إريك هوبزباوم قارئ فريد للتاريخ يفتقد العرب أمثاله في ثوراتهم

هيفاء أحمد الجندي
hayfaa.joundy@hotmail.com

2017 / 9 / 27


إريك هوبزباوم المؤرخ الذي حلم بعالم أفضل

عند قراءة ما أنتجه المفكر إريك هوبزباوم، تلتبس على القارئ العلاقة بين المؤرخ والراوي، الذي حوّل الوقائع التاريخية إلى حكاية رواها من وجهة نظر الناس العاديين والمهمشين الذين لولا تضحياتهم ومقارعتهم للغزاة والمستبدين ما كانت لتولد الحداثة الحق.

لم يكتف هوبزباوم بالسرد التوصيفي التعاقبي للأحداث، بقدر ما حفر عميقا في بنى التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية وقام بفحص الوقائع، نقدها وبين مدى حقيقتها ومعقوليتها، كان يحلل الأسباب والنتائج المباشرة ويربطها ببعضها البعض، على نحو متكامل في المجالات الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية- والثقافية حيث تكون الحصيلة النهائية، صورة نابضة بالحياة للواقع البشري في مرحلة معينة. وكيف لا يجمع بين التحليل الاجتماعي والتفسير التاريخي وهو المفكر واسع الثقافة والاطلاع.

ولد إريك هوبزباوم في الإسكندرية ونشأ في فيينا وبرلين، في زمن صعود النازية وفي الثامنة عشرة من عمره، انضم إلى الحزب الشيوعي الإنكليزي، وكان لالتزامه السياسي تأثير على حياته ونتاجه الفكري وبقي ماركسيا حتى آخر أيامه، على الرغم من تراجع الحركات والأحزاب الشيوعية في العالم وبقاؤه وفيا لفكره، جعل منه مؤرخا فريدا.



هوبزباوم الموسوعي


عرف هوبزباوم بمؤلفه الموسوعي، ذي الأربعة مجلدات، “عصر الثورة والتطرفات ورأس المال وعصرالإمبراطورية” ولا يزال سفره الهام “عصر الثورة” مرجعا هاما للباحثين والمهتمين بتاريخ الثورات وفلسفتها.

في هذا الكتاب “عصر الثورة”، يؤرخ هوبزباوم لأوروبا منذ اندلاع الثورة الفرنسية، التي كانت حدثا فريدا في التاريخ ليستطيع الغوص عميقا في تحليل البنية الاقتصادية والاجتماعية ويعرض الأوضاع العامة، التي سبقت اندلاعها، حيث كانت أوضاع الفلاحين، قد تفاقمت وازدادت سوءا وكانت مستحقات الإقطاعيات والضرائب تلتهم القسط الأكبر من دخل الفلاح، ليتمايز هوبزباوم أيضا، بتحليله للدينامية الاجتماعية ذات الطابع الصراعي – التناقضي التي أفرزتها صيرورة الثورة الفرنسية والانشقاقات التي عاشتها مختلف القوى الاجتماعية التي كانت كل واحدة تمثل شريحة اجتماعية، إلى أن تحدد طابع الصراع وتمايزت طبقاته بعد مخاض ثوري شاق وعسير.

وككل الثورات، اعترى مسار الثورة الفرنسية ثورات مضادة وتعرضت لنكسات بسبب تآمر القوى التقليدية وتحالفات أنظمة الحكم القديم، التي اعتبرت أن التدخل الأجنبي، هو الوسيلة الوحيدة لإعادة إنتاج حكمها وهذا التضامن الطبقي بين أنظمة الحكم المطلق، عكس الخوف من أن تتحول الثورة إلى ثورة تعم كل أوروبا وتنتشر عبر الحدود وبالفعل كانت الثورة عالمية شاملة ولم يكن لأيّ دولة حصانة ضدها، ولم يكن العام 1789 انتفاضة شعب واحد وإنما ربيعا للشعوب في كل القارة الأوروبية.


»تحليله للدينامية الاجتماعية ذات الطابع الصراعي – التناقضي، يميّز هوبزباوم، تلك الآلية التي أفرزتها صيرورة الثورة الفرنسية والانشقاقات التي عاشتها مختلف القوى الاجتماعية التي كانت كل واحدة تمثل شريحة اجتماعية، إلى أن تحدد طابع الصراع وتمايزت طبقاته بعد مخاض ثوري شاق وعسير«

ولقد كان الحلم، أقوى وأبقى أثرا، من أسطورة نابليون، الذي برز كشخصية انقلابية عبرت عن أيديولوجية الفرنسيين، غير السياسيين ولا سيما الفلاحين ولم يستطع أن يدمر ثورة المساواة والحرية وحكم الشعب، لأن الحلم لا ذكرى نابليون بعد سقوطه، الذي استلهمته ثورات القرن التاسع عشر في فرنسا.

لم يخفِ إريك هوبزباوم، انحيازه للفقراء وسلط الضوء على أوضاع الكادحين، التي كانت مروّعة بين عامي 1815-1848 وكان مستوى الفقر أسوأ في الأرياف ولا سيما في أوساط المؤجَّرين من العمال، مما ساهم في ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وغدت أكثر بروزا واتساعا في الوقت الذي كانت فيه إحدى البارونات، تتزين بما يعادل المليون ونصف المليون من الفرنكات، بينما كان نحو ألفي امرأة، يزحفن في الشوارع وهن يتضورن جوعا، وبلغ الفقراء من ضخامة العدد وعمق اليأس حدا دفعهم إلى إعلان الثورة، غير أنهم كانوا يفتقرون إلى التنظيم والنضج اللازمين، لتحويل تمردهم، إلى ما هو أكثر من خطر عابر على النظام الاجتماعي، ومع أن أغلبية الفلاحين كانوا غارقين في الجهل والسلبية إلا أن هذا لا يعني أن الثورة لم تكن همّا من هموهم وقضية ملحة بالنسبة إليهم، إلى أن اندلعت انتفاضة الأقنان في غاليقيا عام 1846 وتعتبر أضخم ثورة فلاحية منذ الثورة الفرنسية.

على الرغم من موقفه الرافض، لا بل العدائي لسياسات ستالين الإقصائية والفاشية، إلا أن هذا الموقف، لم يقف حجر عثرة أمام موضوعيته ولم يمنعه من إنصاف ثورة أكتوبر، التي تعرضت لهجوم شديد واعتبرها البعض خطأ تاريخيا والحجة في ذلك أن روسيا لم تكن ناضجة للثورة الاشتراكية، بسبب ضعف الطبقة العاملة والغلبة الفلاحية وأن التحول إلى الاشتراكية يكاد يكون مستحيلا، في بلد يسوده الجهل والتخلف ولم ير في شخصية لينين، منظم انقلابات ومعاديا للديمقراطية وأن أهميته تكمن، بقربه من الجماهير ومعرفة ما تريده ولذلك لم يتردد لحظة بمنح الأراضي للفلاحين وتقسيمها إلى مزارع، وعندما انتهت الحرب كان الفلاحون الروس يشعرون بتفاؤل لأن المطلب الأساسي لغالبيتهم هو الحصول على الأرض وأجور أفضل وساعات عمل أقل للعمال.

و لم يكن الخيار، حسب هوبزباوم بين روسيا ليبرالية – ديمقراطية وروسيا غير ليبرالية وإنما بين روسيا والتفكك، فلا يمكن فهم القرن العشرين من دون فهم الثورة الروسية ويعود ذلك لعدة أسباب أهمها أن الثورة قدمت للرأسمالية الحوافز لإصلاح نفسها.

اعتبر هوبزباوم الفاشية، بمثابة ردة فعل مناوئة لتراث التنوير وللثورة الفرنسية، كحال الثورات العربية، التي تعيش في طورها الحالي، ردة فاشية بسبب هيمنة الثورات المضادة ولم يكن نهوض اليمين الراديكالي بعد الحرب العالمية الأولى، إلا استجابة لخطر الثورة الاجتماعية ولقوة الطبقة العاملة ومن دون هذه التطورات ما كانت لتقوم للفاشية قائمة.

فجاءت الفاشية إلى سدة الحكم، بالتواطؤ مع النظام القديم وبمبادرة منه وحققت في ما بعد، فوائد جمة لشركات الأعمال لأنها هزمت الثورة الاجتماعية واليسار وقضت على النقابات وتحركاتها.



انتفاضة الشباب عام 1968


لم يعتبر هوبزباوم انتفاضة 1968 ثورة بالمعنى الكامل للكلمة، لأن الطلاب ومهما بلغ عددهم وقدرتهم على الحشد لا يستطيعون القيام بثورة بيد أن تحركهم الاحتجاجي يمكن أن يساهم بانضمام مجموعات اجتماعية ويطلق الشرارة لموجات إضراب عمالية ضخمة، وكانت هذه الانتفاضة الطلابية آخر صيحة للثورة العالمية القديمة وكانت ثورية بالمعنى اليوتوبي القديم في سعيها لتحقيق هدفها عن طريق العمل في الشوارع وإقامة المتاريس.


»هوبزباوم يعرف بمؤلفه الموسوعي ذي الأربعة مجلدات، "عصر الثورة والتطرفات ورأس المال وعصر الإمبراطورية" ولا يزال سفره الهام "عصر الثورة" مرجعا هاما للباحثين والمهتمين بتاريخ الثورات وفلسفتها«

ففي حقبة الثورات الكلاسيكية الممتدة بين عامي 1789 و1917 تمت الإطاحة بأنظمة الحكم القديم في المدن الكبرى، غير أن الثورات الحديثة كانت تختمر وتنضج وتندلع في الأرياف التي لم تكن حتى ذلك الحين قادرة على الإفصاح عن مواقفها في استفتاءات عامة وكان العنصر الجديد في ثورات ما بعد الثلاثينات من القرن العشرين أنها نشبت في الأرياف.

الربيع العربي الدامي


راقب إريك هوبزباوم ثورات عام 2011 العربية بحماس واعتبر أن الطبقة الوسطى في ربع القرن الأخير، سوف تكون الفاعلة ولعله كان متسرعا بعض الشيء، في تقييمه هذا بناء على التجربتين التونسية والمصرية لا سيما وأن الثورات شهدت فيما بعد أعظم مشاركة جماهيرية شعبية وانضم إليها فقراء المدن ومهمشو الأرياف، وذكرته الثورات العربية بثورات عام 1848 التي اجتاحت أوروبا وعندما اندلعت الثورة الفرنسية لحقت بها ثورات في كل البلدان الأوروبية، والثورة إذا فشلت على المدى المباشر فإنها سوف تحقق نجاحا نسبيا على المدى البعيد.

لم يتوقف إريك هوبزباوم عن الكتابة، حتى قبل وفاته بقليل، أصدر كتابا وهو في الرابعة والتسعين من عمره بعنوان “كيف تغيّر العالم” وهو دفاع عن الماركسية التي اعتبر أنها ما زالت وثيقة الصلة بعصرنا، خاصة بعد الأزمة المالية وانهيار البنوك الكبرى في أوروبا وأميركا وهذا ما عدّه من علامات فشل الرأسمالية واعترف في أواخر حياته، بفشل اشتراكية القرن العشرين ولكنه لم يفقد الأمل في المثل والأفكار الماركسية.

وكان هوبزباوم، من أشد المناصرين للقضية الفلسطينية، وأدّى تشدد موقفه من إسرائيل، إلى تعاظم الحملات الصهيونية ضده واعتبر السياسات التي تنتهجها حكومة إسرائيل، بأنها كارثية ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في الأراضي المحتلة. في النهاية، يتردد صوت هوبزباوم الذي لم يتوقف عن القول “لقد أنجزت ما أنجزت دون أن أقدم أيّ تنازلات أو أن أساوم على الإطلاق”.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن