسات الثقافة التنويرية أضع أسمى شهادات التكريم وأوسمته على صدوركم العامرة بمحبة الناس والوطن وبحمل رايات السلام ورسائل التسامح لوقف ضوضاء الحروب..

دمتم ودام التألق والإبداع وثقتي أن منجزكم الاستنائي سيكتب به كثير من النقاد والمتخصصون لزمن طويلٍ تالٍ هنا بهولندا ومن سيتمكن من مشاهدة التسجيل...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن