عبقرية المواطن العاري

أمنية حامد
rowfash@gmail.com

2017 / 9 / 13

في قلب الأنظمة السياسية و الاجتماعية ( بل في أي نظام بشري) نجد ان الفرد هو النواة. فأن تُركت تلك النواة لتعبر عن نفسها و لتتفاعل مع بعضها البعض، بزغت عن امكانيتها و تلاحمت مع بعضها، فتغلفت النواة بقشور و لحم ولون و هيئة، لتكون منظومة و نظام، و مجتمع و حضارة عمادها الفرد المواطن و نتاجها منظومة بشرية هي في محصلتها أعظم/أكبر من مجموع مكوناتها منفردة ( الفرد). أما اذا مُنعت النواة دون ذلك و كُبلت، صارت كل نواة قوة منفردة ضعيفة، تتحمل مسؤلية تأمين بقائها و مصير وحدتها، كل نواة علي حدة.

أين مواطننا إذا من هذا السرد؟ مواطن بلداننا، المواطن الحانك و لكن المغلوب علي أمره، أو الصابر لفرج من عند ربه، أو الثائر المناضل، أو المخدوع…تعددت صور مواطننا، فكان رجل الشارع هو محصلة كل ذلك.

وقبل الحديث عن عبقرية هذا المواطن، علينا التطرق للمأساة التي تبزع منها تلك العبقرية.
إذا ما قارناه بمواطن دول عديدة، الغربية منها والشرقية، المتقدمة منها و تلك في طريقها للتقدم، لكانت صورة لمواطن لم ينعم بكثير مما ينعم به اقرانه من حقوق المواطنه (من مساواة، وحرية و احترام لكرامته…)، ولم يجني الكثير من ثمار لتقدم (رعاية صحية و كفاءة تعليم….).
و هنا تكمن منابع عبقريته، فأينما نجد القصور في الإمكانيات المحيطة، نجد اتساع لجهود الأفراد لشغل هذا القصور. و هو ما يعرف علي الصعيد الفردي بوساعة الحيلة، أو بالفهلوة في احيانا أخري. و علي الصعيد الجماعي فهو ما كثيرا يشار له بفخر بالتماسك المجتمعي.
قد يعبر تجمع العائلة و الأقارب و الجيرة في مستشفي ما عن تماسك شعوبنا، وإذا ما تريسنا قليلا لوجدنا الايادي تمتد و الجيوب تنبسط لتشارك في سداد الفاتورة التي عادة ما يعجز عنها أفراد الأسرة الواحدة. ان مثل هذا التماسك المجتمعي هو عبقرية الفرد في إطار الجماعة، ليس فقط في الالتفاف حول عجز منظومة الدولة ( من تأمين رعاية صحية لمواطنيها، أو رقابة علي الخدمات، أو ..)، ولكنه في تكوين آلية بدلية و “مستدامة” للتعامل مع هذا العجز و ذلك بالاعتماد علي الأفراد و علاقتهم ببعضهم البعض.
و ما كان سبب نشأة العديد من المؤسسات المدنية و منبع كثير من الجهود الأهلية إلا تعبيرا عن جهود الافراد تجاة القصور الذين يواجهونه، أو الآمال التي يربو إليها.

و هنا وجب علينا التوقف وطرح السؤال الاساسي لمقالنا: ما هو حال مواطننا في ظل ما نلاحظة مؤخرا من جهود مكثفة و حثيثة لنخر الإطار المؤسسي للدولة ؟

المتابع لوضع بلداننا في السنوات الأخيرة الماضة، يجد جهود و مبادرات شته تهدف لنخر دعائم الإطار المؤسسي (من هيئات و منظمات مثل النقابات العمالية/ الأحزاب و مراكز التجمع)، سواء كان ذلك من خلال ابتلاع تلك المؤسسات تحت مظلة السلطة التنفيذية (مثلا في إطار سياق جينرالات لرآستها أو حلها بوظائف مماثلة للجيش)، أو من خلال هدم مباشر لها (سياق قوانين و تشريعات لتكبيل أو تجريم مسار تلك المؤسسات).
في الوقت نفسه، نجدنا أمام توجه آخر مميز للمرحلة الحالية و الذي يرتكز علي نزول السلطة التنفيذية للشارع لمخاطبة المواطن وذلك في شكل حملات مكثفة و متواصلة لتعبئة المواطن. الدلالة هنا هي ليست في أي هدف تخدمه تلك الحملات (سواء كان التبرع أو الثقة بالحكومة…إلخ)، ولكن في واقع نزول السلطة للشارع بمثل هذ الشكل المكثف، وهو ما يدل علي تعطل الإطار المؤسسي للدولة (أو ضمن جهود عمدية لتعطيله).
إذا ما أضفنا إلي ذلك، أعراض تغول السلطة التنفيذية عبر جهود السيطرة علي السلطات التشريعية و القضائية، فلن نجد فقط تلاشي الحواجز الفاصلة ما بين السلطة و مواطن الشارع (و هي الحواجز الحامية للمواطن و المرشدة لمسار السلطة) ، بل اننا نجد جهود موازية هدفها احكام القبضة حول مسار هذا المواطن.

وهنا وقف مواطننا عاريا أمام سلطانه، ليس فقط جراء تجريده من المؤسسات الحامية (مثل مؤسسات المجتمع المدني و الأهلي)، و لكن من مؤسسات رقابيه علي تغول السلطة.

قد يخيل لرواد ذاك المنحي انه بهدم الإطار المؤسسي سيُنال المراد من إحكام القبضة علي هذا المواطن، أو -حتي بافتراض حسن النية - ضمان الاستقرار بتوحيد الصفوف و تصفية أو تأجيل وقع الاصوات المعارضة. و لكن قناعتنا هنا أن مثل تلك المحاولات لا تقدر حجم عبقرية مواطن الشارع في بلداننا.

فبينما لا نجد الانفراد هنا في وقع محاولات سعي السلطة لتحطيم الهيكل المؤسسي للدولة أو تخطيه - و هو ما يمكن ملاحظته علي صعيد العديد من الدول الأخري (شاملة بعض الدول المتقدمة)- لكننا نؤكد ان الانفراد هو انفراد طبيعة مواطننا، و هو ما يمكن عزوه لثلاثة خاصيات لوضع هذا المواطن:

- إبهام البيئة المحيطة
- الماضي ليس ببعيد
- غياب التخصص في العمل

أولا: إبهام البيئة المحيطة
الانسان هو ابن بيئته، فما ان استقرت تلك البيئة و تعلم هذا الفرد التعامل مع معطياتها و سبل تلبية احتياجاته، استقر هو الآخر، و ادار طاقاته لمجالات أخري هدفها تطوره و اشباع احتياجات اخري (من تحقيق الذات ….إلخ). أما ان ما ابهم عليه فهم تلك البيئة لتغيرها المتواصل و تغير معطياتها، فاننا نجدنا امام مواطن منحصرا في دوامة التعامل مع هذا التغير لتلبيه نفس الاحتياجاته، دون توفر فرصة الرقي نحو اشباع احتياجات اسمي.


ثانيا: الماضي ليس ببعيد
نجد في حياة الشعوب ما يشابة الذاكرة، خاصة تجاه مظاهر عدم الاستقرار السياسي (او العنف السياسي). فان ما مرت الدول بفترات تذبذب أو وصلات عنف و عدم استقرار فعادة ما تأخذ تلك الوصلات وقتها إلي ان يتلاشي الخطر. لا يتطلب تعديل المسار التحكم في العوامل المحفزة و المسببة لمثل تلك المظاهر فقط، بل لابد من تأمين الاستقرار لفترة زمنية كافية لضمد آثار ما هو حي في ذاكرة الأمة. فان كانت ميكانيكيات التعامل مع الاضطراب هي الأقرب للذاكرة، فانها تكون المكون الاساسي الذي يتم استدعاءه من جعبة الاستراتيجيات للتعامل مع الحاضر. وعليه يتطلب الاستقرار وقت كافي يتم فيه تراكم وإحلال تلك الميكانيكيات في ذاكرة الشعب بفاعلية ميكانيكيات أخري (أكثر سلمية و استقرار).

إذا ما أخذنا في الاعتبار الاحداث الماضية في حياة بلداننا من ربيع (أو خريف و ما بعد) فان مواطننا هو اقرب للتحفيز منه للاستقرار تجاه متغيرات البيئة المحيطة، خاصة ما ان كان قريب من بيئته لاضطرابها المضترد.

ثانيا: التخصص في العمل
يُعزي أحد اسباب تقدم النموذج الغربي إلي تطور آلية التخصص في العمل، والتي بموجبها يمكن للمنظومة الصناعية السعي نحو درجات ادق و أعمق و أكثر تخصصا في مجالات العمل المختلفه، بينما يمكن للمواطن مواجبة هذا التخصص بالاعتماد علي ميكانيكيات معروفة و متاحة لتلبية احتياجاته المختلفة. و عليه فبينما يكون نموذج تطور العمل هو نحو الاكثر تخصصا، يكون تطور البيئة المحيطة (البيئة المؤسسية بافرادها الأكثر تخصصا) نحو الشمولية لتلبيه الاحتاجات المختلفة لمواطني المجتمع.

وهو ما دفع عدد من علماء وفلاسفة الغرب للحديث عن تحول المواطن الغربي لمواطن “أحادي البعد” باعتماده علي بيئته المؤسسية التي بدورها افصلت عن البيئة المحيطة، فانفصل هو الآخر عن بيئته غير مبالي بتطورها و المنحي العام, فاقدا لقدرته النقدية و الثورية (مقال سابق،” نحن و الغرب: أكثر من قصة واحدة للخلل”).
إذا ما رجعنا لحال بلداننا، فاننا لم نشهد نفس مسار التطور. وعليه وجب علي المواطن ليس فقط الالمام بشؤن عمله اليومي ، بل ان بقاءه لم يزل يعتمد علي قدر تسلحه بمختلف المهارات و المعارف لتصريف امور حياته علي الاصعدة المختلفة.

محصلة تلك الخصائص الثلاثة- التذبذب الدائم للبيئة و خاصة جراء الاحداث الأخيرة في حياة شعوبنا، و انعدام الهيكل المؤسسي الشمولي لاشباع احتياجاته- هو مواطن قريب من بيئته، ثري في حيله، متحفزا للحراك. مواطن عبقري، طور شبكات من التفاعل و الاعتماد المتبادل بين اقرانه للتعامل مع واقع مُقيد. انه النواة المحفزة بطاقة و المسلحة بقدرة علي الحراك لضمان بقاءها.

و عليه فان ما نشاهده من جهود لتعريته عبر النخر للإطار المؤسسي ستؤدي لتراكم في الاحتياجات التي يستلزم اشباعها، و هو ما سيصاحبه زيادة لحراك المواطن بحثا عن سبل بديلة لاشباع تلك الاحتياجات. في الوقت ذاته، فان جهود تكبيل المواطن التي اتت مصاحبة للتعرية تعني ازدياد تحفيز النواة دون توفر متسع للحراك عبر الوسائل المعتادة.

جسامة الخطر هنا تكمن في الاعتقاد ان هذا المواطن سيخمد مع الوقت، راضيا بما حُل عليه، ليس فقط لانه ليس “احادي البعد” و لكن لان بقاءه دائما ما اعتمد علي عبقريته في اطار الجماعة. فما يملك في جعبته يتغير بتغير معطيات البيئة و ما هو متاح له.

ربما الأكثر حرجا هنا ان إيجاد متسع لحراك هذا المواطن - بجانب كونه شرط ضروري لاشباع احتياجاته - هو متطلب ضروري للسلطة الحنكة التي تدري خطورة سياق مثل هذا المواطن العبقري لحلبة لم يتبق له فيها سوي خيار مصارعة السلطة لضمان اساسيات بقاءه، خاصة بعد ان تم تعريته من المؤسسات الفاصلة بينه و بين تلك السلطة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن