انتبه فجوة (Mind the gap!)

أكرم شلغين
saidabugannam@yahoo.com

2017 / 7 / 31

قبيل العصر ختم سليم تسكّعه في الشوارع والمحال التجارية ونزل الدرج المؤدي لإحدى محطات قطار الأنفاق في لندن وتوقف على الرّصيف محدّقاً في عيون الناس والأفكار السريعة تتقاذف رأسه بين من يريد أن يظفر بابتسامة من عيون الذين يراهم من حوله، فهم يوزعون الابتسامات بمناسبة أو بدونها، وبين من يريد، لسبب أو لآخر، أن يقارن نفسه بأي منهم. أخذ يسترسل في سرّه أكثر:
ــ يبتسمون ولكن قلوبهم لا تبتسم مثل وجوههم وإلا لشعرت أنني واحدٌ منهم فقد جئت هذا البلد قبل عقودٍ، عشتُ غريباً وسأبقى غريباً كما يبدو لي...! كلّهم لديهم وظائف وهناك ما يعملون به إلا أنا، وجميعهم يعيشون الحياة التي تليق بالبشر إلا أنا، لا أعمل وأعيش بدون زوجة أو حبيبة أو حتى صديقةٍ عاديّة...! هذا موظف في مصرف كما يبدو من قبعته وربطة عنقه كان ينزل الدّرج مسرعاً لعلّهُ يريدُ أن يصل بسرعةٍ إذ لا بدَّ وأنّ هناك من تنتظره في البيت على نار وهو يسرع للقائها، وذاك يقرأ في جريدة لأنه لن يجد الوقت الكافي في البيت إذ أن هناك من ستملأ وقته فور وصوله، وتلك المرأة فرحةٌ لأنّها ستكون بين أحضان من تحب، وتلك، يا لها من...! كم هو محظوظ من يرى تلك الغزالة في وجهه! أما أنا فسأذهب إلى مكاني الوضيع، أدير التلفاز وبعد قليلٍ أنامُ! لقد خرّبتُ حياتي بنفسي؛ كنت جاهلاً حينما أتت تلك التافهة لبلدي، لم تكن أجمل وجهاً من أيٍّ من الفتيات اللواتي كنَّ يتمنين الزواج مني في تلك الفترة ولكنّني أردت أجنبية لأنني ظننتها أفضل من بنت البلد، كنت أعمى ولم أفكر أنها تكبرني بعدة سنوات، كنت أحمق عندما تركت بلدي في سبيل أن أكون معها! كيف لم أفكر بأن لا أمان منها أو معها؟
جاء القطار وتوقف وسمع من مكبّرات الصوت ما ينبه للحذر من الفجوة بين الرصيف وبين عتبة النزول أو الصعود للقطار (Mind the gap!) صعد إلى العربة المقابلة ورأى عدة أماكن شاغرة فجلس في واحد منها. على الجهة المقابلة جلس عدة ركّابٍ معظمهم كانوا يقرؤون الجرائد أو الكتب وفي الوسط كانت تجلس فتاة لا تتجاوز السابعة عشر من العمر بيدها كتاب. نظر سليم إليها وراح يتأملها ويراقبها وهي منسجمة في قراءتها، تمعّن في شعرها الأشقر الناعم، جبينها الجميل بشرتها الصّافية...قال لنفسه: "ما أجملها!" ثم راح يتأمل شكل جسمها وكيف يبدو بـالبنطال الأسود الضّيّق وكيف تجلس خفيفةً أنيقة جميلة، كرّر في نفسه: "ما أجملها! رباه لماذا حرمتني من مثل هذه الفتاة في حياتي؟ لماذا رأيت فقط تلك الشمطاء التي كرهتني فور انتهاء عقد عملي وعدم رغبة الشركة المشغِّلة في تجديده؟ فجأة رفعت الفتاة عينيها عن الكتاب فرأته ينظر إليها والتقت عيناهما ابتسمت الفتاة ثم عادت إلى القراءة، شعر بالارتياح وقال لنفسه: هذه أوربية تفهم الحياة وليست مثل تلك العربية التي كرهت نفسي بسببها، لقد كانت وقحة حين نظرت إليها وهي جالسة فوقفت وقالت: "عمو اتفضل قعود محلي!" كانت هي المرة الأولى التي أشعر بها أنني كبرت في السن، أما هذه الفتاة فهي تبتسم، إنها راقية. من جديد رفعت الفتاة عينيها عن الكتاب ونظرت إليه نظرةً عابرة ثم عادت لقراءتها. شعر بالانتشاء وكرّر في سرّه: "ما أجملها! ربّاه لماذا حرمتني منها ومن أمثالها؟" راح يفكّر لو أنه يستطيع أن يختلي بها ويشبع من الابتسامة الجميلة التي علت وجهها حين نظرت إليه! لو أنه يستطيع فعل أي شيء ليتمتع بأكثر من مجرد ابتسامة، لكنّها صغيرة وأنا أكبرها بعقود وليس بسنواتٍ فقط! فكر في نفسه. لو أنني أٍستطيع أن أختفي ولا يراني أحد عندها أستطيع أن أتسلل إلى حيث تكون فأكون وحيث تعيش فأعيش وأراقبها في كل شيء فأكون معها في سرّها وفي خلوتها بنفسها، وحين تستحمّ أستحمّ معها ونستحمّ ببعضنا دون أن تراني، ولكنها رقيقة ولا تستحق أن يباغتها من لا تراه ولا تعرف من هو! لو تحصل معجزة لتكون لي ومعي! لو أني أستطيع أن أسترق خيطاً مما تلبسه ويستحسن شعرة من شعرها لآخذها إلى الشيخ المغربي الذي يسكن في أحد ضواحي لندن فيكتب لها الحجاب ويصنع سحره فتأتيني راكعةً كما أتت تلك الفتاة العربية إلى زيد! ولكن ربما لا يكون للسّحر مفعوله مع الأوربية كما مع الفتاة العربية! راح ينظر إلى الفتاة أكثر فأكثر ومخيّلته تعمل مرة على حملها بين يديه وأخرى على تعريتها. راح يفكر أكثر لو أنه يعرف السبيل إلى مكان عيشها أو دراستها وفي لحظة مواتية يضع بضعاً من محلول القطرات الاسبانية وهي ستهجم عليه وسيرتوي! لو أن معجزةً تخدمه كأن يكونا على متن سفينة تتحطم وتغرق بمن فيها ويكونا الناجيين الوحيدين ويساعدها ليسبحا إلى جزيرة ليس بها من مخلوق سواهما. تابع يحدث نفسه "لن أفعل شيئاً في البداية وسأتركها تعيش بالقرب مني دون أن أشعرها أنني أفكر بأي شيء مما يدور في رأسي، ولكنها كشابة صغيرة ستتحرك غريزتها وتقترب مني وسنفعل كل شيء. لو أنني أنفرد معها في أي مكان! لو أن زلزالا يضرب المنطقة ويموت الجميع ونكون هي وأنا بمأمن بعيداً عن كل شيء عندها ستلتصق بي طلباً للأنس! لو أن حرباً نووية تنشب ويموت الجميع عدانا...ما أجملها! قال لنفسه من جديد. رفعت الفتاة عينيها عن القراءة من جديد ولاحظت أنه يراقبها فلم تكترث له. تباطأ قطار الأنفاق وتوقف في المحطة التالية، نهضت الفتاة من مكانها وهي تغلق كتابها واضعةً العلامة التي تشير لمكان وصولها بالقراءة ومشت باتجاه باب لقطار لتهمّ بالنزول تراقبها عينا سليم متمنياً أن يتبعها قبل أن تنزل وتغيب وسط الجموع من الصاعدين والنازلين. من جديد انطلق الصوت المسجّل محذّراً الرّكّاب بأن ينتبهوا للفجوة. (Mind the gap!)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن