أسئلة الواقع وردود السماء

طلعت رضوان
talatradwan@yahoo.com

2017 / 6 / 29


يتجاهل الإسلاميون والعروبين العلاقة الوطيدة بين النص الدينى ومجتمعه، خاصة وأنّ تلك العلاقة تــُــنتج سؤالا غاية الأهمية: من أنتج الآخر؟ النص أنتج مجتمعه، أم أنّ المجتمع هو الذى أنتج النص؟ ولعلّ أدق دليل على ذلك التمعن فى (باب أسباب نزول القرآن) حيث الآيات العديدة التى تبدأ ب (يسألونك) مثل ((يسألونك ماذا ينفقون)) و((يسألونك عن الشهرالحرام)) و((يسألونك عن الخمر..إلخ)) و((يسألونك عن اليتامى)) إلخ، بل إنّ الأمروصل لدرجة السؤال عن المحيض (البقرة/215، 217، 219، 222) لذلك كان الراحل الجليل خليل عبدالكريم ثاقب النظرعندما كتب عن ظاهرة كثرة الآيات التى تبدأ بالسؤال، وأنّ هذا دليل على أنّ العرب ((لا يـُـريدون أنْ يعملوا عقلهم ويشغلوا مخهم أويجتهدوا فى استكشاف حلول لمشكلاتهم وابتداع مفاتيح لمغاليق معضلاتهم، وإنما هم يرفلون إلى محمد لينوب عنهم فى كل ذلك وهذا مسلك القاصر، ونهج العاجز، وطريق البليد)) (النص المؤسس ومجتمعه– السفرالأول- دارالمحروسة- عام2002- ص261، 262) ولذلك كان فى كل كتبه يعقد المقارنة بين المجتمع الرعوى/ الصحراوى، والمجتمع النهرى/ الزراعى. وبالتالى يطرح هذا السؤال: هل الأسئلة التى طرحها العرب على محمد (وهى شديدة البساطة والبداهة) كان من الممكن أنْ يطرحها المصريون على حكمائهم؟ أم أنهم توصلوا إلى إجاباتها بخبرتهم، فكتب ((يـُـشكــّـل الزرع والحصاد والرى وجمع المحصول والبناء والتشييد والإعمارعناصر ومقوّمات شخصية المصرى القديم، ومن ثـمّ ترك حضارة باذخة لاضروب لها حتى الآن. فى حين خلــّـف العرب الأجلاف قصصـًـا أليمة عن شن الغارات ونوازل وفواجع عن القتل والاغتيال وروايات دامية عن أسرالرجال وسبى النسوة والفتيات لبيعهنّ فى أسواق الرقيق (النخاسة) إماءً وجوارى، أو لاتخاذهنّ محظيات وسرارى)) (المصدر السابق– ص 80)
كما أنّ كتب تفسيرالقرآن وكتب أسباب النزول، توضح الكثيرمن العادات التى كانت منتشرة لدى العرب (قبل الإسلام) ويرغبون فى معرفة هل يستمرون عليها أم لا؟ والمثال الأشهرفى ذلك هوما نصـّـتْ عليه آية ((نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنىّ شئتم)) (البقرة/223) وجاء فى تفسيرالجلاليْن لهذه الآية ((نساؤكم حرث لكم، أى محل زرعكم (الولد) فاتوا حرثكم أى محله وهوالقبل (أى) كيف شئتم من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار. ونزلتْ هذه الآية ردًا على قول اليهود: من أتى امرأته فى قبلها من جهة دبرها جاء الولد أحول)) (مطبعة الشمرلى- بتصريح من مشيخة الأزهربرقم330- بتاريخ15/7/1979) أما فى أسباب النزول للسيوطى فجاء ((أخرج البخارى عن ابن عمرقال: نزلتْ هذه الآية فى إتيان النساء فى أدبارهنّ. وأخرج الطبرانى فى الأوسط بسند جيد عنه قال: إنما نزلتْ على الرسول رخصة فى إتيان الدبر))
وعن أسباب نزول الآية 24من سورة النساء (والمحصنات من النساء إلاّما ملكت أيمانكم) رواه مسلم وأبوداود والترمذى والنسائى عن أبى سعيد الخدرى قال: أصبنا سبايا من سبى أوطاس لهنّ أزواج، فكرهنا أنْ نقع عليهنّ ولهنّ أزواج. فسألنا النبى فنزلتْ الآية. وأنّ (ما ملكتْ أيمانكم) أى ((ما فاء الله عليكم)) فاستحللنا بها فروجهنّ. وأخرج الطبرانى عن ابن عباس قال: نزلتْ هذه الآية يوم حنين لما فتح الله حنينــًـا أصاب المسلمون نساء أهل الكتاب لهنّ أزواج. وكان الرجل إذا أراد أنْ يأتى المرأة قالت: إنّ لى زوجـًـا. فسئل الرسول عن ذلك فنزلتْ الآية)) والمعنى المُـستخلص من تلك الآية وتفسيرها أنّ الرسول منح أتباعه رخصة مباشرة السبايا اللائى وقعنَ فى الأسر، رغم أنهنّ متزوجات. وهونفس التفسيرالذى كتبه الجلالان (جلال الدين المحلى وجلال الدين السيوطى فى تفسيرهما لسورة النساء (المصدر السابق)
وعن أسباب نزول آية ((لايستوى القاعدون..إلخ)) (النساء/95) روى البخارى عن البراء قال: لما زلتْ هذه الآية قال النبى ادع فلانــًـا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب ((لايستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله)) وكان (ابن مكتوم) يجلس خلف الرسول. فقال: يا رسول الله أنا ضرير. فنزلتْ مكانها ((لايستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر)) وهكذا يتبيـّـن أنّ (الواقع) كان يفرض نفسه على النص بالاضافة أوبالتعديل. لذلك– كما كتب خليل عبد الكريم عن ظاهرة الناسخ والمنسوخ أنه من بين 114 سورة توجد 71سورة بها نسخ أى ما يقرب من ثلثيها منها 25 سورة فيها ناسخ ومنسوخ و6منها تحتوى على ناسخ والأربعين الباقية تضم المنسوخ فقط (مصدرسابق- ص38)
وعن أسباب نزول آية ((يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى..إلخ)) (الأنفال/70) روى الطبرانى فى (الأوسط) عن ابن عباس قال: فىّ والله نزلتْ حين أخبرتُ رسول الله بإسلامى وسألته أنْ يحاسبنى بالعشرين أوقية التى وُجت معى، فأعطانى بها عشرين عبدًا)) ومعنى ذلك أنّ (السماء) كانت تـُـتابع الأحداث الجارية على الأرض. وهوما يؤكد أنّ النصوص لم تكن (سابقة التجهيز) قبل حدوث الواقعة المادية، وإنما كان النص يلى الواقعة.
وعن أسباب نزول آية ((ومنهم من يقول إئذن لى ولاتفتنى)) (التوبة/49) أخرج الطبرانى وأبونعيم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد النبى أنْ يخرج إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: يا جد بن قيس، ما تقول فى مجاهدة بنى الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إنى امرؤصاحب نساء، ومتى أرى نساء بنى الأصفرأفتن. فأذن لى (ولاتفتنى) فأنزل الله الآية. وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه من حديث جابربن عبدالله مثله. وأخرج الطبرانى من وجه آخرعن ابن عباس أنّ النبى قال: اغزوا تغنموا بنات الأصفر. فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء فأنزل الله الآية.
وعن أسباب نزول آية ((منهم من عاهد الله لئنْ أتانا من فضله لنصدقنّ..إلخ)) (التوبة75) وأخرج الطبرانى وابن مردويه وآخرين أنّ ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله ادع الله أنْ يرزقنى مالا. قال ويحك يا ثعلبة...قال ثعلبة: والله لئنْ أتانى مالا لأوتينّ كل ذى حق حقه. فدعا له. ثم أنزل الله على رسوله ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)) (التوبة/ 103) فقال الرسول: ((ما هذه إلاّ أخت الجزية))
ولأنّ القرآن كان يـُـتابع الأحداث الجارية على أرض الواقع، لذلك كان يـُـسارع بتقنين ما يـُـثارمن أسئلة، من ذلك ما حدث عندما كان أبوطالب على وشك الوفاة، ودخل عليه الرسول وكان عنده (أبوجهل) وعبدالله بن أبى أمية. قال الرسول لأبى طالب: يا عم قل لا إله إلاّ الله أحاجج لك بها عند الله. فقال أبوجهل وعبدالله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فقال على ملة عبدالمطلب (وكان هذا آخرما نطق به) فقال النبى: لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك (ضمة على همزة الألف) فنزلتْ آية ((ما كان للنبى والذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركين ولوكانوا أولى قربى من بعد ما تبيـّـن لهم أنهم أصحاب الجحيم)) (التوبة/113) وأنزل (الله) فى أبى طالب ((إنك لاتهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء)) (القصص/56) وظاهرمن هذا أنّ تلك الآية نزلتْ بمكة. وأخرج الترمذى وحسـّـنه الحاكم عن على بن أبى طالب قال: سمعتُ رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفرلأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفرإبراهيم لأبيه وهو مشرك. فذكرتُ ذلك للرسول...ولما سمعتْ السماء ذلك الحوارنزلت آية ((وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّعن موعدة وعدها إياه فلما تبيـّـن له أنه عدولله تبرّأ منه إبراهيم)) (التوبة/114)
وتواصل كتب التراث العربى/ الإسلامى سرد باقى تفاصيل مسألة الاستغفار(للمشركين) حيث ذكرالحاكم والبيهقى فى (الدلائل) وغيرهما عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبرمنها فناجاه طويلا ثم بكى وقال إنّ القبرالذى جلستُ عنده قبرأمى. وإنى استأذنتُ ربى فى الدعاء لهما فلم يأذن لى، فأنزل الله الآية رقم 113من سورة التوبة. وأخرج أحمد وابن مردويه من حديث بريده قال: كنتُ مع النبى حيث وقف على (عسفان) فأبصرقبر أمه فتوضأ وصلى وبكى ثم قال: إنى استأذنتُ ربى أنْ أستغفرلها فنـُـهيت وأنزل الله ((ما كان للنبى..إلخ)) وأخرج الطبرانى وابن مردويه نحوه من حديث ابن عباس. وأنّ ذلك حدث بعد أنْ رجع النبى من تبوك وسافرإلى مكة معتمرًا، فهبط عند (ثنية عسفان) وقال الحافظ بن حجر: يـُـحتمل أنْ يكون لنزول الآية سببان: أحدهما أمرأبى طالب (عمه) والثانى أمرآمنه (أمه)
ومن بين الأدلة الكثيرة على أنّ القرآن كان يـُـتابع الأحداث الجارية على أرض الواقع، ما رواه الترمذى والنسائى والحاكم وغيرهم عن ابن عباس، بخصوص أسباب نزول آية ((ولقد علمنا المُـستقدمين منكم ولقد علمنا المُـستأخرين)) (الحجر/24) فقال ابن عباس: كانت امرأة تصلى خلف رسول الله..وكانت حسناء ومن أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون فى الصف الأول. ويستأخربعضهم حتى يكون فى الصف المؤخر، فإذا ركع نظرمن تحت إبطيه، فأنزل الله الآية المذكورة.
ومن بين الأدلة الكثيرة جدًا جدًا ما ذكره عمربن الخطاب الذى قال: وافقنى ربى فى ثلاث (وفى بعض الروايات كما ذكرأنس بن مالك فى أربع) وعند آخرين مثل ابن جريروابن المنذر وابن حاتم وآخرين أنّ ربه وافقه فى آية خامسة (أسباب النزول– الواحدى النيسابورى- نقلا عن خليل عبدالكريم- مصدرسابق- من ص224- 227)
وأعتقد أنّ الجدل الذى داربين رسول الله ووحشى (قاتل حمزه بن عبدالمطلب) أحد الأدلة الدامغة على استجابة (السماء) لمعطيات أرض الواقع. وهذا الجدل رواه كثيرون عن ابن عباس الذى قال: أتى وحشى إلى النبى وقال: يا محمد أتيتك مستجيرًا فأجرنى حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله: قد كنتُ أحب أنْ أراك على غيرجوار. فأما إذْ أتيتنى مستجيرًا فأنت فى جوارى حتى تسمع كلام الله. قال: فإنى أشركتُ بالله وقتلتُ النفس التى حرم الله تعالى وزنيتُ، فهل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله حتى نزلت آية ((والذين لايدعون مع الله إلهـًـا آخرولايقتلون النفس التى حرم الله إلاّبالحق ولايزنون)) (الفرقان/68) فتلاها عليه فقال: أرى شرطــًـا، فلعلى لا أعمل صالحـًـا. أنا فى جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلتْ آية ((إنّ الله لايغفرأنْ يـُـشرك به ويغفرما دون ذلك لمن يشاء)) (النساء/48) وأنّ النبى طلب استدعاء وحشى ليتلوعليه الآية. وبعد أنْ سمعها قال: لعلى من لايشاء (أى أنّ الآية لاتنطبق عليه إذا كان الله لم يشأ أنْ يغفرله) ثم أضاف وحشى: وأنا فى جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلتْ آية ((قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفرالذنوب جميعـًـا)) (الزمر/53) فقال وحشى: نعم الآن لا أرى شرطــًـا فأسلم. وأرجومن القارىء ملاحظة أنّ تفاصيل اللقاء بين محمد ووحشى استغرق فترة زمنية دارفيها الجدل بين الطرفيْن. ورغم أنّ هذا الجدل دارحول شىء واحد، فإنّ القرآن عالجه فى ثلاث سورمختلفة (الفرقان والنساء والزمر)
فلماذا غفر(الله) لوحشى الذى قتل حمزة بن عبدالمطلب، ولم يغفرلعم الرسول ولا لأمه؟ ومعروف– كما روتْ كتب السيرة النبوية أنّ النبى أقسم بعد وفاة حمزة، أنه لوواتته الفرصة ليمثلنّ بسبعين من المشركين، وذلك تأثرًا مما حدث من التمثيل بجثة حمزة. وكان وحشى قتل حمزة بعد أنْ وعدته هند بالحرية ثأرًا لمقتل أبيها عتبة فى وقعة بدرالكبرى. انتهزوحشى فرصة انهماك حمزة فى القتال ورماه بحربته من خلف. ولما تأكــّـد من موته انصرف وتوجه لسيدته، فلما تيقنتْ من حقيقة الأمرطغى عليها السرور، فأعطته حليها ثم أقبلتْ على جسد حمزة وبقرتْ بطنه واستخرجت كبده ولاكتها، ولكنها لم تستسغ طعم كبد حمزة فلفظتها. وروى البعض أنّ النبى قال لوابتلعتها لدخلتْ الجنة. كما أنه من المستحيل أنْ تصطلى كبد حمزة بالنارمع أم معاوية، فى حين أنّ سائرجسد حمزة يحظى بالنعيم فى الجنة.
وأعتقد أن تفسيرخليل عبدالكريم لموقف السماء والنبى من وحشى ومنحه (المغفرة) بعد أنْ قتل (أسد الله) حمزة، غاية فى الأهمية، فكتب عن بـُـعد نظرالنبى وفراسته العميقة فى استخدام وحشى فى حروبه، نظرًا لما تمتع به وحشى من قدرة قتالية عالية. وبالتالى سيكون شديد النفع فى الغزوات لنشرالإسلام وتوسيع رقعة جزيرة العرب. ولقد صدقتْ فراسة النبى. فبعد وفاة النبى قتل وحشى (مسيلمة الكذاب) رأس وقائد ثورة بنى حنيفة باليمامة. ومن أقوال وحشى الشهيرة: قتلتُ خيرالناس (يعنى حمزة) وشرالناس (يعنى مسيلمة) (مصدرسابق- ص264، 265)
ولذلك أرى أهمية كتب تفسيرالقرآن وكتب أسباب النزول، لأنها تؤكد على العلاقة العضوية بين النص الدينى والواقع، وأنّ الواقع سابق على النص فى كثيرمن الآيات، وهوالمعنى الذى رآه عميد الثقافة المصرية (طه حسين) فى كتابه (مرآة الإسلام) وأرجومن القارىء أنْ يتأمل دلالة هذا العنوان.
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن