المسار - العدد 7

الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي
osaham@gmail.com

2017 / 8 / 31












المسار- العدد (7)- آب- أغسطس 2017


الافتتاحية:

رؤيتنا المرحلية
كان انفجار الأزمة السورية بدءاً من درعا 18اْذار 2011 تعبيراً عن انفجار البنية السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية لسوريا ما بعد 8 آذار 1963: ساهمت "رياح الربيع العربي" في اشعال عود الثقاب الذي حصل في حوران في يوم الجمعة ذاك وقد كان هناك حطب سوري جاف كثير جاهزاً للاشتعال. لم يكن هناك من مؤامرة خارجية بل بنية داخلية انفجرت ذاتياً وعملياً كان مستغلوا الازمة السورية كلهم من المتقاربين مع النظام السوري في فترة 2004-2010: تركيا 2004، قطر 2006، فرنسا 2007، السعودية 2009، الولايات المتحدة 2009.
من الضروري هنا البحث عن البذور الاولى لهذه الازمة هل كانت في 17نيسان 1946 أم في 22شباط 1958[الوحدة السورية المصرية] أم في 8 اذار 1963 عند بدأت سيطرة حزب البعث على السلطة في سوريا أم في 16تشرين ثاني1970؟
نحن نقول بمصطلح الأزمة السورية من خلال واقع سوري حصل منذ يوم18آذار2011 أنتج استعصاءاً توازنياً لم تستطيع فيه السلطة التغلب على المعارضة، ولا المعارضة التغلب على السلطة، ولم يستطيعا انتاج تسوية ثنائية بينهما، وهذا ما ولد أزمة سورية عامة هي الأكبر منذ يوم الجلاء الفرنسي عام 1946، وقد استغل الخارج الاقليمي هذه الازمة السورية، ثم الخارج الدولي منذ عام 2012 ،لكي تتحول الازمة السورية الى ازمة دولية-اقليمية-محلية.
نحن لا نقول إنه كانت هناك ثورة بل كان هناك حراكاً اجتماعياً معارضاً واسعاً، ولكنه لم يمثل اغلبية مجتمعية، وإذا أردنا الدقة فقد كان هناك ثلاث أثلاث متساوية في الموالاة والمعارضة والتردد وهذا وضع مستمر حتى بعد ست سنوات من الازمة السورية، وبالتأكيد هذا التوازن الذي أنتج ذلك الاستعصاء وهو الذي منع أن يحصل في دمشق عام 2011 ما حصل في القاهرة مع حسني مبارك في يوم 11 فبراير من ذلك العام، ثم منع التوازن الاقليمي والدولي ذلك فيما بعد.
من هذا المنطلق ما كان ممكناً سقوط النظام السوري لا عبر آليات داخلية ولا اقليمية ولا دولية.
ومن هذا المنطلق يأتي منطق التسوية الذي ننادي به والذي يجب أن يكون بحكم طبيعة الازمة السورية المركبة في طوابق ثلاث: دولية واقليمية ومحلية، لكي تكون التسوية ذات طابع دولي - اقليمي - محلي، وإلا لن يكتب لها الاستمرار، والمؤشرات كلها تدل على أن بيان جنيف 1 لعام 2012 والقرار الدولي 2254 لعام 2015 سيكونان عماد هذه التسوية.
من الواضح عبر مسار الأزمة السورية ومآلاتها أنه قد أصبح هناك هيمنة للخارج الدولي والاقليمي على الداخل السوري وتحكماً بمسارات الأزمة ومفاتيح الحل، وأن هناك هيمنة للخارج على الداخل السوري، وأن هذا سيحدد الكثير من مسارات الأزمة السورية مستقبلاً ومسار التسوية السورية والوضع السوري ما بعد التسوية. هذا يعني أن التوازنات المحلية ليست هي المقررة في التسوية السورية وهناك مؤشرات من ستة سنوات من الأزمة على أن العامل الدولي، أي واشنطن وموسكو، هو الأقوى في تقرير مسارات الأزمة السورية من العامل الإقليمي الذي كانت أنقرة والرياض وطهران وإلى حد" ما "الدوحة هي عناصر الفعل فيه.
يبدو في هذا الصدد أن عناصر التوافق الأمريكي الروسي ليست متوافرة في جنيف 4 وأيضا لم تكن متوفرة في جنيف 3 وأيضا في جنيف2.
في جنيف3 كان الإقليمي قادراً على العرقلة ولكنه لا يملك من دون الدولي القدرة على تنجيح المفاوضات ولكنه يستطيع عرقلتها.
من المحتمل في ظل هذه اللوحة أن يكون جنيف4 مثل جنيف3 من حيث مآلات الفشل، وخاصة من خلال تداخل الموضوع الاوكراني مع الموضوع السوري في الصفقة الامريكية الروسية التي يبدو أن عناصرها لم تكتمل بعد. على الأرجح أن الأزمة السورية ستطول ولن يكون هناك حل قريب في المدى المنظور.
أظهرت الأزمة السورية ظواهر عديدة :بنية سورية متماسكة اجتماعياً أكثر من دول جوار مرت بانفجارات عديدة سابقة: لبنان1975-1990،عراق2003-2016،تركية1984-2016،حيث وقعت هذه الدول في تفتت اجتماعي طائفي(لبنان)وطائفي – اثني(العراق بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد)واثني(تركية بين الترك والأكراد منذ تمرد عبدالله أوجلان المسلح بيوم15آب1984)،فيما سوريا لم تظهر انقساماً اجتماعياً على أكثر من تخوم :موالاة –معارضة –تردد.
تحديد المرحلة:
نحن في الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي نرى أن المرحلة الراهنة سورياً هي مرحلة ذات طابع وطني ديمقراطي. المرحلة الوطنية الديمقراطية تعني اجتماعيا أنها مرحلة برجوازية وذات طابع رأسمالي من حيث البنية الاقتصادية – الاجتماعية، وهي تعني كذلك من حيث البنية الدستورية-القانونية. نحن نؤمن بأهداف مرحلية وطنية – ديموقراطية-اقتصادية اجتماعية – تحديثية، ونحن نرى بأن المرحلة السورية في ظل الهيمنة الخارجية على سوريا، عبر مسار أزمة2011-2017، تدفع إلى اعطاء الأولوية ل(الوطني)، أي للحفاظ على سورية موحدة ولإخراجها عبر التسوية من أزمتها ثم بعد انجاز التسوية الدخول في كفاح وطني للخروج من هيمنة (الخارج)على (الداخل)، وبالتالي فنحن ننظر للمهمات المرحلية الثلاث الأخرى من خلال نظارة(الوطني)، ونتلاقى مع القوى السياسية الأخرى من خلال ذلك.
(الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي) يعمل على ثلاثة خطوط:
1: خط وطني عام: يتلاقى من خلاله الحزب في السياسة مع من يتلاقى معه بغض النظر عن موقعه الأيديولوجي من الأطراف السياسة الأخرى.
2: خط يساري عام: يتلاقى فيه الحزب مع قوى يسارية عروبية وكردية وماركسية على خط وطني ديمقراطي.
3 خط يساري ماركسي: يطمح من خلاله الحزب الشيوعي السوري -المكتب السياسي الى تجميع الماركسيين السوريين في تجمع يجمع أحزابهم وحركاتهم على أساس قيادة مركزية سياسية مع بقاء تنظيماتهم كمدخل الى التوحد في حزب يجمعهم في تنظيم واحد وبرنامج سياسي واحد.
التلاقيات السياسية للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي ستكون محددة حسب ما يراه من متطلبات في كل مرحلة: مرحلة الأزمة السورية الراهنة - مرحلة الانتقال السياسي إلى وضع ما بعد الأزمة نحو نظام ديمقراطي يتجاوز وضعية مابعد يوم8آذار1963 - مرحلة ما بعد الانتقال السياسي.

---------------------------------------------------------------------
آلية وضع الدساتير في دول الربيع العربي


تعريف الدستور:
يمكن تعريف الدستور بأنه عبارة عن مجموعة من القواعد المكتوبة أو غير المكتوبة تحمل القيم والمبادئ المنظمة للمجتمع، وتحدد صلاحيات وحدود السلطة السياسية، وكما تنظم السلطات وعلاقاتها ببعضها البعض مع الحفاظ على حقوق وواجبات الأفراد، وينظم الدستور الشؤون الداخلية والخارجية للدولة، و يحدد شكل الدولة وحكومتها، وهو يعبر عن قوة المجتمع، وأي وثيقة أخرى تتعارض مع الأحكام الواردة فيه تعد باطلة، أي إن أي قاعدة دستورية تعلو على كافة القواعد القانونية التي تطبق في دولة ما، سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية الموضوعية. وقد توضع الدساتير بطرق ديمقراطية وغير ديمقراطية، وما يهم هنا في هذه الدراسة الطرق الديمقراطية ن وهي تتمثل بطريقتين
1ـ الجمعية التأسيسية المنتخبة وفيها ينتخب الشعب أشخاص يمثلونه في هذه المهمة لصياغة الدستور
2 ـ الاستفتاء الدستوري : توضع أحكام الدستور عن طريق جمعية نيابية منتخبة عن طريق الشعب، وبعد ذلك يتم عرض الدستور على الشعب ولا يصبح نافذا"إلا بعد موافقة الشعب عليه.
المسيرة الدستورية في دول الربيع العربي:
إن الحراك الذي بدأ في دول ما يسمى الربيع العربي لم يكن وليد لحظة عام 2011، بل هو عبارة عن نتيجة تراكم رغبات هذه الشعوب للعدالة والكرامة، بعد عقود من الاستبداد السياسي والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، فرغبات هذه الشعوب تكاد تكون واحدة وان اختلفت الطرق للتعبير عن هذه الرغبات، ففي مصر وتونس مثلا نتج عن الحراك إزاحة رأس النظام في كلا البلدين ، بينما في المغرب والأردن كانت هناك إصلاحات من داخل النظام نفسه.
وقد لجأت القوى التي استلمت زمام الأمور بعد هذه الثورات إلى ما يسمى الإعلان الدستوري، ويمكن تعريف مصطلح الإعلان الدستوري بأنه يطلق على الدستور المؤقت الذي يصدره من في يده السلطة المطلقة ولفترة انتقالية ومفصلية في تاريخ دولة من الدول بمجرد استقلالها أو تكونها أو بعد انقلاب عسكري أو ثورة شعبية ويتمحور الإعلان الدستوري حول السلطة الغير المنتخبة التي أصدرته والتي في الغالب تضع رؤيتها لمستقبل الدولة الجديدة وتضع جدولا زمنيا للفترة الانتقالية .
مصر:
ولتوضيح هذه المسيرة لابد من نظرة متفحصة لتجارب وأحداث هذه البلدان ونبدأها من مصر، فقد أسفرت الاحتجاجات التي عصفت بالساحة المصرية عن مطالب من أبرزها إيقاف العمل بدستور عام 1971، فبعد تنحية الرئيس السابق حسني مبارك في 11شباط 2011 بإعلان نائبه الراحل عمر سليمان تنحية مبارك عن السلطة وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، اصدر المجلس الأعلى المذكور بعد يومين إعلانا دستوريا قضى بتعطيل العمل بدستور عام 1971 الذي كان يحكم البلاد، ونص هذا الإعلان على حل مجلسي الشعب والشورى وتولي المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد مؤقتا، حتى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية. وقد جرى استفتاء شعبي في الشهر التالي أسفر عن موافقة 77% من المصريين على تعديل بعض مواد دستور عام 1971، وهذه التعديلات تضمنها إعلانا دستوريا جديدا صدر في الشهر ذاته، ينصّ على تخفيف شروط الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتحديد فترة الرئاسة بأربع سنوات تجدد مرة واحدة، وعضوية مجلسي الشعب والشورى بست سنوات. مع التذكير من إعلان 25 سبتمبر 2011 قد نص على انتخاب ثلثي أعضاء مجلسي الشعب والشورى بالنظام الفردي والثلثين بنظام القوائم، وتلا هذا الإعلان إعلان دستوري جديد في 14 حزيران 2012 قرر حل مجلس الشعب بناء على حكم الحكمة الدستورية العليا، حيث قضى بعدم دستورية قانون الانتخاب الذي جرت على أساسه العملية الانتخابية. وبعد هذا الإعلان بثلاثة أيام صدر إعلاناً دستوريا مكملا من المجلس العسكري : حيث اعتبر إن قرارات الرئيس المتعلقة بالمؤسسة العسكرية مرهونة بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولكن هذا الإعلان المكمل ألغاه الرئيس مرسي بإعلان دستوري جديد في 18 آب 2012، ثم بعد ذلك اصدر الرئيس مرسي في 21 تشرين الثاني من نفس العام إعلان دستوري جديد اعتبر فيه إن قرارات الرئيس وإعلاناته الدستورية منذ انتخابه وحتى انتخاب مجلس شعب جديد نهائية ونافذة وغير قابلة للطعن، واعتبر هذا الإعلان مثيرا للجدل وما لبث الرئيس مرسي أن ألغاه بإعلان دستوري جديد، ونص هذا الإعلان الدستوري الجديد على انه في حال عدم الموافقة على مشروع الدستور تنتخب هيئة تأسيسة جديدة من مائة عضو انتخابا مباشرا من الشعب، على أن تقدم الجمعية التأسيسية مشروع الدستور خلال ستة أشهر للرئيس الذي يدعو للاستفتاء عليه في مدة أقصاها ثلاثون يوما، كما نص الإعلان على أن كل الإعلانات الدستورية لا تقبل الطعن أمام القضاء . واضح إن هذه الإعلانات كانت وسيلة لسد الفراغ الدستوري بعد تعطيل العمل بدستور عام 1971. بعد كل هذه الإعلانات تم وضع دستور دائم للبلاد في عام 2012 صاغته اللجنة التأسيسية وعرض للاستفتاء حيث نال موافقة8‘63 % ومعارضة 2‘36 %، ولكن مرة أخرى تم تعطيل العمل به بتاريخ 23 يوليو 2013 حتى تعديله وطرحه للاستفتاء الشعبي وذلك بعد مظاهرات 30 يونيو عندما قام الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي و بالاتفاق مع المعارضة على عزل الرئيس محمد مرسي ووضعه في الإقامة الجبرية، حيث اصدر عبد الفتاح السيسي مجموعة من القرارات كان منها توقيف العمل بدستور 2012 مؤقتا حتى عرضه على هيئة الخبراء وتعديله ، وقد قامت لجنة الخبراء بحذف بعض المواد وتعديل البعض الآخر ليصبح الدستور الجديد المقترح 198 مادة وابرز ما جاء في اقتراحات لجنة العشرين
1- إلغاء مجلس الشورى ـ2 ـ إلغاء نسبة 50% عمال وفلاحين ـ3 ـ بقاء مواد القوات المسلحة دون تعديل ـ 4 اعتماد النظام الفردي ـ5ـ تعديل المادة الخاصة بالمحكمة الدستورية العليا.
وقد تم التصويت على مشروع دستور 2014 وأصبح ساري المفعول إلى الآن. ومن الملاحظ أن دستور عام 2014 الجديد قد شكل تراجعا كبيرا عن دستور 2012 الموضوع إثناء حكم الأخوان حيث جاءت العبارات حول حقوق وحريات المرأة فضفاضة وبدأت تظهر الكثير من الثغرات الدستورية، وترك معالجة الأمور الهامة للرئيس وتغول الجيش على حساب الدولة استنادا لنظرية الظروف الاستثنائية، و اعتبر بعض الفقهاء في مصر إن هناك عيوب كثيرة في دستور عام 2014 تتعلق بحق التظاهر والمحاكمات العسكرية والشريعة الإسلامية.
تونس :
إما في الوضع التونسي فقد كان صدور الوثيقة الدستورية نتيجة لتسوية صراعات بين حزب النهضة التونسي والأحزاب العلمانية، حيث أكدت الوثيقة على أن الإسلام هو دين الدولة وهو دين رئيسها كذلك، ومع ذلك شكلت هذه الوثيقة تطورا مهما على صعيد حقوق الإنسان ورفع تمثيلية المرأة في المجالس المختلفة، وقد وسع الدستور التونسي الجديد من جهة أخرى من مجال السلطة التشريعية وخص المعارضة بحقوق تمكنها من ممارسة مهامها، وعلى تمييز الأدوار بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة والنص على استقلال القضاء والمحكمة الدستورية، وقد وضع الدستور التونسي الحالي في عام 2014 وتمت المصادقة عليه من قبل المجلس الوطني التأسيسي في 26 يناير 2014 والذي تم انتخابه في 23 أكتوبر 2011، ولم يطرح الدستور على الاستفتاء الشعبي على عكس الدستور المصري، بل اكتفي بالموافقة عليه بأغلبية الثلثين من المجلس الوطني ، ويعتبر دستور 2014 هو الدستور الثالث في تاريخ البلاد بعد دستور عام 1861ودستور عام 1959، وقد وجهت انتقادات كثيرة لهذا الدستور بأنه لم يلبّي مطالب العدالة الاجتماعية بشكل كاف وان دستور بورقيبة فيه مقومات أعلى بكثير وان الشريعة الإسلامية لم تكن موجودة بالأصل، وان الدساتير يجب أن تحصل على موافقة الشعب لأنه مصدر السلطات والسيادة فكان في هذا العقد الاجتماعي لابد أن يوقع الشعب عليه لأنه الطرف الأهم ، وان تحديد سن الترشح للرئاسة ب72سنة كحد أقصى غير مقبول، بالمقابل اعتبر مؤيدو الدستور بان الدستور قد حصن نصوص مدنية الدولة والحريات وحقوق الإنسان من أي تعديل أو انتقاص، وقد لاقى الدستور التونسي استحسانا دوليا ومحلياً.

ليبيا:
أما في ليبيا فقد أدت انتفاضة الشعب الليبي في 17فبراير 2011 إلى الإطاحة بنظام معمر القذافي و إلى تشكيل المجلس الوطني الليبي المؤلف من قضاة ومحاميين وعسكريين وتكنو قراط وفئات أخرى، حيث عمد إلى استصداراعلان دستوري مؤقت على أن يبقى ساري المفعول إلى حين كتابة وإقرار دستور دائم للبلاد، والإعلان مكوَن من 37 مادة في خمسة أبواب، ونص على اعتبار أن من واجب الدولة إقامة نظام سياسي ديمقراطي مبني على التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة ومبدأ سيادة القانون ومبدأ تكافؤ الفرص وضمان حقوق المرأة ومشاركتها الكاملة في كافة المجالات، كان من المفترض إن يتم الدستور بحلول ديسمبر 2013 ، إلا أن العملية خضعت لعرقلات مثل إرجاء انتخاب المؤتمر الوطني العام، وقد انقسم المجتمع الليبي على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية واقتتلت الأطراف، كان من آثار ذلك بطء العملية الدستورية في البلاد، وخاصة بعد المطالبة بتعديل الاعلان الدستوري، وقد تم تعديل الاعلان الدستوري وحقق ثلاث أهداف وهي احترام القضاء والهدف الثاني الحفاظ على المسار الدستوري في البلاد والتداول السلمي للسلطة والثالث تثبت الاتفاق بين الأطراف المتنازعة وتحصينه من الطعن في دستوريته، وبمجر د تعديل الاعلان الدستوري أصبح مجلس النواب الجسم التشريعي الوحيد في البلاد، أي إن مجلس النواب هر الذي يصدر التشريعات طبقا لنصوص الاتفاق وان أي تعديل لاحق للإعلان الدستوري لابد من التوافق عليه من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة ويصدره مجلس النواب كما هو دون تعديل وهذا ما نصت عليه المادة 12 من الأحكام الإضافية.
وقد شمل الاعلان الدستوري سبعة تعديلات ارتبطت كلها بإعادة توزيع السلطة السياسية ما بين المؤتمر العام والهيئة السياسية والمفوضية العليا للانتخابات، حيث أجرى المجلس الوطني ثلاثة تعديلات دستورية وقام المؤتمر العام بأربعة تعديلات كان أهمها تغيير التعديل الثالث 6 تموز لاختصاص المؤتمر الوطني باختيار الهيئة السياسية بانتخابات مباشرة، اتجهت تعديلات المؤتمر الوطني لتثبيت وضع ما بعد القذافي وبلورة نظام سياسي جديد، حيث تناول التعديل الخامس ما اصطلح على تسميته بالتحصين الدستوري للعزل السياسي في نيسان 2013 فاعتبر إن عزل بعض الأشخاص ومنعهم من تولي المناصب العامة لفترة مؤقتة لا يشكل إخلالا بحقوق المواطن والفرص المتساوية الواردة في المادة 6 من الاعلان الدستوري . وكان ذروة الجدل الدستوري هو تعديلات شباط وآذار 2014 ، وهناك تعديل يتعلق بالقسم الدستوري المادة 19 حيث شهد تغييرا في مضمونه والياته وانتقل من التأكيد على استقلال الدولة ووحدة أراضيها وأولوية ثورة شباط إلى تبني تعديلات شباط وآذار 2014 تخلت عن الإشارة لوحدة البلاد والاقتصار على الالتزام بسلامة أراضي الدولة ، وكان اللافت انه قد تم تعديل القسم الدستوري دون تعديل المادة 19 وهذا يعد تناقضا في إطار الدستور لوجود نصين مختلفين لنفس القاعدة الدستورية ، وقد صدر حكم قضائي في 6 تشرين الثاني 2014 بإبطال التعديل الدستوري السابق وهذا يعد بمثابة تعديل إضافي . إن التعديلات الحاصلة جعلت عملية ولادة الدستور الليبي عملية معقدة ويبين ذلك الانقسام الدستوري وجود ثنائية في مؤسسات الدولة ، فالأزمة الدستورية نشبت لدى انعقاد مجلس النواب في طبرق في آب 2014 أدت إلى استئناف انعقاد المؤتمر الوطني وتشكيل حكومة إنقاذ وطني ومؤيدة لعملية " فجر ليبيا " بعد سيطرتها على طرابلس في آب 2014 ، لكن فعالية مجلس النواب كانت نتيجة للدعم من خارج ليبيا ، أمّا الهيئة السياسية فإنها وفق المادة 12 من تعديلات شباط وآذار 2014 تكون قد تجاوزت المدة الدستورية في آب أي 24اب من نفس العام وكان دورها ضعيفا في حل الأزمة السياسية والتخفيف منها ، ثم عادت لجنة الستين المكلفة بصياغة الدستور الليبي للنقاش من جديد للتوافق على مشروع يعرض على الاستفتاء وذلك بعد رفض إقليم برقة شرقي البلاد للمشروع الأخير الذي اقر في نيسان 2016 بعد مفاوضات في سلطنة عمان برعاية الأمم المتحدة .ولكن في آذار من عام 2017 شكلت لجنة توافقية في لجنة الستين تتكون من ستة أعضاء من الموقعين على المشروع الأخير وستة أعضاء آخرين من الرافضين بهدف الوصول إلى مشروع جديد ، حيث نص المشروع الأخير على إرساء النظام الجمهوري للدولة و تسمى الدولة الليبية وعاصمتها طرابلس معتمدا النظام الرئاسي ، حيث تتكون السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية وحكومة يعينها ناصا على طريقة خاصة لانتخاب الرئيس ، حيث لا يتم انتخابه بالأغلبية العددية فقط بل كذلك بالأخذ بمعيار الجغرافيا ضمانا للتمثيل الجغرافي لرئيس البلاد ، ويكون البرلمان واسمه مجلس الشورى مكوناً من غرفتين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ وذلك تماهيا مع النموذج الأمريكي ، ونص مشروع دستور نيسان على نظام حكم محلي لامركزي موسع كحل وسط بين نظام المركزية والنظام الفدرالي الذي يطالب فيه إقليم برقة واعتبر المشروع اللغة العربية لغة رسمية فيما اعتبرت لغات باقي المكونات العرقية تراثا ثقافيا ولغويا ورصيدا مشتركا لكل الليبيين وتضمن الدولة اتخاذ التدابير اللازمة لحمايتها ، في حين تطالب المكونات العرقية بدسترة لغاتها ، إلا أن ثلاثة جهات قد أعلنت رفضها للمسودة الأخيرة للدستور وهي التيار الفدرالي والأقليات العرقية ومنظمات حقوقية عدة وهذا يؤكد أن الوصول إلى اتفاق نهائي على الدستور بين الليبيين يحتاج إلى توافق والى الوقت الكافي و الظروف المساعدة أفضل من إقرار دستور يقوم على الغلبة . اليمن:
بعد الانقلاب الذي قام به الحوثيين عام 2014 أصدروا إعلانا دستوريا قضى بحل البرلمان (مجلس النواب اليمني) وتشكيل مجلس وطني انتقالي مكون من 551 عضوا يتولى اختيار مجلس رئاسي مشكل من 5 أعضاء وتعيين حكومة من الكفاءات وقد أصدرت الإعلان " اللجنة الثورية " التي يرأسها محمد علي الحوثي ونصَ الإعلان الدستوري على سريان أحكام الدستور الحالي ما لم يتعارض مع نصوص الإعلان الدستوري الذي تعهد بحماية الحقوق والحريات العامة ، والتزام سياسة خارجية تقوم على مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير واعتبار الحلول السلمية لحل النزاعات ، واعتبر أن اللجنة الثورية هي المعبرة عن الثورة ، ويتفرع عنها لجان ثورية في مختلف إنحاء الجمهورية وتختار هذه اللجنة الثورية المجلس الوطني الانتقالي ويمكن لأعضاء البرلمان الحالي الانضمام إليه . وقد شهدت اليمن احتجاجات على الإعلان الدستوري وقد رفضت السلطات المحلية والعسكرية في محافظات البلاد هذا الإعلان واعتبرته انقلابا ، فيما نظر البعض إلى الحدث بزاوية ايجابية، أما على الصعيد الدولي فقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الإعلان الدستوري المعلن من قبل الحوثيين وأدانت هذه الخطوة ، واعتبرت الأمم المتحدة إن هذه الخطوة ستؤدي إلى فراغ في السلطة في اليمن ، أما جهود المبعوث الأممي لليمن جمال بنعمر فقد فشلت في التوصل مع مختلف الأطراف اليمنية لحل ينهي أزمة الفراغ الدستوري ، واعتبرت بعض المصادر السياسية إن فشل المحادثات سببه الحوثيين بعد رفضهم مقترحا لأحزاب اللقاء المشترك (16 حزب مشاركة في الحكومة المستقيلة) يقضي بتشكيل مجلس رئاسي توافقي مع شرط إخلاء مسلحي جماعة الحوثي لكافة مراكز الدولة السيادية في صنعاء وخاصة دار الرئاسة والمواقع العسكرية المحيطة به، وقد تباينت مواقف الأطراف السياسية وخياراتهم حول موضوع استقالة الرئيس هادي وملْ الفراغ الدستوري القائم في البلاد، بين مجلس رئاسي يتشكل بالتوافق بين المكونات المشكلة لطاولة الحوار بعيد عن البرلمان وهذا الاتجاه يمثله الحوثيين واتفق مع هذا الخيار جناح من التجمع الوطني للإصلاح (الإخوان المسلمون) وهو الذي يقوده رئيس الحزب محمد البدومي مع رفض قطاع كبير من الحزب لهذا التوجه، وبين خيار المجلس الرئاسي ولكن عبر الأطر الدستورية ومؤسسة البرلمان بوصفه الممثل الوحيد للشعب والمعبر عن إرادته وهذا الاتجاه يمثله حزب المؤتمر الشعبي العام، أما الحوثيين فهم يرفضون هذا الحل عن طريق البرلمان، وكذلك حزب العدالة والبناء فموقفه مؤيد لحل الأزمة عبر البرلمان. وفي 28 يوليو2017 أعلن الحوثيين وحزب المؤتمر الشعبي العام وحلفائه عن تشكيل مجلس سياسي لإدارة شؤون البلاد، ونص هذا الاتفاق على تشكيل مجلس سياسي أعلى لإدارة البلاد يتكون من عشرة أعضاء وللمجلس الحق في إصدار القرارات واللوائح اللازمة لإدارة البلاد ورسم السياسة العامة للدولة، وقد وقع الجانبان "الاتفاق الوطني السياسي" والذي بموجبه ستتحدد مسؤولية قيادة البلاد وتسيير أعمال الدولة وفقا للدستور الدائم للجمهورية اليمنية والقوانين النافذة، ويعتبر الإعلان عن تشكيل المجلس السياسي بمثابة إلغاء للإعلان الدستوري الذي أعلنه الحوثيين في فبراير 2015 وحل اللجنة الثورية التي تحكم البلاد خلال الفترة الماضية والعمل بالدستور اليمني الدائم النافذ، وهذا الاتفاق جعل من اللجنة الثورية العليا وإعلانها الدستوري كأنها لم تكن وهو يعني بقاء مجلس النواب اليمني المقرر إن ينظر في استقالة الرئيس هادي وفقا للدستور اليمني، والإعلان عن تشكيل هذا المجلس أربك التحالف العربي بقيادة السعودية والرئيس هادي والأمم المتحدة، واعتبر هؤلاء إن تشكيل مجلس سياسي أعلى في اليمن ينسف المشاورات وعلى مجلس إلا من اتخاذ خطوات فورية وهو نفس رأي الحكومة اليمنية الذي اعتبرته نسفا لجهود السلام وكذلك رأي المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ الذي اصدر بيانا اعتبر فيه إن تشكيل المجلس المذكور انتهاك لقرار مجلس الأمن رقم 2216، واعتبر المراقبون للوضع اليمني إن هدف تشكيل المجلس هو مواجهة ضغوط المفاوضات وقطع الطريق على محاولات شق الصف بين المؤتمر والحوثيين. والأزمة اليمنية لا تزال تراوح مكانها بانتظار إنهاء الحرب وتحقيق السلام.

استنتاجات:
يمكن أن نستنتج من تجارب البلدان التي مرت بمراحل انتقالية أن واضعي الإعلانات الدستورية أو الدساتير النهائية كانوا يعبرون عن توازن للقوى السياسية وهذا يرتبط بدرجة تطور كل مجتمع من مجتمعات هذه الدول، ويمكن الاستفادة في المستقبل من تجارب الدول لوضع دساتير أكثر عصرية وتراعي مبادئ حقوق الإنسان وما استقر عليها الضمير العالمي ، والتوفيق بين موازين القوى السياسية إثناء صياغة الدساتير ينبغي إلا تأتي على حساب القواعد الدستورية المتعارف عليها عالميا , والتي جاءت نتيجة تجارب طويلة وفي طليعة هذه القواعد الفصل بين السلطات وتوازنها وفي حال حصول صراعات بين مختلف القوى السياسية وخشية تعطيل المؤسسات ت الدستوري لابد من إيجاد مرجعية دستورية ينص عليها الدستور ويمنحها صلاحيات تستخدم عند الضرورة في الأزمات.
____________________________________________


الصقيع السياسي يهزم الوطنية

تشتعل منطقتنا العربية منذ أكثر من مائة عام بأحداث سياسية جسام، فما أن تلتقط أنفاسها من حدثٍ حتى تقع في أعظم منه، حيث كنا في حلم بناء الدولة القومية الموحدة وحتى بصيغ يسارية واشتراكية خلال القرن العشرين، وقد وجدنا أنفسنا الآن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين نحلم في سوريا ولبنان والعراق بتوحيد سكان مدينة واحدة تحت راية الدولة القطرية، ورغم هول ما وصلنا إليه عبر تغيرات وإخفاقات سياسية بامتياز فإن غالبية سكان البلاد يتهربون من العمل السياسي ضمن أحزاب منظمة ويمكن أن تكون مرخصة وتعكس تطلعاتهم وتقوم بالدفاع عن مصالحهم. وبقي العمل السياسي متروكاً لأنظمة لا ترى قوتها من قوة شعبها ومجتمعها بل قد ترى العكس وتبيَّن الآن أنها تقودنا نحو التَّفتُّتْ. وبعدها ليتحطم كل شيء على صخرة الارتداد والنكوص نحو الماضي الحاضر فينا، حيث أبسط مسلمات وجود الدولة العصرية الحديثة، هي وجود سكان أحياء وأحرار فوق أرضهم يرسمون ويتوافقون على ما يشاؤون بإرادة حرة .
يتنَّدر الناس في سوريا على من يعملون في السياسة والأحزاب السياسية بسؤال شهير لربما يعكس الشماتة، كم واحد أنتم؟ عشرة؟ عشرون؟ مئة؟ ألف؟ من سمع بكم أو يريد أن يسمع؟ بالرغم من أنك يمكن أن ترى الملايين في حزب البعث أصحاب الشعارات التي يبدو أنها قد انسحبت أمام ضروب التنجيم ونبش أحداث القرن الأول الهجري، حيث تمكنت –وبحضورهم- القوى التي كانوا يدعونها بالرجعية من إعادتهم جميعا إلى حظيرتها حيث حظر نشاط الأحزاب التي حذَّر منها الله في القراْن الكريم فأصبح الحديث بالسياسة مرغوبا وملحَّاً، لكنه حبيس الغرف المغلقة وهمساً بين الجدران الآمنة، حيث لا يقوى الناس على المخاطرة ببحث ما يخصهم والمشاركة في تقرير شؤونهم "لأنه يبدو أمراً يخص آلهة توزيع السلطة"، فعاد الناس كل لآلهته يتضورون الصفح والعفو والبركات، وصارت تعلو بهيمنة صيحات الرجعية ضد التقدمية، فعدنا للوراء بعزيمة وهمة عالية كل يستصرخ صيحات الثأر ويستنهض الغرائز وسفك الدماء. لا سياسة ولا أحزاب في أشد لحظات الحاجة للعمل الوطني عبر السياسة، للملمة الجراح حيث تلتهم الحرب ما تبقى من حياة يعمُّ فيها الفقر والظلام، وحدود البلاد مفتوحة على كل التدخلات.
ورغم هول ذلك لم يُفَك أسر نشاط الأحزاب السياسية، ويعُم الصمت من يخصَّهم الخروج من المأساة، في حين ضجيج التحضير و قرقعة الاتفاقيات يصم الآذان بين الدول المهيمنة، عن طبخة هنا وطبخة هناك تُحضَّر لأبناء السبيل، أهل مملكة الصمت الجياع، حتى أن أحزاباً شهيرة اشتراكية وقومية وشيوعية ومنها دينية أيضا، ما زلنا نسمع دوي شعاراتها فقط، ولم يعد لها أي دور بين الناس ولم تَعد طرف فعَّال فيما يُحضَّر للبلاد. إنها هزيمة وطنية وهزيمة طبقية يحتفل فيها أمراء المال والطوائف والحروب.
فبلاد بلا سياسة تبقى عارية مكشوفة كناس بلا ثياب يتهربون من الظهور ولا يمكنهم المشاركة بما يخصَّهم ويُحضَّر لتقرير مصيرهم، فالساحة الفارغة من السياسة ساحة نخرها العثّ فلا نسمع من يتساءل عن أسباب التخلف والنكوص واللجوء للماضي البعيد للبحث عن مخارج أزمات الحاضر، إنه عقل الرجعية ولو تزيَّن بأحدث صيحات الموضة وألوان الشعارات، هؤلاء الرجعيون الجُدد، وربّما منهم مدّعوا العلمانية لا يجدون حرجا باستبدال شعاراتهم ومظاهر حداثتهم عن الاشتراكية والوطنية الحديثة والوحدة الوطنية بأفعال تعاكسها تماما بالتبعية والتخلف والنكوص بعيدا عن مفاهيم العصر والتطور والتقدم، بالعمل الوطني الجامع والموحد والمدافع عن مصالح وحقوق البلاد.
إن التهرُّب من السياسة هو تخلي عن بقاء الدولة مستقلة وحرة في منطقة ساخنة منذ الأزل لم تتركها المشاكل والقضايا السياسية والتدخلات الخارجية وأنظمة الاستبداد، حيث يضطر سكانها للعزوف عن التدخل بالسياسة ويسخر أغلب مثقفوها من العمل السياسي، ومع ذلك لم يعفهم تجمدهم في هذا الصقيع ولم ينجيهم من خراب بيوتهم ودمار حياتهم، حيث كان يمكنهم التداول بما يخصهم ويقرر مصيرهم بطريقة عصرية وتنافسية وسليمة تعفيهم مما جرى لهم بغيابهم، من فراغ سياسي خلَّفوه، ونراه وقد تحوَّل لقنبلة فراغية أكلت الأخضر واليابس، وسدت صقيع الغياب بهيمنة الأغراب. ففي القرن الواحد والعشرين وفي أكثر بقاع الأرض تأزُّماً بالعواصف السياسية، لا يتدخل جيل كامل من الشباب بأي شأن سياسي ويتوجهون نحو فرق أوربا الرياضية ولاعبيها وكل ما يتعلق بتفاصيل حياتهم، وآخرون منهم لديهم الكثير من الاهتمام بشخصيات القرن الأول الهجري وأحواله وسجالاته وصراعاته. فما الذي يغيِّبهم عن واقعهم بهذا الشكل المروع والخطير. إنه أفيون الاستبداد والتسلط والاستبعاد.
___________________________________________________


تساؤلات
بعد انفجار البنية المجتمعية العربية ابتداء من عام 2010 تراوحت التساؤلات في البداية بين فساد المنظومات الحاكمة وضيق افقها وبين مشاريع الدول الكبرى, لتكبر في أثناء ذلك التساؤلات عن الإسلام السياسي ومشاريعه ومدى ارتباط الكتلة المجتمعية الكبرى به وهل هذا الارتباط تعبير مؤقت عن الإحساس بالذات أم ارتباط دائم عبر قرون يتخلله ضعف مؤقت،وهو ما يسعنا مناقشته عبر سطور هل السماح لهذه الأحزاب بالعمل داخل المنظومات السياسية مفيد للدولة الوطنية أم لا؟...
يتمثَّل الوجه الأهم للإسلام السياسي بجماعة الإخوان المسلمين الأكثر تنظيما وانتشارا والأعمق تاريخا والأكثر خبرة فقد عاش المسلمون في ظلال الخلافة الإسلامية لحوالي 1300سنة وكان إلغاؤها من قبل أتاتورك عام 1924م حدثا بالغ الأثر في نفوس المتدينين حيث استغل حسن البنَّا ذلك الجو المشحون إسلامياً بتأسيس الإخوان المسلمين 1928. لم يكن غريبا تفاعل المريدين للبنا في مصر ولكن انتشارها السريع في الدول الحديثة في العراق واليمن وسوريا وغيرها أعطاها أبعاد عربية هيأتها للعب دور مبكر في اليمن ولاحقا في دول مختلفة.
إن الشعارات الإسلامية للإخوان لم تمنعهم من لعب أدوارهم السياسية بميكيافيلية مدهشة على حركة وليدة فبعد حركة الدعوة والتأسيس خرج البنا 1938 ليعلن الانتقال من الدعوة بالكلام إلى النضال بالأعمال ومقولته الشهيرة "الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف",إن هذا التحول مهَّد الأمر لاستخدام العنف مبكرا في الحياة السياسية العربية الوليدة واصطدامها بالسلطة لاحقا فتم اغتيال احمد ماهر رئيس الوزراء عام 1945 ومسؤولين آخرين ورغم تبرؤ البنا من هذه الأعمال تم اغتيال رئيس الوزراء النقراشي عام 1948 اثر حله لتنظيم الإخوان.هذا النهج ظل مستمرا فمن محاولة اغتيال عبد الناصر 1954 ثم محاولة اغتيال حافظ الأسد 1980 و اغتيال السادات 1981 من قبل تنظيم منشق عن الإخوان.
أسَّستْ هذه الأعمال لإشكالية كبرى وهي التحول نحو العنف حين أغلق الباب السياسي بوجه التنظيمات الإسلامية وبنفس الوقت حين السماح بالعمل السياسي لا تكتفي بالعمل الحزبي بل يكون العمل السياسي امتداد للعمل السري وهدفها إمساك نقاط القوة في أي بلد وتقوية نفسها وبقية فروع الإخوان وأسلمة القاعدة الاجتماعية لإعادة إنتاج نفسها ومسك المجتمع للوصاية عليه أخلاقياً ودينياً وان كانت البداية عبر الوعظ والنصح.
كما أن موقفها السياسي من كل نظام يعتمد على درجة سماحه لها بالعمل السياسي وتقوية نفسها أو دعمه لها وليس على أية أهداف دينية أو سياسية أو اقتصادية, إن التاريخ السياسي للجماعة يستذكرنا تعظيمها للملك فاروق و للإمام يحيى في اليمن ثم قتله ولحركة يوليو 1952 وعلاقتها مع السادات في ضرب الاشتراكيين وانقلابها مباشرة على كل منهم حين توجد مصلحة للإخوان: مثلا ترقبت الشعوب العربية لمظاهرات الإخوان ضد اتفاقية كامب ديفيد ،ولكن هم خرجوا بمظاهرات ولكن دعما للإمام الخميني وضد استقبال مصر للشاه (رغم أنهم أصدروا بيان ضد كامب ديفيد).
كل هذا التاريخ العظيم في المصلحية السياسية والتقلب لا يغدو غيض من فيض بدء اً من 2003 فالاتفاقات السرية بين الإخوان وأمريكا أتاحت للحزب الإسلامي المشاركة في مجلس بريمر رغم بيانه برفض الاحتلال وفي نفس الوقت إنشاء حركة عسكرية لمقاومة الاحتلال وكذلك الضغط الأمريكي على مبارك للسماح للإخوان بدخول انتخابات مجلس الشعب عام 2005ورغم التزوير حصدوا خمس المقاعد.
أما الاحتجاجات العربية فلم يشاركوا في انطلاقتها في الأيام الأولى ولكنهم انضموا إليها ليرثوها, النقطة المهمة انطلاقا من أحداث ليبيا هي انتقال أحزاب الإخوان إلى طلب التدخل الخارجي وليس الاستفادة من العامل الخارجي لتشريع نفسها داخليا كما حصل مثلا في انتخابات 2005 في مصر بل في تغطية التدخل الخارجي (الاحتلال) و تشريعه ذلك الذي يعجز عنه (الليبراليين): أحمد الجلبي في العراق أو رياض الترك في سوريا، وبالتأكيد الغرب لا يعمل لدى الإخوان.
وعلى مقلب الأحزاب الشيعية يبرز حزب الدعوة كحزب إسلامي قوي الشكيمة :تأسس عام 1957من قبل مجموعة على رأسها محمد باقر الصدر كما سعا الحزب لأسلمة المجتمع ومواجهة شعبية الشيوعيين. في 2003 كان له قصب السبق في دائرة الأحزاب الإسلامية في إعطاء مشروعية للاحتلال الأمريكي وتغطيته شعبيا ولحقه الحزب الإسلامي (الإخوان) في المشاركة بهيئة الحكم وانتخابات 2005 بعيدا عن مقاطعة باقي التيارات السنية.
حركة كتنظيم الإخوان المسلمين تقدم نفسها كاستمرار لنظام إسلامي انتهى، لكن لا يحمل التنظيم أي فكر اجتماعي أو اقتصادي قد يساهم في بناء دولة أو وطن، لا يحمل سوى غلافه الديني الذي يتغير طبقا للمصالح البحتة، فحتى الذين يحاججون بأن التنظيم لم يأخذ فرصته في الحكم، لا بد أنهم يعرفون النتيجة بشكل مسبق، غالبية شعوب هذه المنطقة أثبتت في المفاصل المهمة أنها تميل إلى الأكثر تشددا، فخلال فترة "الربيع العربي" ظهرت تيارات شديدة الغلو وخطفت الأضواء من تنظيم الإخوان كحزب النور في مصر والسلفيون الجهاديون(النصرة وأحرار الشام)في سورية.
في النهاية يحق لنا أن نتساءل عن الاتفاقات السرية بين أمريكا والأحزاب الإسلامية من مطلع الألفية الثانية والتي قادتهم من عداءها إلى حصانها الأبيض؟ وكم من الاتفاقيات قد تبرم بعد في سبيل السلطة لا أكثر؟
_________________________________________________


سوريا: من الصراع بالسلاح إلى الصراع بالسياسة

لعلَّه من نافل القول أنه كان لغياب السياسة عن المجتمع السوري لفترة طويلة العامل الرئيسي الذي حرم الحراك المدني في بداياته من وجود قوى سياسية وطنية توجه ذلك الحراك المدني السلمي، ومكَن القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على سوريا من امتطاء صهوة الحراك، بعد العنف الممارس من طرف السلطة، وصوغه وفقاً لتلك الأجندات الإقليمية والعالمية المتصارعة على سوريا، وذلك من خلال تشكيل أجسام سياسية سورية مناسبة لتلبس أي مشروع غربي/إقليمي للجسد السوري كالمجلس الوطني السوري والائتلاف فيما بعد. وأيضاً كان لغياب السياسة عن المجتمع السوري الدور الأول في البدء بتفكيك البنى الوطنية للمجتمع السوري ودفعها نحو بنى سابقة للدولة: الطائفة، المذهب، العشيرة، الأمر الذي شرعَ بهدم كل منجزات الشعب السوري في الحقل السياسي منذ ما قبل الجلاء. ونتج عن ذلك التَّصحر والعنف أيضاً بيئة مناسبة لتزايد أعداد الراغبين بالسلاح والتدخل الخارجي، ومهَّد لدخول الجهاديين من كافة بقاع الأرض لإقامة مشروعهم في سوريا.
ولكن، ورغم تلك الصورة القاتمة بقي المجتمع السوري بما يختزنه من عمق حضاري وثقافة التسامح والتّعايُش والمدنية التي ميَّزته عن غيره من بعض المجتمعات العربية، عصياً على الانزلاق نحو حرب طائفية كتلك التي شهدها لبنان في العام 1975 أو العراقية التي اندلعت بعد فترة من الغزو الأمريكي له واحتلاله في العام 2003، وذلك على الرغم من كل التَّحشيد والشحن الطائفي، وعلى الرغم من الممارسات الفردية من مناصري الطرفين، إلا أنها وعلى بشاعتها، لم تتحول لظاهرة عامة على مساحة الوطن، وليست الاصطفافات الطائفية التي نراها اليوم سوى تعبير عن موقف سياسي أكثر منه رفضاً لوجود الآخر. ويمكن أن نضيف أنه لم يكن في التاريخ السوري المعاصر أي مشروع انفصالي لأي طائفة إذا استثنينا الدويلات التي أقامتها فرنسا أثناء احتلالها لسوريا والتي كانت تعبير عن سياسة استعمارية للسيطرة ولم تكن تتويجاً لسياسة انفصال لدى أي طائفة .
سيتم بعد مؤتمر إنجاز التسوية (التي لا نقول عنها قريبة) إعادة تموضع للسياسة في المجتمع بعد كل هذا الغياب، وستكون الاستقطابات مخالفة تماماً لتلك التي سادت في الفترة الماضية قبل التوصل للحل، كالموقف من التدخل العسكري الغربي/الإقليمي أو استخدام السلاح أو سواها، بل ستكون الاستقطابات تدور حول استعادة السيادة وشكل الدولة والدستور وقضايا اجتماعية مثل قضية المرأة وسواها، بالإضافة لدخول الفئة الصامتة لميدان السياسة .
لعلَّه صار من الواضح أن مؤتمر جنيف هو حصيلة توافق روسي أمريكي، أي لا علاقة للقوة على الأرض به لا من بعيد ولا من قريب، والسؤال الذي يطرح نفسه على الجميع: ماذا بعد مؤتمر جنيف أو ماذا بعد التسوية بشكل عام؟ وماذا أعددنا للمرحلة الانتقالية ولما بعد المرحلة الانتقالية التي ستشهد ولادة العديد من الأحزاب والقوى السياسية، حيث ستكون أدوات الصراع هي السياسة بمفرداتها الواسعة. وأرجو ألا يفهم أي أحد أن الأمور سهلة والطرق معبَّدة.
ثمة نتيجة منطقية لمؤتمر جنيف وهي إمساك سفارات الدول الكبرى وبعض الدول الإقليمية بالقرار السيادي السوري، حيث أن تلك السفارات هي التي أنتجت وصاغت ونفَّذت جنيف وسواه, الأمر الذي يعني أن الصفحة التي افتتحها الشعب السوري في 17نيسان 1946 قد طواها مؤتمر جنيف وسواه تماماً، وهو ما يفرض عبئاً ثقيلاً ومسؤولية تاريخية على القوى الوطنية بمختلف توجُّهاتها السياسية والفكرية من أجل إعادة السِّيادة وهي مدعوة أيضاً وبقوة لمواجهة ذلك الواقع. وإذا كانت القذيفة الأولى ضد هيمنة السفارات قد أطلقتها وبشكل رسمي هيئة التنسيق الوطنية عندما رفضت طلباً روسياً لحضور جنيف2 العام 2014تحت مظلة الائتلاف وبقيادته وبشروطه، فالمطلوب قذائف دائمة ومستمرة ومن كل الجهات.
إذا ألقينا نظرة سريعة على التاريخ السياسي لسوريا نجد أن ثلاث تيارات سياسية رئيسية حكمت السياسة السورية سواء التي في السلطة أو بالمعارضة وهي التيار الإسلامي والعروبي بشقيه الناصري والبعثي والتَّيار الماركسي. وقد استنفذ التيار العروبي فُرصه في سوريا عبر الخمسين سنة الماضية التي أمضاها في الحكم، بعد فشله في مسألة التحرير والتَّنمية والحريات، وأما بالنسبة للتيار الإسلامي الذي لم كان فاعلاً في السياسة السورية منذ فترة تأسيسه الأولى عبر التنظيم الرئيسي "الأخوان المسلمين" ودخوله اللعبة الديمقراطية في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، إلا عبر تفجيره للصراع المسلح مع السلطة السورية 1979-1982 الأمر الذي دفع التنظيم ثمنه غالياً فيما بعد. ولكن سيخسر التيار الإسلامي بمروحته الواسع (الإخوان، السلفيين، والسلفيين الجهاديين) الكثير بعد الذي جرى لشقيقه المصري في 3يوليو2013، ناهيك عن خساراته السابقة عندما فجَّر صراعاً مسلحاً مع النظام 1979-1982 والتي لم يخسرها لوحده فقط، بل خسرتها القوى الديمقراطية والوطنية معه وخسرها المجتمع برمته، إذ كان من نتائجها بالإضافة لعوامل أخرى، تحوُّل الدولة إلى دولة بوليسية أو التَّشدد أكثر تجاه كل الحركات المعارضة. أيضاً خسر التيار الإسلامي في سوريا الكثير من الهالة التي استحوذ عليها من خلال وجوده في الصف المعارض طيلة الخمسين سنة الماضية بسبب الممارسات البشعة التي مارستها تيارات إسلامية مقاتلة في سوريا كجبهة النصرة و داعش وشقيقاتها، ولن يكون له الكثير من الحظوظ بعد الانقضاء السريع لشهر العسل بين التنظيم العالمي للإخوان المسلمين والولايات المتحدة.
بقي التيار الماركسي الذي لم يُجرَّب في سوريا وإن كان مشارِكَاً وبقوة في رسم السياسات المعارِضة طيلة وجوده على الساحة السياسية السورية الأمر الذي يطرح على هذا اليسار جملة من التحديات لمواجهة الاستحقاقات القادمة منها: هل سيتم اندماج كل الفصائل الماركسية في سوريا ضمن تيار ماركسي واحد وما هو البرنامج السياسي الذي سيجمع تلك الفصائل أم ستستمر حالة التشرذم، وبالتالي حالة اللا تأثير؟ وما هو موقف اليسار الماركسي من العروبة والإسلام، أي تبيئة الماركسية وصوغ ماركسية خاصة بالمجتمع العربي كحال ماركسية غرامشي مثلاً. وهل يصح الحديث عن يسار عربي بمروحته الواسعة لملاقاة استحقاقات قادمة مثل شكل الدولة ووضع المرأة والتشريع وعلاقات سوريا الدولية والإقليمية .
أمام الشعب السوري اليوم ثلاث نماذج بعيدة نسبياً لدول شهدت صراعات داخلية وحروب أهلية وتدخلات وتداخلات إقليمية ودولية ومن ثم شهِدَت تسويات سياسية بمشاركة محلية ودولية ,وهي النموذج اللبناني والعراقي والأفغاني، ولكن ,وبعد مضي أكثر من سبع وعشرين عاماً على النموذج اللبناني وأكثر من ستة عشر عاماً على النموذج الأفغاني وأكثر من ثلاثة عشر سنوات على العراقي، يمكن القول أن تلك الدول الثلاث لم تشهد استقراراً سياسياً ولا تبدو قريبة من الدول المستقرّة، بل جلّ ما أنتجته تلك التَّسويات هي دول رخوة، لا تزال مكوناتها الطائفية وسواها هي الحاكم الفعلي عبر واجهة كرتونية لما يُسمى دولة. وأمامه أيضاً نموذجين قريبن لدولتين من دول الربيع العربي هما مصر وتونس، ورغم الفوارق الهائلة في البدايات والخواتم لكلا الدولتين مع بعض، أو بينهما وبين سوريا، إلا أنه يمكن القول والاستنتاج من التجربة المصرية والتونسية أن من تصدر الواجهة وقدَّم برنامجاً متكاملاً للمجتمع والدولة هم الأحزاب التقليدية المنظمة وليس الشباب غير المؤدلج أو غير المنظَّم، أو الحركات السياسية التي أنشئت على عجل.
___________________________________________-


دراسة مترجمة:
الانفصال السوري:
لماذا التقسيم ليس هو الجواب؟
(فلورينس غاوب: كبير المحللين في معهد الاتحاد الأوربي للدراسات الأمنية.)

بعد ست سنوات من الحرب والعديد من جولات محادثات السلام، يبدو أنه لم يعد يتبقى سوى خيار واحد لسوريا: تقسيم البلد. ويمكن الوصول لذلك إما من خلال قواعد الفيدرالية- كما تتمنى روسيا- أو حتى من خلال تفكيك البلد بشكله الحالي كلياً، وهو الإجراء الذي تفضله الولايات المتحدة. يُقال أن سوريا، التي يبلغ تعداد سكانها 21 مليون و تضم عشر مجموعات عرقية هي كيان مصطنع من قِبَل فرنسا و بريطانيا، و يشكِّل هذا الأمر إغراءاً لقبول هذا النِّقاش. إذا كانت المجموعات العرقية لم تعد تريد العيش سوية، ربما يكون الانفصال هو راحة. و مع ذلك، لا يمكن اعتبار هذا النَّهج فقط مضلِّل، بل إنه خطير: الانفصال لن يحل المشكلة.
سوريا ليست كياناً مصطنعاً كما يظن البعض
أولاً و قبل كل شيء سوريا ليست كياناً مصطنعاً. في كثير من الأحيان، يًقال أثناء النقاش حول الحرب الأهلية السورية، أن الاتفاق الفرنسي البريطاني السّري سايكس بيكو 1916 هو الذي أوجد بلدان الشرق الأوسط الحالية، و بالتالي وضع الأسس لجميع مشاكل المنطقة. في الواقع هذا غير صحيح من عدة طرق: كانت سوريا وفقاً لخطة سايكس بيكو أكبر بكثير من سوريا الحالية، حيث تمتد إلى داخل شمال العراق. كانت معاهدة لوزان 1923 هي التي رسمت الحدود الحالية سواء أكبر أو أصغر. فضلاً عن ذلك، لم تكن الحدود مصطنعة تماماً، كما أنها تستند إلى حدٍ كبير على المناطق السابقة للإدارة العثمانية.
الأهم من ذلك، لا تعني حقيقة أن الدولة السورية قد تكوَّنتْ بواسطة تأثير خارجي، أن مفهوم سوريا كدولة قومية قد اُنشِئَتْ من العدم. على العكس من ذلك، فالمواطنون السوريون يرون بلادهم و أنفسهم بمثابة الورَثة التاريخيين للأسلاف السياسيين المختلفين. يعود أول مرة يُذكر فيها أسم سوريا إلى القرن الثَّامن قبل الميلاد، لكنَّها وصلت قمّتها السياسية تحت أسم بلاد الشَّام، كمقاطعة من عدَّة مقاطعات إسلامية، تحت حكم الخلفاء الراشدين ثم الأمويين و العبَّاسيين. و كانت من القرن السابع الميلادي حتى السادس عشر كيان سياسي هام جداً. كانت دمشق عاصمة الخلافة الأموية في القرن السابع الميلادي، و كذلك كانت مدينة الرقة هي عاصمة هارون الرَّشيد في القرن الثامن الميلادي. و عندما غزا العثمانيون بلاد الشام في القرن السادس عشر، قسَّموها إلى خمس مناطق، و أطلقوا عليها أسماء محلية: بيروت، القدس، حلب، زور، و دمشق، و دُعيَت المنطقة الأخيرة أيضاً "سوريا" و امتدَّت إلى ما يُعرَف اليوم بالأردن.
وجدت سوريا نفسها مع سقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى كوريث للكيان السابق. ولكن تم تقليص مساحتها و إلى حدٍ كبير، من خلال معاهدة لوزان. لم تعد حدود سوريا تضم ما يُعرَف اليوم بالأردن، أو إسرائيل أو لبنان و الأراضي الفلسطينية، أو أجزاء من شمال شرق العراق و جنوب تركيا. و في نفس الوقت بدأ مصطلح بلاد الشام يسقط من الاستعمال، و أصبح أسم سوريا الروماني الأصل يُستعمل بشكل كبير، و قد يكون ذلك لصرف النظر عن الإقليم المنكمش. عندما تمَّ تقسيم سوريا الحالية في ظل الانتداب الفرنسي، كانت المرة الأولى في التاريخ السوري التي كانت فيها العوامل العرقية بدون أي معنى. تم تقسيم سوريا إلى دويلات للدروز و العلويين و دولة دمشق و دولة حلب. و مع ذلك لم يقبل الشعب بهذا التَّقسيم، و اندلعت انتفاضة و استمرت عدة سنوات، و قُتِل فيها أكثر من 100 ألف إنسان. و بناءً عليه، فالحدود السورية ليست مصطنعة تماماً، هذا على الرغم من أنها لا تعكس هويتها الوطنية تماماً: إن سوريا يجب أن تكون أكبر، و ليس أصغر.
فهم الحالة القومية السُّورية:
لا تعتبر سوريا نفسها فقط السليل السياسي لبلاد الشام فحسب، لكنها حاولت و بفعالية لإعادة تلك الأراضي لسيطرتها، و خصوصاً في ظل حكم الرئيس حافظ الأسد. و قد ظهرت الهوية الإقليمية الواسعة لسوريا الكبرى من خلال السياسة الخارجية السورية. حاولت سوريا في عدّة مناسبات أن تتحد سياسياً مع الدول العربية الأخرى، بما في ذلك اليمن و ليبيا و العراق. واستمرَّت وحدتها مع مصر من 1958-1961. و علاوة على ذلك، فقد احتلت القوات السّورية لبنان لأكثر من ثلاثين عاماً. و ذهب حافظ الأسد بعيداً إلى حد الإشارة إلى أن الأردنيين و الفلسطينيين و اللبنانيين هم جزء من الشعب السّوري. و يفسِّر هذا الأمر عدم وجود سفارة لسوريا في لبنان حتى العام 2008: كان من المفترض يكون السوريين و اللبنانيين "شعب واحد". بالإضافة إلى ذلك، لا تزال سورية لا تعترف بأن لواء إسكندرون (مقاطعة هاتاي التركية) ينتمي لتركيا. كان لواء إسكندرون تاريخياً يقع ضمن ولاية حلب أيام الحكم العثماني، و لكن قامت بفرنسا بتسليمه لتركيا في العام 1937، خلال فترة حكم أتاتورك. لم يأتِ الدعم لمفهوم سوريا من داخل سوريا فقط،: فقد حاول الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى ستينات القرن العشرين أن يضم لبنان لسوريا، حيث يعتقد الحزب أن المستعمر هو الذي فصل البلدين عن بعضهما.
تستند القومية السورية على هذه الهوية الإقليمية. كان على القومية السورية أن تكون قوة موحِّدة، لأن الشعب السوري متنوِّع عرقياً و طائفياً. وتعتمد القومية السورية على عاملين غير دينيين: العامل الإقليمي و العامل الثقافي. و يتجلى العامل الإقليمي في أسم بلاد الشام. الاسم هو المرجعية الجغرافية المستمدة من (الأرض اليسرى) أي الأرض اليسرى لمكة و المدينة و هما بمواجهة الشرق. و تنعكس حقيقة أن بلاد الشام لا تزال نقطة مرجعية سياسية مهمة بعد مضي قرون طويلة في العلم السوري الحالي، حيث يرمز اللون الأخضر للعصر الراشدي و الأبيض للعهد الأموي و الأسود للعهد العباسي، في حين يرمز اللون الأحمر لِدَم من سقطوا. و هو نفس العلم الذي كان أيام الوحدة مع مصر.
كانت القومية العربية أيضاً أيديولوجية موحِّدة جذابة لمجتمع متعدد الأعراق مثل سوريا (لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للأقلية الكردية)، و ليس من قبيل المصادفة أن تكون سوريا المعقل الأول لحركة الوحدة العربية. و قدَّمت سوريا أول محاولة للوحدة القومية العربية في ظل الزعيم الهاشمي الملك فيصل، الذي أسَّس المملكة العربية السورية في دمشق العام 1920(تم سحق هذه المملكة بعد ستة أشهر من قِبَل فرنسا) لا تزال الإشارة العربية موجودة حتى اليوم، ليس في النشيد الوطني فحسب، بل في الاسم الرسمي للبلاد: الجمهورية العربية السورية. شهدت سوريا- ربما بسبب هذا الفكر الذي يوحدهم، و المنصوص عليه في الدولة- القليل من أعمال العنف العرقي و الديني خلال أكثر من ستين عاماً بعد الاستقلال.
وتتواجد الهوية القومية اليوم بين صفوف المتمرِّدين. من بين أكثر من 150 فصيل عسكري متمرد، تحمل العديد منها إشارة في أسماءها لبلاد الشام (أنصار الشام، صقور الشام، أحرار الشام، جيش الشام) و هناك تسميات تشير لسوريا (الجيش السوري الحر و أحرار سوريا). و على العكس مما يُسمى الدولة الإسلامية "داعش" أو جبهة النُّصرة، لا يقبل معظم المتمردين السوريين المتطوعين الأجانب، وذلك خوفاً على فقدان الشّرعية السّورية الخاصة بهم. حتى علم الجيش السوري الحر يحمل نفس ألوان العلم الرسمي ولكن بترتيب مختلف.
هناك في الأساس جماعتان تعارضان الإقليمية السورية أو القومية الثقافية: الدولة الإسلامية "داعش" الذي يريدون العودة لسوريا للقرون الوسطى و الخلافة، و الأكراد السوريين الذين يشكلون ما بين 10-15% من مجموع السكان. قسَّمت "داعش" المناطق التي تسيطر عليها إلى عدّة مناطق إدارية (تتماثل و إلى حد كبير مع النظام السوري)، و أعلن الأكراد في شهر آذار/مارس 2016 الحكم الذاتي في إطار نظام فيدرالي، و قد رفض هذا الإعلان النظام و المعارضة على حدٍ سواء. لم يكن تقسيم سوريا سواء على أساس فيدرالي أو كلّي من بين مطالب المتمردين على الإطلاق. على العكس من ذلك، فالحفاظ على سوريا في حدودها الحالية هو الأمر المشترك بين الرئيس بشار الأسد و رئيس الائتلاف الوطني أنس العبدة و حتى حسن نصر الله زعيم حزب الله.
سوء فهم ديناميات الصراع:
على الرغم من شعور سوريا القوي بهويتها السياسية القومية، لازال الجانب الأمريكي و الروسي ينظرون لعروض التَّقسيم الإقليمية أو السياسية على أنها الحل للصراع السوري. و يرجع هذا للفهم الخاطئ للأسباب العامة و الخاصة و ظروف الصراع السوري. في الواقع، لا تؤدي الاختلافات العرقية أو الدينية، على الرغم من أن هذا الاعتقاد منتشر و على نطاق واسع.تشير الدراسات أن الحروب الأهلية تنتشر على الغالب في المجتمعات ذات الدخل المنخفض و مؤسسات الدولة الضعيفة. أظهر الباحث في مسألة الصراع باول كولير Paul Collier أن العوامل العرقية تقود إلى زيادة طفيفة في احتمال زيادة الصراع فقط في المجتمعات التي تتألف من ثلاث مجموعات عرقية ذات الحجم المتماثل، حيث ترتبط الاختلافات الهامة في الدخل مع الهوية العرقية. في الواقع، الصراع في أكثر المجتمعات تنوَّعاً(الهند على سبيل المثال) يكون أقل عنفاً – ربما لأنه لا تستطيع أي جماعة معيَّنة السيطرة على الباقي. ومن ناحية أخرى، الصحيح أيضاً أن الصراعات تقوّي الهويات العرقية و الدينية. غالباً ما يلعب القادة السياسيين على الورقة الطائفية في خطابهم، و في أوقات الصراع تتطابق الناس وعلى نحو واسع مع جماعتهم الأساسية. الهوية لا تخلق الصراع، الصراع هو الذي يخلق الهوية.
ومع ذلك، و منذ وصول الرئيس الأسد و هو من الأقلية العلوية، هناك اعتقاد واسع أن الصراع السوري هو انتفاضة سنيِّة ضد الديكتاتورية العلوية- على الرغم من حقيقة أن النظام لا يزال يحتوي خليطاً من الجماعات العرقية السورية كلها تقريبا- في حين ربما يشغل العلويين المناصب القيادية العليا، لقد تظاهر النظام بذلك، على الأقل ليكون ممثل على نطاق واسع خلال السنين الطويلة له بالحكم، من أجل أن يكون مقبولاً من عائلات التُّجار السُّنة في دمشق على سبيل المثال. و يمكن القول أيضاً أنه لم يكن للصراع السوري في بدايته أي بُعد ديني أو عرقي، ولكن الجماعات الإسلامية بدأت على وجه الخصوص تستعمل أسلوب طائفي في خطابها و صراعها مع النظام. فقد هدد الداعية عدنان العرعور على سبيل المثال بجعل العلويين "لحماً مفروماً" . و في عام 2013 أقدمت جبهة النصرة في مدينة عدرا على إعدام 40 شخص من العلويين و الدروز و المسيحيين. وكلما طالت أمد الحرب كلما زاد التَّشريد و التَّطهير العرقي لمناطق بأكملها. يغذي وجود حزب الله و الوحدات الإيرانية الانطباع بأن هذا القتال هو بين الشّيعة و السُّنة.
لكن الصراع السوري ليس صراعاً عرقيا- دينياً. أولاً، مطالب المعارضة هي مطالب سياسية بحتة. ثانياً، العنف في سوريا لا يميز بين فئات معينة. فقد أعدمت "داعش" في الرقة المئات من الجنود السوريين على الرغم من أنهم ينتمون للطائفة السُّنية مثل "داعش". ليس السُّنة لا يزالون موجودين داخل نظام الأسد فحسب، بل لا يزالون يشكلون الغالبية العظمى من القوات المسلحة السورية، بل، و حتى أنهم يقاتلون ضد ميليشيات سنّية. على الرغم من أن الصراع بدأ يأخذ منحىً دينياً و عرقيّاً، إلا أن الغالبية العظمى من الخطابات لا تزال تركز على الوضع الاقتصادي، و هو الجانب الآخر للطغاة أو الإرهابيين. و تقدم دليلاً آخراً على أن الصراع هو أبعد من أن يكون صراعاً على الهوية الدينية فقط من خلال وثيقة صدرت مؤخراً و أعدّها ممثلون عن الطائفة العلوية (التي ينتمي إليها الرئيس الأسد) تنأى بنفسها عن النظام. فالحرب السورية بناءً عليه، ليست حرباً من أجل الانفصال، كما أنها ليست حرباً دينية أو عرقية، و لكنها انتفاضة ضد الحكومة.
حل إقليمي لمشكلة سياسية:
وطبقاً للأسباب المذكورة أعلاه، لا يمكن أن يكون التقسيم المناطقي هو حل طويل الأمد للمشاكل الأساسية. على العكس من ذلك، إن مثل هذا الحل من شأنه أن يعزز النزعات الطائفية السياسية، كما حدث في البوسنة و الهرسك. حيث أدَّى تقسيم الأراضي هناك إلى التَّطهير العرقي الذي أوقع العديد من الضحايا،و النّزوح الداخلي لأكثر من مليون شخص. و تناثرت المجموعات العرقية في البوسنة في جيوب الاستيطان في جميع أنحاء الإقليم، لذلك كان من المستحيل تقسيم السكان بشكل متجانس. بعد عشرين عاماً على تطبيق اتفاق دايتون للسلام، لم يعد سوى نصف مليون نازح بوسني، وكانت عودة بعض الحالات بسبب وجود القوات الدولية، وكان ذلك ضامن لعودتهم. يعيش أكثر من مليون شخص الآن في أجزاء متجانسة عرقيا من البوسنة، مع اللاجئين الصرب الذين يعيشون في الغالب في الجمهورية الصربية داخل اتحاد البوسنة والهرسك. في التحليل النهائي، بحكم الأمر الواقع، تقسيم البوسنة رسَّخ المشكلة بدلا من حلها.
النقطة الحاسمة هنا أن سوريا- تماماً مثل لبنان و البوسنة- مختلطة إلى حدٍ كبير من حيث التوزّع العرقي (بصرف النظر عن التركيز العرقي في مناطق معينة مثل الدروز في جنوب البلاد و العلويين في الساحل الغربي).تنتشر الطوائف المسيحية و العلوية و الإسماعيلية في جميع أنحاء البلاد. لا يستوطن الأكراد في شمال البلاد لوحدهم بشكل كامل. و لذلك سيكون من المستحيل تقسيم سوريا بدون إعادة توطين شعبها من جديد. و هذا بالضبط ما يريده القادة الطائفيين، و ليس ما يريده الناس. و من المفارقات، أن هذا التَّجانس هو نفسه من أنقذ لبنان من التَّفكك بعد 15 عام من الحرب الأهلية. في نهاية المطاف، رفض معظم اللبنانيين فكرة الميليشيات لتقسيم البلاد إلى كانتونات دينية، و فضَّلوا بدلاً من ذلك تشكيل حكومة موحَّدة.
ومن ثم، لن يكون تقسيم سوريا لحل المشكلة السياسية الأصلية، و لكن لإدارة أعراضها. ليست المشكلة بشار الأسد، كما أن الدولة السورية لطالما كانت تدير اقتصاداً ضعيفاً، و النظام قمعي و منذ سنوات طويلة. المشكلة أعقد من ذلك و باعتراف الجميع، ولا يمكن حلها قبل أن يكون هناك وقت طويل من الاستقرار في سوريا.
سابقة لإقليمية خطيرة:
أخيراً، يمكن لتقسيم سوريا أن يكون له نتائج على كامل المنطقة، التّقسيم المناطقي هنا، يمكن أن يُنظر إليه كدواء حاسم لحل المشاكل السياسية، و يشجع الانشقاق في مكان آخر. و سيُغري هذا الأمر الأكراد و العراق و لبنان و ليبيا، و الشيعة في الخليج، لحل المشاكل السياسية في المستوى المتعلق بالوحدة المناطقية بشكل كامل. ناهيك عن زعماء الأقلية أكثر تركيزاً على ضمان العلاج السياسي من أجل أنفسهم أكثر مما هو من أجل تقديم الخدمات الرسمية. حيث يكون هناك انفصال إقليمي ردَّاً على القضايا السياسية- سواء كان في كوسوفو و البوسنة و الهرسك أو بنغلادش- كان في أغلب الأحيان يتمركز حول ضمان القوة و الموارد قصيرة الأمد، أكثر من الاستقرار الطويل الأجل، و عادة يخفق في تحقيقه.
لهذه الأسباب بالضبط، ردَّت أجهزة الإعلام العربية بشكل سلبي على خطط كل من روسيا و الولايات المتحدة السَّاعية لتقسيم سوريا، و نظروا إليهما كطريقة للقوى الأجنبية لترسم الحدود مرة أخرى- من أجل المزيد من تمزيق و إضعاف الدول العربية، تماماً كما فعلت اتفاقية سايكس بيكو. إذا كانت سورية تبقى غير مستقرة بعد الفيدرالية أو التَّقسيم، سوف يُنظَر لمثل هكذا خطوات في المنطقة كمحاولات متعمَّدة لزرع بذور عدم الاستقرار من الخارج، كما تم النَّظر لقضية غزو العراق العام 2003.
إن الحل الوحيد للنزاعات المدنية من أي نوع كانت هو حكم صالح: دولة تؤمِّن لمواطنيها الأمن و الازدهار و التَّمثيل الحقيقي. الحقيقة أن ذلك يستغرق وقت أطول و يكلِّف أكثر من الفصل السياسي، وتشرح لماذا الفصل السياسي هو غالباً هو الخيار الأكثر جاذبية للغرباء.

ترجمة هيئة التحرير.
______________________________________


لواء إسكندرون

يُعتبر في سوريا المحافظة الخامسة عشر، رغم كونه منذ 1939، تابعًا لتركيا، ويسميه بعض المؤرخين أمثال ستيفن لونغريج "الألزاس واللور.ين السورية". كانت منطقة إسكندرون تابعة لولاية حلب ضمن سوريا العثمانية، مشكلة مرفأها على البحر؛ ومثلت في المؤتمر السوري العام، ورغم اعتبارها دولة مستقلة في أعقاب صدور مراسيم التقسيم، غير أنه أعيد ربطها بالدولة السورية عام 1926 ، وعاصرت إطلاق الجمهورية السورية الأولى. وفي عام 1938 قامت فرنسا "بخطوة غير مسبوقة واستفزازية" إذ أعادت منح اللواء حكمًا ذاتيًا مع بقاءه مرتبط من ناحية شكلية بالجمهورية السورية، ثم أعادت إلغاء هذا الرباط الشكلي؛ وفي العام التالي، 1939، انسحبت فرنسا بشكل نهائي، في حين دخلت اللواء قوات تركية، وقامت بضمه وإعلانه جزءًا من الجمهورية التركية تحت اسم "هاتاي"؛ وهو ما يعتبر مخالفة لصك الانتداب الذي يلزم الدولة المنتدبة بالحفاظ على أراضي الدولة المنتدب عليها.
غالبية سكان اللواء كانت من عرب سوريا الموزعين بين مختلف الطوائف، ولم تتجاوز نسبة تركمان سوريا فيه 39.4% حسب إحصاءات 1939. بعد سلخ اللواء، نزحت إلى دمشق، وحلب، وحمص، واللاذقية، أعداد كبيرة من عرب اللواء وأرمنه، مع استثناء صغير لبلدة كسب الأرمنية التي كانت تابعة للواء، فعدّلت المفوضية الفرنسية الحدود، بحيث تتبع محافظة اللاذقية. أفضى سلخ اللواء لانطلاق احتجاجات 1939 التي أفضت للإطاحة بحكومة جميل مردم، ثم استقالة الرئيس هاشم الأتاسي نفسه؛ في السنوات التالية اعتبر اللواء أرضًا محتلة، وساهم هذا الاعتبار في إبقاء سوريا خارج مشاريع على مستوى المنطقة مثل حلف بغداد لكون تركيا عضوًا فيه، توترت العلاقة مع تركيا مجددًا عام 1957، لدرجة استدعاء الأسطول المصري إلى اللاذقية للدفاع في حال اندلاع حرب؛ ولم يحدث على مستوى الحكومات المتعاقبة أي اعتراف بشرعية كون اللواء جزءًا من تركيا.
في سوريا "الإنتيكية"، كانت أنطاكية عاصمة اللواء، عاصمة سوريا ومركزها، ومقر بطريرك أنطاكية، الرأس المحلي للكنيسة السورية بشقيها البيزنطي والسرياني، ومنه خرجت شخصيات بارزة على مستوى العالم مثل إغناطيوس الإنطاكي، ويوحنا فم الذهب، أما في سوريا المعاصرة فقد خرجت مجموعة من الشخصيات التي لعبت دورًا هامًا على الصعيد المحلي مثل رئيس الدولة صبحي بركات، والمفكر زكي الأرسوزي، والشاعر سليمان العيسى.
الجغرافية
تبلغ مساحة اللواء 4800 كيلومتر مربع، يطل على خليجي اسكندرون والسويدية في الزاوية الشمالية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ويتوسط شريطه الساحلي رأس الخنزير الذي يفصل بين الخليجين المذكورين. أهم مدنه أنطاكية واسكندرونة وأوردو والريحانية والسويدية وأرسوز. اللواء ذو طبيعة جبلية، وأكبر جباله أربعة: جبال الأمانوس وجبل الأقرع وجبل موسى وجبل النفاخ، وبين هذه الجبال يقع سهل العمق. أما أهم أنهاره فهي: نهر العاصي الذي يصب في خليج السويدية، ونهر عفرين ونهر الأسود (الذين يصبان في بحيرات سهل العمق).
التاريخ
وصل العرب المسلمون بزحفهم العسكري عام 16 هـ إلى جنوب جبال طوروس وضموا المنطقة الجنوبية من اللواء إلى حكمهم. وفي العهد العثماني كان اللواء سنجقًا تابعًا لولاية حلب.
عام 1915 احتوت مراسلات الشريف حسين مع مكماهون على إشارات واضحة بتبعية المناطق الواقعة جنوب جبال طوروس إلى الدولة العربية الموعودة (تعيين للحدود الشمالية للدولة على خط يقع شمال مرسين ـ أضنة الموازي لخط 37 شمالاً الذي تقع عليه مدن البيرة وأورفة وماردين وفديان وجزيرة ابن عمر وعمادية، حتى حدود إيران). أمّا مع بدء الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان تبع اللواء ولاية حلب. كان لواء إسكندرون في اتفاقية سايكس بيكو داخل المنطقة الزرقاء التابعة للانتداب الفرنسي بمعنى أن المعاهدة اعتبرته سورياً وهذا يدل على أن هذه المنطقة هي جزء من سوريا.
اعترفت الدولة العثمانية المنهارة في معاهدة "سيفر" 1920 بعروبة منطقتي الاسكندرون وكيليكية (أضنه ومرسين) وارتباطهما بالبلاد العربية (المادة 27). وكان اللواء جزءا من المملكة السورية العربية التي قامت عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وسقطت بيد الاحتلال الفرنسي في معركة ميسلون. أمّا بعد توحيد الدويلات السورية التي شكلها الانتداب الفرنسي، ضُم لواء الاسكندرون إلى السلطة السورية المركزية.
في 29 أيار 1937 أصدرت عصبة الأمم قراراً بفصل اللواء عن سورية وعُين للواء حاكم فرنسي. وفي 15 تموز 1938 دخلت القوات التركية بشكل مفاجئ للرأي العام السوري إلى مدن اللواء واحتلتها، وتراجع الجيش الفرنسي إلى أنطاكية وكانت مؤامرة حيكت بين فرنسا وتركيا، ضمنت بموجبها فرنسا ضمان حياد تركيا في الحرب العالمية الثانية.
في عام 1939، أشرفت الإدارة الفرنسية على استفتاء حول الانضمام إلى تركيا فاز فيه الأتراك وشكك العرب بنتائجه خصوصاً أن الأتراك تلاعبوا بالأصوات لصالحهم، ثم ابتدأت سياسة تتريك اللواء وتهجير سكانه الأصليين إلى بقية الوطن السوري، حيث سُرقت كل أراضي السوريين الزراعية في تلك المنطقة دون أن تدفع تركيا أموالاً للمتضررين، ثم قامت تركيا بتغيير كافة الأسماء من العربية وهي اللغة الأصلية إلى التركية وهي لغة الدولة المحتلة، وظل هذا الأمر مصدراً للتوتر الشديد في العلاقات بين تركيا وسوريا طيلة سبعة عقود وإلى يومنا هذا. واليوم يشكل العرب الأغلبية في أغلب محافظات الاسكندرون (من أصل اثنتي عشرة قطعة قسمتها تركيا كي تصبح عودتها إلى سوريا أصعب).
كان الإجراء الفرنسي بإعطاء اللواء إلى تركيا مخالفاً لصك الانتداب نفسه، حيث نصت المادة الرابعة من صك الانتداب على إلزام الدولة المنتدبة باحترام وحدة البلاد الموكلة إليها والحفاظ على سلامة أراضيها، وهو ما لم يتقيد به الفرنسيون. قامت فرنسا بغض النظر عن دخول عشرات الآلاف من الأتراك إلى اللواء بغرض الاستفتاء، حيث أملت بأن يساهم ذلك في دخول تركيا إلى جانب الحلفاء في الحرب على ألمانيا النازية. كما قامت تركيا بنشر جيشها داخل اللواء وطرد معظم سكانه من العرب والأرمن.
قاطع العرب الاستفتاء الذي أجرته السلطات الفرنسية المحتلة، وأعطى هذا غلبة كبيرة للأتراك من حيث عدد المسجلين للاستفتاء سنة 1938.
يسكن الإقليم حالياً حوالي مليون نسمة، ولا يوجد أي تعداد للنسبة العربية من سكانه بسبب السياسة التركية القمعية للأقليات القومية، ويشكو سكان الإقليم العرب من القمع الثقافي واللغوي والعرقي الذي تمارسه تركيا عليهم والتمييز ضد الأقلية العربية لصالح العرق التركي في كل المجالات وهو متابعة نحو التتريك الكامل للواء.
وهناك تواصل مستمر في مناسبات خاصة كالأعياد بين سكان اللواء وبين أقربائهم في الأراضي السورية المجاورة، وما زالت سوريا تعتبر لواء الإسكندرون جزءاً من ترابها الوطني، وما زالت الخرائط السورية تظهر لواء الإسكندرون على أنه منطقة سورية محتلة.
وفي عام 1998 وبعد أزمة سورية تركية كادت تتفجر صراعاً عسكرياً، تم التوصل إلى تسوية سياسية في اتفاقية أضنه تخلت على أثرها سوريا عن دعمها لحزب العمال الكردستاني، كما تم الاتفاق على تأجيل أمر اللواء لوقت لاحق.
المصادر السورية نفت أي تخل عن لواء الإسكندرون، إلا أنها أعلنت أن المصلحة السورية تقضي بتأجيل القضايا الخلافية والتطلع إلى التعاون الاقتصادي السياسي مع تركيا في المرحلة الراهنة، وبالرغم من ذلك ظلت الأوساط الشعبية في سوريا تطالب به. وبعد انتكاس العلاقات السورية التركية أثر موقف الأخيرة من الأحداث التي بدأت عام 2011، عادت الأصوات المطالبة به إلى الارتفاع.
الاقتصاد
تعد مدينة الإسكندرونة من أهم الموانئ البحرية التي تعتمدها تركيا لتصدير النفط، كما يعتمد لواء الإسكندرون على السياحة نظراً لاحتوائه على مدن تاريخية إلى جانب الطبيعة الخلابة. أما في الزراعة، فيشتهر اللواء بالقطن،الحبوب، التبغ، المشمش، التفاح، البرتقال والزيتون. كما يشهد حركة صناعية في قطاع النسيج والزجاج.
___________________________

من ذاكرة السوريين
فارس الخوري :

ولد في سنة 1877، ودرس في المدرسة الأمريكية بصيدا وفي الكلية الأمريكية ببيروت. في سنة 1922 عين عضوا في مجلس الاتحاد السوري، وأستاذاً في معهد الحقوق العربي. وتولى سنة 1926 وزارة المعارف وفي سنة 1936 انتخب عضوا في الوفد السوري المفاوض لعقد معاهدة مع فرنسا.
وفي سنة 1936 انتخب نائبا عن دمشق في المجلس النيابي وانتخب نائبا عن دمشق في مجلس سنة 1943، ورئيسا للمجلس. وتولى رئاسة الوزارة – للمرة الأولى – في تشرين الأول 1944، وتولاها فيما بعد مرتين.
مثل سورية في اجتماع توقيع ميثاق جامعة الدول العربية في آذار 1945، وعاد إلى تولي رئاسة المجلس حتى سنة 1947، وانتخب نائبا عن دمشق في انتخابات سنة 1947 رغم غيابه عن بلاده لتمثيلها في مجلس الأمن، وترأس مجلس الأمن مرتين في آب 1947 وحزيران 1948، كما انتخب عضواً في لجنة القانون الدولي. وترأس وفد سورية إلى هيئة الأمم في أيلول 1950 للدفاع عن قضية الإسكندرونة، وفي آب 1951 اعتذر عن تشكيل الوزارة، ثم أصبح رئيساً للوزارة بين خريف 1954وربيع1955 واعتزل العمل النيابي والوزاري خلال الحوادث والانقلابات التي مرت على البلاد، واكتفى بتمثيلها والدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية، وقعد به الكبر والمرض فيما بعد فلزم داره إلى أن وافاه الأجل 2 كانون الثاني سنة 1962
يوم أبلغه الجنرال غورو أن فرنسا جاءت إلى سورية لحماية مسيحيي الشرق، فما كان من فارس الخوري إلا أن قصد الجامع الأموي في يوم جمعة وصعد إلى منبره وقال: إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله …فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني تذكرته دمشق طويلا وخرج أهالي دمشق المسيحيين يومها في مظاهرات حاشدة ملأت دمشق وهم يهتفون لا إله إلا الله …

من ذاكرة الشيوعيين
فوزي الزعيم

ولد عام 1909 في حي السمانة بدمشق .درس في مدرسة اللاييك، وانتسب إلى الحزب عام 1929 واشتهر بتنظيم المظاهرات (الطيارة) والمشاركة فيها.
وعندما اعتقل فوزي الزعيم بسبب مشاركته في مظاهرات 1936 كانت تصله المناشير الشيوعية إلى السّجن ليوزعها على السجناء.
كان فوزي الزعيم حتى بداية الأربعينيات أحد أبرز وجوه الحزب في دمشق، ولعب دوراً بارزاً في تقوية منظمة دمشق وتوسيعها، بإدخال عدد من العمال والحرفيين فيها، وكان حي السمانة، حيث كانت تقيم عائلة فوزي الزعيم، أحد حصون الحزب في دمشق بعد حي الأكراد. وخلال هذه الفترة كان هو المسؤول عن تنظيم احتفالات الحزب بالمناسبات الحزبية أو الوطنية.
في بداية الأربعينيات وخاصة بعد معركة ستالينغراد واستسلام الجيوش النازية، توسع نشاط الحزب الشيوعي في سورية، وأخذت الأفكار الماركسية تزداد انتشاراً بين المثقفين، وقد التفّت نخبة منهم حول الحزب الشيوعي وانتظموا في حلقات لمناقشة الأفكار الاشتراكية، وقد انضم إلى الحزب عدد من المحامين والأطباء والمهندسين والأساتذة والمعلمين.
وينقل زياد الملا عن الشيوعي القديم منير سليمان أن فوزي الزعيم كان في باريس عند حدوث انقلاب حسني الزعيم (عم فوزي)، وكيف طلب حسني الزعيم من ممثل سوريا في باريس أن يدفع إلى فوزي راتباً شهرياً، ورفض فوزي هذا العرض المغري، رغم الأحوال المادية السيئة لفوزي، بل ورد علي ممثل سوريا بغضب: كيف آخذ هذا المال ورفاقي يعانون الأمرَّين في السجون السورية.

تواريخ سورية
الانتخابات التشريعية في سوريا 1947

هي خامس انتخابات تشريعية تجري في تاريخ سوريا الحديث، والأولى بعد الجلاء، كما أنها أول انتخابات تنظم بطريقة الاقتراع المباشر أو الدرجة الواحدة. تمت في 7 تموز 1947، وتمت جولة الإعادة منها في بعض الدوائر الانتخابية في 18 تموز. تم خلالها التنافس على 136 مقعد في المجلس النيابي السوري، تراجع بها حزب الرئيس شكري القوتلي وحصل فقط على 24 مقعد وهو الحزب الوطني؛ منذ هذه الانتخابات وحتى نهاية الحكم الديمقراطي في سوريا بانقلاب الثامن من آذار عام 1963، لم يحصل أي حزب على أغلبية مقاعد مجلس النواب، وهو ما ساهم في جعل الحكومات ائتلافيّة أو حزبية مطعمة بمستقلين.
النتائج: عدد المقاعد الإجمالي=136
الحزب الوطني= 24. حزب الشعب= 20. مستقلين متحالفين مع حزب الشعب= 33. مستقلين= 59.








زوروا صفحتنا على الفايسبوك للاطلاع و الاقتراحات على الرابط التالي
http://www.facebook.com/1509678585952833- /الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي
موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت:
www.scppb.org

موقع الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي على (الحوار المتمدن):
www.ahewar.org/m.asp?i=9135
















https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن